Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لعبة الـ"بينغ بونغ" التي اخترقت الجدار الأميركي ـ الصيني

العراب كيسنجر ودوره المستعاد على الطريق بين واشنطن وبكين ومن زمن نيكسون إلى عهد بايدن

كيسنجر وشو إن لاي واللقاء حول طبق واحد (أ ب)

ملخص

العراب كيسنجر ودوره المستعاد على الطريق بين واشنطن وبكين ومن زمن نيكسون إلى عهد بايدن

في الفترة من 28 مارس (آذار) إلى 7 أبريل (نيسان) عام 1971، وأثناء بطولة العالم الحادية والثلاثين لكرة الطاولة "بينغ بونغ"، التي أقيمت في مدينة ناغاويا باليابان، استقل اللاعب الأميركي غلن كوهين سيارة الفريق الصيني بعد انتهاء التدريب في اليوم الثاني للبطولة، بعدما بادر اللاعب الصيني تشوانغ تسه دونغ، بمصافحة كوهين، وقدم له هدية في لفتة أثارت انتباه وسائل الإعلام الدولية.

أبعد من ذلك، وخلال البطولة، عبر الفريق الأميركي عن رغبته في زيارة الصين بعد انتهاء البطولة، وفي السادس من أبريل، وبعد موافقة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وجه منتخب كرة الطاولة الصيني دعوة إلى المنتخب الأميركي لكرة الطاولة.

في الرابع عشر من أبريل استقبل رئيس وزراء الصين العتيد شو إن لاي الفريق الأميركي في قاعة الشعب الكبرى ببكين، ووجه الرجل حديثه للفريق الأميركي قائلا: "أنتم تفتحون باباً جديداً للعلاقات بين شعبي الدولتين، إنني على ثقة من أن غالبية شعبي الدولتين يدعمون صداقتنا".

هل كان السيناريو المتقدم عشوائياً؟

يصعب على المرء أن يتقبل ذلك، لا سيما أن الأحداث كانت تجري في الوسط من الحرب الباردة المحتدمة بين حلفي وارسو والأطلسي، والخبرة التاريخية تقطع بأن عقلية ما كانت وراء الحدث.

مهما يكن من أمر جواب التساؤل المتقدم، فإن دبلوماسية جديدة، سوف تعرف لاحقاً، بدبلوماسية الـ"بينغ بونغ" انطلقت من عند ذلك الحدث، ذلك أنه بعد ساعات قليلة من استقبال شو إن لاي للفريق الأميركي، كان الرئيس ريتشارد نيكسون، يتخذ عدة إجراءات لتخفيف الحظر الأميركي المفروض على الصين، فاتحاً بذلك باباً لمسيرة جديدة بين بكين وواشنطن، بعد 22 سنة من القطيعة.

بعد أقل من شهر من هذا الحدث المفصلي، كان وزير الخارجية الأميركي العتيد، هنري كيسنجر، يقوم بزيارة سرية لبكين وبعدها بنحو ستة أشهر، وتحديداً في فبراير (شباط) 1972، كان كيسنجر يلبي دعوة رسمية من شو إن لاي لزيارة علنية للصين، حيث سيصدر تالياً ما سيعرف بـ "إعلان شنغهاي"، لتنطلق مسيرة تطبيع جديدة في العلاقات.

هل يعيد التاريخ ذاته، بعد زيارة كيسنجر الأيام القليلة الفائتة للصين؟

كيسنجر العراب وتكرار التاريخ لذاته

اتخذ مسار العلاقات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، سنوات طوالاً، حتى يتكلل الأمر بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين واشنطن وبكين، وقد كان ذلك في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1978، وتم تبادل السفراء بعد طول قطيعة في الأول من يناير (كانون الثاني) من عام 1979.

هل لعب هنري كيسنجر في العلن والخفاء دوراً في إعادة الدفء للعلاقات الأميركية - الصينية، قبل نحو خمسة عقود؟

مؤكد أن الأمر مضى بالفعل على ذلك النحو، وهي قصة تاريخية طويلة.

غير أن التساؤل المثير المطروح شرقاً وغرباً بعد زيارة كيسنجر الأخيرة للصين: هل سينجح الرجل ذو المئة عام في إعادة كتابة التاريخ مرة جديدة بين القطبين الكبيرين، القائم والقادم؟

عند كارل ماركس، التاريخ لا يعيد نفسه مرتين ذلك أنه لو فعل لكان في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة.

غير أن الكاتب الأميركي الكبير، مارك توين، يقطع بأنه على رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أن أحداثه تتشابه.

