ملخص
تؤكد احتفالات موسكو إصرارها وحلفائها على عدم تحريف الماضي بينما تراها أوكرانيا "ازدراء تجاه شعبها"
احتفالات "عيد النصر" هذا العام في موسكو ذات مذاق خاص يختلف عما عداها في العام الماضي والذي قبله من فعاليات كان عمادها ما نجح الرئيس فلاديمير بوتين في حشده من أنصار ومؤيديين إلى جواره في الميدان الأحمر ليحتفل معهم بالذكرى 78 لعيد النصر على الفاشية.
فاجأ بوتين كييف والعالم بقبول زعماء البلدان السوفياتية السابقة دعوته في احتفالات موسكو، وهي التي تمسكت مع روسيا بعضوية منظماتها المشتركة، سواء كانت "الأورواسيوية" أو الأمنية مثل "معاهدة الأمن الجماعي"، أو العابرة للقارات مثل "منظمة شنغهاي".
بمقتضى تداعيات التاريخ ومقتضيات الجغرافيا، توافدوا جميعهم عدا إلهام علييف رئيس أذربيجان لارتباطه باحتفالات بلاده بالذكرى المئوية لميلاد والده رئيس أذربيجان السابق حيدر علييف أحد اهم رجالات الاتحاد السوفيتي السابق، وهي المناسبة التي توليها موسكو أيضاً أهمية متفردة. وحتى رئيس تركمانستان الذي كان تخلف عن الرد على دعوة الرئيس بوتين في حينه، فاجأ الجميع صبيحة الاحتفال بانضمامه إلى "الفيلق الرئاسي" الذي تشكل من أكبر بلدان الاتحاد السوفياتي السابق ممن شغلوا مواقعهم في صدارة حضور العرض العسكري، جنباً إلى جنب مع بوتين وقدامى المحاربين في الحرب الوطنية العظمى، كما كان الأمر في السابق مع أجدادهم وآبائهم، قبل أن يشاركوا معاً في وضع الزهور على قبر الجندي "السوفياتي" المجهول.
على قبور الأسلاف
من اللافت أن قاسم توقايف رئيس كازاخستان حرص على الوصول إلى موسكو مبكراً لزيارة قبر عمه الذي استشهد مع رفاقه وذويه في رجيف بمقاطعة تفير قريباً من موسكو، وكذلك الأمر بالنسبة إلى صادر جباروف رئيس قرغيزيا الذي انتهز الفرصة ليقوم بزيارة المقبرة الجماعية لشهداء الحرب من أبناء وطنه، وذلك كله قبل أن يجتمع الرؤساء في نهاية الاحتفال مع أبناء وأحفاد أبطال الحرب في قاعات النصر ذات الأسماء التاريخية بين جنبات الكرملين.
تلك كلها لحظات "صادمة" لم تكن لتمر "مرور الكرام" على "الشقيقة السابقة" التي كانت أقدمت على تغيير وجهاتها وتوجهاتها بداية "على استحياء"، قبل أن تتحول إلى العداء السافر، ففي عام 2014 (تاريخ إطاحة الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش)، وهو ما وصفته موسكو بـ"الانقلاب"، تحولت القيادة الأوكرانية إلى الاتجاه المعاكس لتعلن إلغاء الاحتفالات بـ"عيد النصر" ومعه عطلة الاحتفالات، قبل أن تتحول في هذا العام إلى إعلانه "يوماً لأوروبا" تمنع خلاله أية احتفالات بعيد "النصر على الفاشية"، وتقوم أجهزتها الأمنية بمطاردة كل من يحتفل به أو يضع الزهور على ما أقيم من نصب تذكارية تخليداً لذكراه.
وها هي وزارة الخارجية الأوكرانية تنتفض بالأمس لتعلن مشاركة رؤساء بلدان "الكومنولث" السوفياتية السابقة في احتفالات موسكو بعيد النصر بوصفها "خطوة غير أخلاقية وغير ودية تجاه أوكرانيا، وإظهاراً للازدراء تجاه الشعب الأوكراني".
