Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صراع الأخلاق والأمن القومي يعود للواجهة في "سي آي أي"

برينان كشف ابتزاز وكالة الاستخبارات الأميركية جواسيسها كي يواصلوا عملهم

مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جون راتكليف متحدثاً في حفل تأبيني سنوي لتكريم 140 فرداً من الوكالة (صفحة الـ "سي آي أي" على إكس)

ملخص

مع كشف رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية السابق جون برينان عن ابتزاز الوكالة جواسيسها حول العالم بأدوات مالية كي يستمروا في عملهم، تفجرت من جديد قضية الصراع الأزلي بين الأخلاقيات ومتطلبات الأمن القومي في مهنة قد يصعب معها الموازنة بينهما، فما طبيعة هذا الصراع؟ وهل تلتزم الاستخبارات المركزية الأميركية بالأخلاقيات في عملها أم تغلب مصلحة الأمن القومي في معظم الأحيان؟

في وقت تتصارع فيه الرؤى بين إدارة الرئيس دونالد ترمب ومعارضيه في الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول مدى قانونية وأخلاقية الضربات الأميركية العسكرية للقوارب المشتبه في نقلها المخدرات قبالة شواطئ فنزويلا عبر البحر الكاريبي، بخاصة توجيه ضربة ثانية قتلت الناجين من الضربة الأولى لأحد القوارب، زادت تصريحات أخيرة من المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) جون برينان من حدة الجدل حول أولويات عمل أجهزة الاستخبارات الأميركية، وما إذا كانت تلتزم المعايير الأخلاقية في عملها أم ستغلب تحقيق أهداف الأمن القومي للولايات المتحدة كما فعلت في معظم الأحيان بصرف النظر عن الأضرار الأخلاقية التي يمكن أن ترتبط بذلك.

في مقطع فيديو انتشر كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية، اعترف برينان بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية استخدمت أدوات الضغط المالي لإجبار جواسيسها من العملاء الأجانب على الاستمرار في تقديم خدماتهم للوكالة، وحينما كان برينان يستفسر من المدربين في الوكالة عما إذا كان هذا يعد ابتزازاً، تلقى ردوداً بأن ذلك ليس ابتزازاً لأنه يخدم مصلحة الأمن القومي الأميركي.

لكن التكتيك الذي تستخدمه "سي آي أي" عبر تهديد وتخويف جواسيسها بفضحهم عبر الكشف عن توقيعاتهم على إقرارات بتلقيهم مدفوعات مالية سابقة من الوكالة كدليل على تعاونهم، يشبه أساليب تاريخية لعمل أجهزة الاستخبارات، بخاصة أن المنهج الذي تحدث عنه برينان، يشبه الطرق التي بحثت ضمن وثائق كشفت السرية عنها، مثل ما تضمنه دليل التدريب لاستغلال المصادر البشرية لعام 1983 الذي يحدد كيف يمكن للمعاملات المالية وغيرها من صور التبعية أن تؤثر في امتثال الجواسيس ووكلاء الوكالة من دون اللجوء إلى مرحلة الإكراه الصريح.

جدل مستمر

وعلى رغم أن هذا الدليل لم يعد قيد الاستخدام حالياً، فإنه يظل مركزياً في النقاشات حول سلوك الاستخبارات المركزية الأميركية ومعايير الأخلاقيات في تجنيد عملائها والسيطرة عليهم.

وما يثير الانتباه هنا، هو أن الضجة التي أحدثتها تعليقات جون برينان على مواقع التواصل الاجتماعي، تتزامن من استعداد وزارة العدل الأميركية لإصدار سلسلة من مذكرات الاستدعاء أمام هيئة محلفين كبرى في إطار تحقيق يجرى في جنوب فلوريدا في شأن دور برينان والتحقيقات التي أجرتها وكالته في التدخل الروسي في انتخابات عام 2016 والتي يشتبه الرئيس ترمب في أنها كانت خدعة لعب برينان ومسؤولين آخرين في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما دوراً فيها.