لم يعد سراً أن الدبلوماسية الأميركية، بقيادة الوزير أنتوني بلينكن، قد أخفقت في إعادة مسار العلاقات بين بكين وواشنطن إلى مسار أكثر أماناً، لا سيما أن "فخ ثيوسيديديس" يكاد يفغر فاه، في انتظار وقوع الدولتين الكبيرتين في هوة الحرب المتوقعة.

حاولت إدارة بايدن أن تفتح المجال لوزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، عسى أن تعوض بعضاً من فشل بلينكن، ولم يقدر لها النجاح بدورها، وبدا أن الأمل الأخير للأميركيين يتمثل في كيسنجر مرة جديدة.

في كتابه الذي يتناول شؤون وشجون الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط، خلال أزمة حرب العام 1967، وصف الدبلوماسي والمفكر الأميركي الشهير، مارتن أنديك بأنه "سيد اللعبة".

تبدو اللحظة أميركياً كذلك في حاجة ماسة لكيسنجر مرة جديدة، لاستنقاذ المشهد الأميركي – الصيني، لا سيما أن واشنطن لديها ما يكفيها من جرح غائر مفتوح، على الجبهة الآسيوية والمتمثل في الصراع الروسي – الأوكراني، هذا الذي يخشى معه أن يتحول الأمر إلى صراع نووي لا يبقي ولا يذر.

أخيراً كتب المحلل السياسي الأميركي الشهير أندرو براون يقول: "إن الحاجة بين بكين وواشنطن تزداد يوماً بعد يوم إلى دبلوماسية مشابهة لما جرت به المقادير في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وإلى كيسنجر ربما مرة جديدة".

لكن الواقع يوضح لنا أن هناك فارقاً تاريخياً، يجعل مطابقة الحدثين أمراً صعب الحدوث، وعند براون أن دبلوماسية "كرة الطاولة"، ربما لن تنجح في كسر الجمود في هذه الأيام، ليس لأن الظروف الغريبة لحقبة سبعينيات القرن الماضي لا يمكن أن تتكرر، ولكن بسبب الحقيقة التي مفادها أن القواعد التي تقوم عليها العلاقات الثنائية الأكثر أهمية في العالم قد تغيرت.

في هذا السياق وقبل الخوض في الرؤية التحليلة لزيارة كيسنجر الأخيرة للصين، وتقييم نجاحاتها أو فشلها، ربما ينبغي علينا الغوص عميقاً في رؤية كيسنجر للصين، والعلاقة الواجب أن تجمعها مع الولايات المتحدة.

أميركا والصين ركيزتا النظام العالمي

من المبررات التي تجعل كيسنجر المئوي، إن جاز التعبير، محبوباً ومرغوباً من الطرفين، الأميركي والصيني، هو رؤيته التي تتجاوز الحدية أولاً، ما بين أبيض وأسود، فهو يؤمن بأن التاريخ به مئات الصفحات ذات الألوان الرمادية، وهي رؤية تنسج كثيراً جداً مع الطروحات والشروحات الكونفوشيوسية، التي ترى الكون، كياناً أنطولوجياً واحداً، يمكن أن تتحرك فيه التناقضات، لكن من غير حتمية تاريخية تقود للصراع النهائي، كما يذهب التحليل الأرسطي عن الظاهرة وخارج الظاهرة.

في مؤلفه الشيق والشاق معاً، المعنون: "النظام العالمي/ تأملات حول طلائع الأمم مسار التاريخ"، يصف كيسنجر الولايات المتحدة والصين، بأنهما ركيزتان لا يمكن الاستغناء عنهما لأي نظام عالمي. وعنده أنه من اللافت أنهما كلتيهما، اتخذتا تاريخياً موقفاً ملتبساً إزاء النظام العالمي الذي تلوذان به في الوقت الحاضر، مؤكدتين التزامهما إياه حتى وهما تتحفظان حول جوانب من تصميمه.

يرى كيسنجر أن الصين لا تتمتع بأي سوابق بشأن الدور الذي يطلب منها أن تضطلع به في نظام القرن الواحد والعشرين، بوصفها دولة رئيسية بين دول أخرى.

ويذهب في الوقت ذاته إلى أن الولايات المتحدة، لم يسبق لها أن خاضت تجربة التفاعل على قاعدة مستدامة مع بلد متوفر على قدر مشابه من الحجم، النفوذ، والأداء الاقتصادي يتبنى أنموذج نظام داخلي، نظام حكم محلي، مختلفاً اختلافاً صارخاً.