وكان الرئيس بوتين أشار في كلمته بالميدان الأحمر التي استهل بها العرض العسكري، إلى أن "وصول زعماء بلدان رابطة الدول المستقلة لحضور العرض العسكري في موسكو يظهر موقفهم الممتن لإنجاز الأسلاف الذين قاتلوا معاً وانتصروا"، وإن أكد على إسهام جميع شعوب الاتحاد السوفياتي في هذا الانتصار.
ولعل من اللافت في هذا الصدد أن يتعمد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في هذا اليوم استقبال أوروسولا فون دير لاين مفوضة الشؤون الأوروبية وحفيدة كارل ألبيرشت أحد مسؤولي وزارة الخارجية الهتلرية بحسب "كومسومولسكايا برافدا" الروسية، تأكيداً من جانبه على القطيعة مع الماضي السوفياتي، وهي التي وصلت لتقول في كييف "إن هذا المكان هو الأفضل للاحتفال بيوم أوروبا". وذلك في الوقت الذي تؤكد احتفالات موسكو إصرار روسيا وحلفائها على عدم تحريف الماضي والتمسك بحقائق التاريخ، ودحض وتنفيذ كل محاولات "إعادة كتابته"، وكذلك إماطة اللثام عما جرى من مداولات ومحاولات لتأجيل افتتاح الجبهة الثانية لتخفيف الأعباء التي وقعت على كاهل الاتحاد السوفياتي منذ السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية وحتى قبل السنة الأخيرة منها.
حليفا السياق والضرورة
حول هذه المناسبة، نشير إلى أن تحالف الاتحاد السوفياتي مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لم يكن بالأمر اليسير، وهما اللتان اتخذتا منه موقف العدو منذ أولى سنوات ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917، حتى إن الولايات المتحدة لم تعترف به إلا عام 1933 بعد طول عناء، ومن الطريف في هذا الصدد أن الولايات المتحدة كانت تخشى آنذاك "تدخل الاتحاد السوفياتي في شؤونها الداخلية" لدرجة أنها طرحت هذا الشرط ضمن مطالبها التي تقدمت بها إلى موسكو في ذلك الحين.
أما بريطانيا، فقد ترددت أكثر من مرة بين الاعتراف وإقامة العلاقات الدبلوماسية تارة، وبين قطعها تارة أخرى، وهي التي طالما انخرطت في صراع "اللعبة الكبرى في آسيا الوسطى" مع الإمبراطورية الروسية، قبل أن تعود إلى "علاقات أكثر استقراراً" في 1929 مع أول حكومة عمالية في ذلك الحين، بعد أن طاول تأرجح العلاقات بينهما حد عدم الثقة والخصومة في غالبية الأحيان، وهو ما تناولته "اندبندنت عربية" في تقرير سابق لها من موسكو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد عادت هذه الأجواء لتخيم، في أعقاب اندلاع الحرب العالمية الثانية، على كثير من جوانب علاقات الاتحاد السوفياتي مع "حليفي السياق والضرورة" إن جاز هذا القول، حتى الاتفاق معهما على المشاركة في مؤتمر موسكو في يوليو (تموز) عام 1941، وذلك ما يستوجب التوقف عنده بكثير من التفصيل استناداً إلى ما تيسر من وثائق وزارة الخارجية السوفياتية - الروسية.
تقول هذه الوثائق إن رؤساء البلدان الثلاثة لم يكونوا ليستطيعوا الاتفاق على موقع يناسب الجميع للقائهم الأول سعياً وراء تنسيق الخطى والتوجهات. فالزعيم السوفياتي ستالين يخشى مغادرة موقعه لأسباب تتعلق بضرورة وجوده في موقعه بموسكو، والعدو كانت قواته سبق أن شارفت العاصمة في الوقت الذي يعجز الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عن السفر طويلاً لأسباب تتعلق بحاله الصحية "كإنسان قعيد". أما ونستون تشرتشل فكان الوحيد القادر، بل والهاوي للتنقل كثيراً، ومن هنا كان المؤتمر الأول الذي عقد في موسكو وجمع ممثلي البلدان الثلاثة في 29 سبتمبر (أيلول) عام 1941، ليخلص إلى تأكيد تحالف البلدين مع الاتحاد السوفياتي.