وبينما انتهى تحقيق مطول وشامل قبل عامين أجراه مدع خاص، عينه المدعي العام آنذاك بيل بار، إلى عدم وجود أي مخالفات جنائية من جانب برينان أو أي شخصية بارزة أخرى مرتبطة بمسألة التدخل الروسي في الانتخابات، إلا أن إعادة فتح هذا الملف يمكن أن تفسح المجال أمام إثبات صحة شكوك ترمب، وإذا حدث ذلك، فسيحدث ضجة كبيرة حول مدى التزام "سي آي أي" بالأخلاقيات حتى حينما يتعلق الأمر بصراع انتخابي داخل الولايات المتحدة من دون أي علاقة بالأمن القومي الأميركي.

هل "سي آي أي" أخلاقية؟

توجد في وكالة الاستخبارات المركزية، فئتان متميزتان من برامج التثقيف الأخلاقي، إحداهما تنطبق على جميع الوكالات الحكومية، والأخرى تتعلق بسلوك الأنشطة في مجتمع الاستخبارات على وجه التحديد، وفي حين يحدد قانون الأخلاقيات في الحكومة الصادر عام 1978، مبادئ توجيهية عامة للإفصاح المالي وفرض قيود على الدخل المكتسب من الخارج ومنع تضارب المصالح والعمل خارج نطاق الوظيفة، والعلاقات الشخصية، والهدايا، إلا أن مكتب أخلاقيات الحكومة لا يملك صلاحية الإشراف على أنشطة الاستخبارات في وكالة الاستخبارات المركزية.

 ومع ذلك يتلقى مسؤولو وضباط وكالة الاستخبارات المركزية تدريباً مكثفاً خاصاً بالاستخبارات في مجال الأخلاقيات، ويتضمن دراسات حالة لسيناريوهات عملياتية تنطوي على تحديات أخلاقية، لإعدادهم للجانب العملياتي من وظائفهم.

غير أن وكالة الاستخبارات المركزية تعاني باستمرار صراعاً بين الأخلاق وواجب حماية الأمن القومي، نظراً إلى طبيعة مهمتها السرية عالية الأخطار، إذ غالباً ما تتعارض أهداف الأمن القومي مع المبادئ الأخلاقية، مما يؤدي إلى صراعات حول أفعال مثل التعذيب والاغتيالات وانتهاك القوانين، ويجبر ذلك مسؤولي وضباط الوكالة على التعامل مع ثقافة تقدر النتائج على حساب القواعد والأخلاق، بخاصة أن الواجب الأساس لحماية الأمن القومي يتضمن أساليب مثل العنف والخداع والعمليات السرية التي تستخدم غالباً للتستر على أفعال غير أخلاقية أو غير قانونية في الحياة العامة، مما يؤدي إلى انعدام الشفافية ويجعل من الصعب تطبيق المعايير الأخلاقية الداخلية، كما يشير معهد دراسات السياسات.

انتهاكات واسعة

منذ تأسيسها بموجب قانون الأمن القومي لعام 1947، لتكون وكالة الاستخبارات الخارجية الأميركية بقيادة مدنية، نفذت الوكالة آلاف عمليات التجسس والعمليات السرية خارج الولايات المتحدة وأحياناً داخلها، وغالبيتها لم يكشف عنها النقاب حتى الآن، غير أن الوكالة اشتهرت أكثر بانتهاكاتها العديدة للأخلاق، ومن بينها التجارب البشرية في إطار مشروع "ماكولترا"، واستخدام التعذيب والاحتجاز السري بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، والتورط في مؤامرات اغتيال ضد قادة أجانب، وتدبير انقلابات وتغييرات أنظمة الحكم في دول أخرى.

وعلى سبيل المثال، أدارت "سي آي أي" بين عامي 1953 و1973، ما يسمى مشروع "ماكولترا"، وهو برنامج بحثي يهدف إلى تطوير تقنيات التحكم بالعقل من خلال استخدام المخدرات والإيذاء النفسي، الذي كان أخطر انتهاك أخلاقي نظراً إلى استخدامه على مواطنين أميركيين وكنديين غير مدركين لخضوعهم للتجارب في انتهاك لمبادئ حقوق الإنسان، وشمل الضحايا مرضى نفسيين وسجناء وأشخاصاً عاديين تم استدراجهم إلى بيوت دعارة تديرها "سي آي أي" لإجراء تجارب عليهم شملت إعطاءهم جرعات عالية من عقاقير تؤثر في العقل، إضافة إلى استخدام التنويم المغناطيسي والحرمان الحسي والعلاج بالصدمات الكهربائية، مما أدى إلى أضرار نفسية وحالة وفاة واحدة مؤكدة في الأقل.