يتجلى كيسنجر المفكر الكبير والعميق، الرجل الباحث في حياة بسمارك عملاق ألمانيا، والذي منه يستقي الكثير جداً من أفكاره، وهذا ما يميزه حكماً عن بقية أركان الخارجية الأميركية عبر العقود الخمسة المنصرمة.

يقطع كيسنجر بأن الصين والولايات المتحدة لم يتشاركا عبر تاريخهما، مشاركة كاملة في أي جهاز دول لمنظومة دول سيادية إلا أخيراً.

ظلت الصين بحسب كيسنجر تعتقد أنها فريدة ومنكفئة إلى حد كبير على واقعها الخاص.

فيما أميركا أيضاً ترى نفسها فريدة – فكرة أميركا الاستثنائية – ولكن مع واجب أخلاقي يقضي بدعم قيمها في طول العالم وعرضه لأسباب تتجاوز علة وجود الدولة.

وضع كيسنجر يداه على مربط الفرس، كما يقال مبكراً، فقد اعتبر أن ثمة مجتمعين عظيمين وإن بثقافتين مختلفتين، ومبادئ متباينة باتا، كلاهما، مبادرين إلى إحداث تغييرات وتعديلات أو عمليات تكيف داخلية عميقة.

هنا يقودنا تحليل كيسنجر إلى ما إذا كان الأمر، بين الصين وأميركا، سيترجم إلى منافسة أم إلى صيغة شراكة جديدة، وهو ما سيحدد بصورة كبيرة توجهات نظام القرن الواحد والعشرين.

من يخشى زيارة كيسنجر للصين؟

لم يخل أي برنامج سياسي أميركي عميق ورصين، خلال الأسبوع الماضي من تساؤل عن مدى نجاح رحلة كيسنجر للصين، ولقائه مع الرئيس الصيني شين جينبينغ.

والمثير كذلك أن التساؤلات لم تتوقف عند الجانبين الأميركي والصيني، فقد كان الطرف الثالث الروسي، حاضراً بقوة وملاحظاً بتدقيق، الأمر الذي تجلى في التقرير الذي نشرته صحيفة "فزغلياد" الروسية وفيه أشارت إلى أن الدبلوماسية الأميركية لم تجد خياراً آخر – على ما يبدو – لكسر التحالف الصيني - الروسي سوى الاستعانة بدبلوماسي سابق "طاعن في السن".

هل هناك ما يخشاه الروس من نجاح زيارة كيسنجر للصين؟

قطعاً يدرك الروس أن أحد أهم أهداف زيارة كيسنجر للصين، فصل موسكو عن بكين، ووقف مساعي التواصل الروسي - الصيني، والذي وإن أدرك الجميع أنه تحالف براغماتي موقوت بأحداث بعينها غالب الأمر، إلا أنه وفي الوقت عينه يمكن أن يتسبب في عقبات وتحديات للنفوذ الأميركي، لا سيما في منطقة "الإندو باسيفيك"، حيث الصراع الدائر حول النفوذ الدولي بين بكين وواشنطن تحديداً.

يدرك الروس كيف أن العلاقات الأميركية - الصينية خلال العقود الأخيرة أصبحت عاملاً رئيساً في السياسة الدولية، وأن هناك احتمالات مفتوحة للتواصل بين الجانبين، وبما يحتمل اختصاماً مستقبلياً من وشائج الصلة بين موسكو وبكين.

يتابع الروس الإجراءات التي اتخذتها واشنطن، في سياق ترضية الصين وتهدئة خواطرها، ومن بينها التخلي عن إثارة قضية تايوان، وضمان إدماج جمهورية الصين الشعبية في النظام التجاري والمالي الغربي.

في الوقت عينه تعلم الدوائر الروسية أنه لم يكن بمقدور الاقتصاد الصيني الازدهار لولا السوق والتكنولوجيا الأميركية، وفي الوقت عينه فإن الصين تقدم دعماً مالياً هائلاً للولايات المتحدة الأميركية، وذلك من خلال شراء السندات.

هل قلقت موسكو بشكل أو بآخر من زيارة الدبلوماسي الذي وصفته بالعجوز؟

الجواب نجده عند المحللة السياسية الروسية المعروفة لينا سوبونينا، والتي ترى أن "واشنطن تسعى لتجنب التصعيد مع بكين، إدراكاً منها لحقيقة أن تدهور العلاقات مع الصين يهدد باندلاع صراع مسلح مستقبلاً".

سوبونينا، وكما العديد من الروس وربما الصينيين أيضاً، يدركون أنه قد يكون من المستحيل تحسن العلاقات، بين واشنطن وبكين بشكل إعجازي سحري، مرة واحدة، إلا أن هذا لا يمنع ولو نظرياً إمكانية الحد من تدهور المشهد، أو على الأقل تأجيل أوان الصراع الموعود لحين الانتهاء من الملف الروسي – الأوكراني.