أما المؤتمر الثاني فعقد في موسكو أيضاً في 12- 17 أغسطس (آب) 1942، وحضره ستالين وتشرشل وأفريل هاريمان (السفير الأميركي في موسكو)، بينما عقد مؤتمر طهران في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) أول ديسمبر (كانون الأول) عام 1943 كما اقترحه تشرتشل ووافق عليه ستالين، على أن يعقد في مقر السفارة السوفياتية في العاصمة الإيرانية بديلاً عن السفارة الأميركية حيث اقترح روزفلت، وكان هذا المؤتمر مقرراً عقده في القاهرة بحسب اقتراح تشرتشل، أو في بغداد أو البصرة وفق اقتراح ستالين، مع تغاضيه عما عمد روزفلت إليه في إعلانه حول أن التحالف مع ستالين "لن يغير شيئاً من موقفه من الشيوعية"، وهو موقف لا يبتعد كثيراً مما سبق وأعلنه تشرتشل.
كلفة النصر المشؤومة
وكان مطلب "افتتاح الجبهة الثانية"، منذ بداية الاجتماعات المشتركة، والإعلان عن تحالف البلدان الثلاثة، في صدارة أولويات الزعيم السوفياتي ستالين التي لم يتخل عنها منذ طرحها لأول مرة في أعقاب الغزو الهتلري لبلاده، وعلى رغم ذلك توالى التسويف والتأجيل، وفي ذلك تقول الوثائق الروسية، إن ستالين بعث رداً على رسالتين سابقتين وردتا من تشرتشل برسالة تقول إن "الاتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى صارتا حليفين نضاليين في الكفاح ضد ألمانيا الهتلرية"، ليضيف لاحقاً أنه كان من الممكن أن تتحسن أوضاع الاتحاد السوفياتي بالدرجة نفسها التي يمكن أن تتحسن فيها أوضاع بريطانيا، لو جرى فتح جبهة ثانية ضد هتلر في الغرب (شمال فرنسا)، وفي الشمال بمنطقة القطب الشمالي، على حد قوله. ومضى ليقول "إن افتتاح هذه الجبهة، ليس فقط من أجل المصلحة العامة، بل ومن أجل مصالح إنجلترا نفسها. كما أن من المجدي افتتاحها في الوقت الحالي تحديداً، الذي تتوجه فيه أنظار القوات الهتلرية صوب الشرق، وقبل أن تستطيع توطيد مواقعها في المناطق التي تحتلها فيه".
على أن ذلك كله بحسب الوثائق الروسية، لم يكن ليشغل بال "الخصمين التاريخيين" بالقدر المناسب، ربما حتى موعد مؤتمر طهران الذي أكد كثيراً مما يحققه الاتحاد السوفياتي من انتصارات استطاع معها، ليس فقط تحرير أراضيه مع مطلع عام 1943، بل وكان على أهبة الاستعداد لملاحقة جحافل القوات الألمانية في بلدان شرق أوروبا، وقد ظلت المراسلات تروح ذهاباً وإياباً بما تتضمنه من تسويف طال أكثر مما ينبغي طيلة عامي 1942 و1943، في الوقت الذي كان الاتحاد السوفياتي يواصل التقدم على صعيد تحرير أراضيه.
وننتقل إلى ما نشرته "بي بي سي" من وثائق، ومنها ما يقول "إن الغلبة كانت في أوروبا الشرقية للاتحاد السوفياتي الذي كسر جيوش ألمانيا بعد أربع سنوات من الحرب الطاحنة، ولكن بينما كان يعيش نشوة الانتصار العسكري، كانت البلاد تعاني دماراً شديداً، إذ قتل ثلاثة أرباع مجمل الجنود الألمان الذين سقطوا في المعارك على الجبهة الشرقية".