وبعد هجمات الـ11 من سبتمبر 2001، طبقت الاستخبارات المركزية الأميركية برنامجاً للاحتجاز والاستجواب استخدم تقنيات الاستجواب المعزز في سجن أبو غريب بالعراق وأماكن أخرى، مثل الإيهام بالغرق، والتعرية القسرية، والحرمان من النوم لمدة تصل إلى أسبوع، والحبس في صناديق صغيرة، والتهديد بإلحاق الأذى بعائلات المعتقلين، التي دينت على نطاق واسع باعتبارها تعذيباً وجرائم حرب، وفي فترات زمنية مختلفة أدارت "سي آي أي" سجوناً سرية، تعرف باسم "المواقع السوداء"، في دول مختلفة للتهرب من قيود القانون الأميركي والدولي.

طوال الحرب الباردة وما بعدها، انتظمت "سي آي أي" في عمليات سرية تهدف إلى إطاحة الحكومات المنتخبة ديمقراطياً واغتيال القادة الأجانب، مما أدى في كثير من الأحيان إلى الفوضى وعدم الاستقرار نتيجة تغيير الأنظمة مثل انقلاب عام 1953 في إيران وانقلاب عام 1973 في تشيلي الذي نصب الديكتاتور أوغستو بينوشيه، وتورطت وكالة الاستخبارات المركزية في عديد من المؤامرات لاغتيال قادة أجانب، وأشهرهم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بطرق غريبة مثل السيغار المسموم والأصداف البحرية المتفجرة.

تجاوزات في الداخل

لوكالة الاستخبارات المركزية تاريخ من المراقبة الداخلية غير القانونية، بما في ذلك التجسس على المواطنين الأميركيين والجماعات المناهضة للحرب، وهو ما كان من النتائج الرئيسة لتحقيقات "لجنة تشيرش" عام 1975. واتهم مسؤولو "سي آي أي" أيضاً بتضليل الكونغرس مراراً في شأن طبيعة وفعالية برامجهم المثيرة للجدل، بما في ذلك برنامج التعذيب، ولم تحاول الوكالة التستر على أفعالها فحسب، بل تجسست أيضاً على محققي مجلس الشيوخ.

وبعد الحرب العالمية الثانية، وظفت وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات أميركية أخرى علماء ومتعاونين نازيين سابقين كجواسيس ومخبرين، وغالباً ما أخفت ماضيهم لخدمة أهداف الحرب الباردة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كيف كانت البداية؟

عقب الحرب العالمية الثانية وخوفاً من عواقب التصعيد غير المقصود للأعمال الحربية في العصر النووي، كلف الرئيس الأميركي دوايت دي أيزنهاور لجنة تحت إشراف الجنرال المتقاعد جيمس دوليتل بدراسة فعالية الأنشطة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، مما أثار الشكوك حول القواعد التي ستعمل بها الوكالة.

وخلص التقرير الذي تم الانتهاء منه في سبتمبر 1954، إلى أن التهديد الوجودي للولايات المتحدة والذي تمثله الشيوعية في الاتحاد السوفياتي لا يدع مجالاً للشك، فبالنسبة إلى دوليتل وفريقه، كانت الشيوعية فلسفة بغيضة في جوهرها تتعارض مع المفاهيم الأميركية الراسخة للعدالة والإنصاف، ولتحقيق هدف الشيوعية، كان العدو السوفياتي يدخل سراً في جهود للتسلل إلى الحكومات غير الشيوعية في جميع أنحاء العالم لتقويضها والسيطرة عليها.

واقترح فريق دوليتل حينها أن أي سذاجة في مواجهة هذا العدو العنيد الساعي إلى الهيمنة على العالم تعرض الأمن القومي الأميركي للخطر. وكما استنتج فريق دوليتل، لا توجد قواعد في مثل هذه اللعبة، والمعايير المقبولة للسلوك البشري لم تعد سارية، وإذا أرادت الولايات المتحدة البقاء، فعلى وكالة الاستخبارات المركزية الانتظام في أنشطة أكثر قسوة من تلك التي يستخدمها العدو.