والخلاصة عند الروس أنه وعلى العكس من قدرات وإمكانات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الشاب نسبياً، فإن كيسنجر يحظى بتقدير الصينيين، ولهذا فقد تكون هذه فرصة واشنطن الأخيرة.

هل نجحت زيارة كيسنجر هذه المرة؟

جينبينغ عن حكمة كيسنجر وشجاعة نيكسون

بحسب قناة CCTV الصينية التي تابعت لقاء كيسنجر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ، قال الأخير إن الصين والولايات المتحدة "على مفترق طرق، حيث يجب أن يذهب كلا البلدين بطريقه لأن المشهد الدولي يمر بتحولات كبيرة" ولكلا الجانبين الخيار.

في حديثه مع كيسنجر، بدت الراحة النفسية واضحة عند جينبينغ، والذي وصف كيسنجر بـ"الصديق القديم للصين"، وهو مصطلح دبلوماسي صيني مُنح لشخصيات أجنبية لها دور مهم في تنمية الصين.

لفت جينبينغ الانتباه إلى أن الصين لن تنسى مساهمة كيسنجر التاريخية في تطوير العلاقات الصينية - الأميركية وتعزيز الصداقة بين الشعبين.

بدت لغة جينبينغ ودية، لا خشبية، فقد خاطب رجل الصين الكبير، ضيفه الأميركي بالقول: "إن أميركا اليوم في حاجة إلى حكمتك وشجاعة نيكسون".

عطفاً على ذلك، أضاف الرئيس الصيني: "أنه بالنظر إلى المستقبل، يمكن لكلا البلدين (الصين وأميركا) أن يجعل الآخر أفضل وأكثر ازدهاراً معاً... المفتاح هو الالتزام بمبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المريح للجانبين".

أظهر جينبينغ الأساس الذي تتطلع الصين للعمل من خلاله مع الولايات المتحدة، وهو رغبة بكين في إيجاد الطريق الصحيح للتوافق بين البلدين، ودفع العلاقات المشتركة إلى الأمام بثبات.

ماذا عن كيسنجر؟

ربما مد ثعلب الدبلوماسية الأميركية العجوز لاستخراج الحل من بطون العلاقات والوثائق التاريخية التي جمعت الصين بالولايات المتحدة.

وفقاً للقناة الصينية المشار إليها سلفاً، قال كيسنجر "إنه نظراً للوضع الحالي، يجب أن تلتزم الولايات المتحدة الأميركية، بالمبادئ المنصوص عليها في بيان شنغهاي، وتفهم الأهمية القصوى التي تعلقها الصين على مبدأ الصين الواحدة"... ما الذي يحويه بيان شنغهاي هذا؟

يعرف كذلك ببيان 17 أغسطس (آب) 1979، ويؤكد رغبة كل من الطرفين الأميركي والصيني بتقوية الأواصر الاقتصادية، التعليمية، العلمية، التكنولوجية.

غير أن أهم جزئية في هذا البيان فتتعلق بأن الولايات المتحدة تقر – لكنها لا تعترف - بالموقف الصيني المتمثل في وجود صين واحدة وتايوان جزء من الصين.

هل خرج الدبلوماسي العجوز عن خطوط الطول والعرض التي وضعها المحافظون الجدد في رؤيتهم للقرن الأميركي، تلك التي تمت بلورتها عام 1997 في الوثيقة الشهيرة المعروفة اختصاراً PNAC، ولهذا جاء موقف البيت الأبيض مثيراً إلى حد غريب وعجيب؟

كيسنجر يثير غضباً في البيت الأبيض

يكاد المحلل لمشهد زيارة كيسنجر للصين أن يصاب بدهشة بالغة، من موقف البيت الأبيض من لقاءات ومقابلات كيسنجر في الصين، تلك التي لم تتوقف عند الرئيس الصيني فحسب.

التقى كيسنجر وزير الدفاع الصيني لي شانغو الذي يخضع لعقوبات أميركية، بصفته "مواطناً عادياً".

ووفقاً للقراءة الصينية، قال كيسنجر إنه كان في بكين "كصديق للصين"، وإنه "يجب على الولايات المتحدة والصين القضاء على سوء الفهم، والتعايش السلمي، وتجنب المواجهة".