وأضافت "أن التقديرات أشارت إلى أن واحداً من كل سبعة مواطنين سوفيات لقي حتفه جراء الحرب، ووصل مجموع من لقوا حتفهم إلى 27 مليون شخص، ثلثاهم من المدنيين، وربما أكثر بكثير، فضلاً عن خراب المدن والأراضي، ومحو الصناعات والمزارع، وتدمير الطرق والمنازل".
أما عن الأهداف الحقيقية للزعماء الثلاثة، وحسبما أشارت إليها "بي بي سي"، فتتلخص في أن "ستالين كان مصمماً على النهوض ببلاده بعد الحرب، وقصد يالطا (مؤتمر 1945) بحثاً عن منطقة نفوذ في أوروبا الشرقية لتمثل منطقة عازلة لحماية الاتحاد السوفياتي، كما أراد تقسيم ألمانيا لضمان عدم تشكيلها مصدر تهديد مستقبلي على بلاده، وللحصول على تعويضات ضخمة من مال وآليات وحتى رجال، وللمساعدة في إحياء أمته المحطمة، كان ستالين يدرك تماماً أنه يحتاج موافقة القوى الغربية لتحقيق ذلك، وفهم ونستون تشرشل أهدافه، والتقى الاثنان في موسكو في أكتوبر عام 1944، وناقشا فكرة تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ بين الاتحاد السوفياتي والقوى الغربية.
لكن ماذا عن فرنسا؟
تقول وثائق وزارة الخارجية الروسية إن الخلافات بين ستالين وكل من تشرتشل وروزفلت لم تقتصر على فتح الجبهة الثانية كما أشرنا عاليه، إذ تجاوزتها لتشمل ما طرحه الزعيم السوفياتي حول أهمية الاعتراف بجبهة التحرير الفرنسية بزعامة الجنرال دي غول، الذي لم يكن تشرتشل يثق فيه، فضلاً عن زملائه في قيادة هذه اللجنة وكان عددهم سبعة أضافوا إليهم سبعة آخرين، وكان تشرتشل بعث برسالة إلى ستالين في 23 يونيو (حزيران) 1943، يقول فيها إنه علم بكثير من القلق من خلال مولوتوف (وزير خارجية ستالين)، باقتراحه حول الاعتراف باللجنة الوطنية الفرنسية للتحرير التي تأسست في الجزائر، وقال إنه من المستحيل أن تعترف الحكومة البريطانية، ومن باب أولى حكومة الولايات المتحدة، بهذه اللجنة في القريب العاجل. وكشف عن عدم ثقة الزعيمين تشرتشل وروزفلت في دي غول، وأشار إلى خطورة ذلك على سرية العمليات الخاصة بإنزال القوات البريطانية والأميركية على شواطئ جزيرة صقلية. أما عن فرنسا فقد جرى تقرير كثير من مصائرها أيضاً من خلال الزعماء الثلاثة ستالين وروزفلت وتشرشل.
وذلك ما جرى في فبراير (شباط) 1945 في يالطا على ضفاف شبه جزيرة القرم خلال مؤتمرها التاريخي الشهير، هناك أعلن الكبار قراراتهم حول تقسيم العالم، فبعد استسلام ألمانيا غير المشروط تم الاتفاق على تقسيمها وبرلين إلى أربع مناطق سيطرة، واحدة لكل دولة من الدول المشاركة في يالطا، والرابعة حظيت بها فرنسا، إلى جانب ذلك تم الإعلان عن إلزامها دفع أقصى قدر ممكن من التعويضات، وشُكلت لجنة في موسكو لتحديد المبلغ المستحق عليها".
وللقصة فصول أخرى تمتد معها الخيوط وتتشابك لتفضي إلى ما أفضت إليه في حاضرنا من تطورات وأحداث تعود فيها البلدان الثلاثة إلى صدارتها، وإن كان ذلك بترتيبات مغايرة تتسق ومتغيرات العصر.