كيسنجر أضاف كذلك، وفي رسالة واضحة وشفافة لإدارة بايدن، ولكافة الدوائر الرسمية والشعبية الأميركية أن "التاريخ والممارسة أثبتا أنه لا الولايات المتحدة ولا الصين تستطيعان معاملة الآخر كخصم".

يتساءل المرء: كيف تم استقبال كيسنجر في الصين على هذا النحو وبمثل تلك الحفاوة، في حين رفضت الحكومة الصينية ولا تزال الانخراط في الجهود الأميركية الساعية لتعزيز مستوى عال من الاتصالات العسكرية، ورفض بكين كذلك لعقد اجتماع بين وزير دفاعها لي شانغو والوزير الأميركي لويد أوستن في منتدى شانغريلا الأمني، في وقت سابق من هذا العام، على رغم أن المسؤولين تحدثا لفترة وجيزة خلال القمة في سنغافورة؟

تعليق البيت الأبيض على الزيارة جاء غريباً جداً ولا يتسق مع مكانة كيسنجر، فقد عبر البيت الأبيض عن أسفه لأن الدبلوماسي الكبير السابق، تم استقباله بجماهيرية أكبر مما يحظى به بعض المسؤولين الأميركيين الحاليين.

الأكثر غرابة القول بأن "البيت الأبيض علم بالرحلة لكنها زيارة خاصة قام بها مواطن أميركي".

يبدو الحديث ركيكاً جداً، وخارج سياقات الفهم الدبلوماسي، وينتقص من شأن كيسنجر، بل يساويه بأي عميل استخباراتي يتم ارساله للقيام بعملية خاصة في دولة معادية ويتم تلقينه بأنه حال أخفق فإن دولته ستتخلى عنه، بل ستعلن عدم معرفتها بنشاطه، وما كان يقوم به.

تبدى الموقف الأميركي في تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، والذي قال: "من المؤسف أن يتمكن مواطن عادي من لقاء وزير الدفاع الصيني وإجراء اتصال ولا تستطيع الولايات المتحدة ذلك".

كيربي أضاف: "هذا شيء نريد حله، هذا هو السبب في أننا نواصل محاولة إعادة فتح خطوط الاتصال العسكرية لأنها حين لا تكون مفتوحة ونمر بوقت مثل هذا تكون فيه التوترات عالية وسوء التقديرات عالية أيضاً ترتفع عندها الأخطار".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الرهان على الزمن لمعالجة الأزمات الدولية

تبدو ملامح ومعالم زيارة كيسنجر للصين غامضة، وما جرى في حقيقة الأمر، سيظل سراً بين الصينيين وبين كيسنجر، ونحن لا نقطع بما إذا كان البيت الأبيض وعن حق يبدي غضبه نتيجة لخروج كيسنجر عن السياقات التي كانت مرسومة له، أم أن المشهد برمته لم يكن سوى توزيع أدوار بين الأطراف الثلاثة.

لكن وفي كل الأحوال يمكننا القطع بأن السياقات التاريخية التي جرت فيها رحلة كيسنجر هذه المرة، تختلف اختلافاً جذرياً عن زمن دبلوماسية الـ"بينغ بونغ".

كان التناقض الرئيسي قبل خمسة عقود مع الاتحاد السوفياتي نفسه، ولهذا ربما كانت مهمة كيسنجر في اللعب على المتناقضات وقتها يسيرة بصورة أو بأخرى.

غير أنه هذه المرة، فإن إدارة بايدن، ومن قبلها إدارة ترامب أيضاً، بل أن عموم أميركا الشعبية والمؤسساتية الحكومية، ترى في الصين العدو الرئيس الواجب تحييده، عطفاً على فصل تحالفه مع روسيا.

أخيراً، ينبغي خيراالتوقف عند التفكير الحكومي الصيني، والتساؤل هل كان للصينيين أن يتخذوا قرارات حاسمة وحازمة تجاه أميركا في هذا التوقيت الذي يستبق واحدة من أهم وأخطر الانتخابات الرئاسية في الخمسين سنة الماضية؟

يبدو الصينيون غير واثقين من مسارات الأحداث في الداخل الأميركي، ولهذا فضلوا أن تكون خطوطهم التي عرضوها على كيسنجر عريضة وواسعة، كما القول بالعودة إلى بيان شنغهاي، وأن يتركوا للزمن معالجة بقية القضايا.

أليس هذا هو تفكير كيسنجر عينه، ورهاناته على الزمن كأفضل مداو لجراحات الأمم والشعوب؟

مهما يكن من أمر، فإن كيسنجر وفي كل الأحوال يبدو الرجل اللغز، الملفوف في أحجية، ضمن سر كبير في الحال والاستقبال.

المزيد من تقارير