في الوقت نفسه حذر مدير وكالة الاستخبارات المركزية ألين دبليو دالاس من مزايا سوفياتية كبيرة في مجال الحرب التخريبية المتكاملة. وكانت المشكلة بالنسبة إلى دالاس تكمن في التناقضات الأساسية في اتباع أميركا القواعد المقبولة وقوانين الحرب وفقاً للباب 50 من قانون الولايات المتحدة الذي ينظم عمليات مجتمع الاستخبارات، بينما لم يكن النظام السوفياتي خاضعاً للضغوط الناتجة من العمليات السياسية والقانونية الديمقراطية في الغرب؟ وفي مواجهة مثل هذا التهديد الوجودي، الذي يلتزم أيديولوجياً بالهيمنة العالمية، لم يكن من المنطقي لوكالة "سي آي أي" اتباع قواعد مثالية وسط أخطار عالية جداً.

وخلال فترة وجيزة، كانت وكالة "سي آي أي" ساعدت بالفعل في انقلابات أطاحت حكومتي إيران وغواتيمالا، عبر أحداث لم تقوض الوضوح القانوني فحسب، بل أدت أيضاً إلى حالات عدم استقرار طويلة الأمد شكلت بصورة لا تمحى السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.

ووفقاً للعقيد المتقاعد للجيش الأميركي غريغوري داديس، الذي يدرس حالياً في جامعة "تكساس أي أند أم"، فإن عواقب مماثلة محلية ودولية يمكن تلمسها في انتهاك القوات الأميركية قواعد الاشتباك خلال حملة الحرب على الإرهاب، بدءاً بانتهاكات حقوق الإنسان في مجمع سجن أبو غريب في العراق وصولاً إلى قتل المدنيين العزل في أفغانستان، مما أدى إلى تأثيرات سلبية ودائمة على عمليات مكافحة التمرد الأميركية في تلك البلدان التي مزقتها الحروب.

غموض البوصلة الأخلاقية

بالنسبة إلى البعض، تعني البوصلة الأخلاقية القوية القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وتحديد ما إذا كان التعذيب مبرراً أم لا، لكن جون بينيت، الرئيس السابق للخدمة السرية في وكالة الاستخبارات المركزية، يرى أن مسؤولي الوكالة غالباً ما يضطرون إلى التعامل مع خطوط أخلاقية أكثر غموضاً، وبالنسبة إلى من يرون العالم بالأبيض والأسود، ويصنفونه من منطلق الأخيار والأشرار، والصواب والخطأ، وليس لديهم القدرة على التعامل مع الغموض الأخلاقي والتعمق في الجوانب الرمادية للتجسس، فلا شك أنهم سيواجهون صعوبة كمسؤولين وضباط في وكالة الاستخبارات المركزية.

ويتفق فيليب ماد، النائب السابق لمدير مركز مكافحة الإرهاب التابع لوكالة "سي آي أي"، في أن الضباط بارعون في التعامل مع المناطق الرمادية الأخلاقية، حيث يعتمد كيفية تطبيق البوصلة الأخلاقية للضابط على أفعاله في الميدان بصورة كبيرة على الموقف.

لكن في نهاية المطاف، قد لا يتحدد كيفية تصرف وكالة الاستخبارات المركزية استجابة لمهمتها من قبل ضابط معين، بل من الوكالة وهيكلها التنظيمي، ومع ذلك يعتقد الضابط الميداني السابق في "سي آي أي" جين كويل أن المعضلات الأخلاقية ليست شائعة كما قد يتصور المرء لأن الأخلاقيات قد تتغير اعتماداً على دور الشخص في المجتمع، حيث ربما تعد بعض الأفعال التي يقوم بها الفرد لأغراضه الخاصة، غير أخلاقية، ولكن إذا تم القيام بها في سياق الواجب كضابط استخبارات، فهي أخلاقية.

خلل نظامي

ولا يبدو أن المشكلة التي واجهت "سي آي أي" عبر السنين تتعلق بالتكتيكات الوحشية لجمع المعلومات الاستخباراتية التي لا تكون مفيدة أحياناً، بل المشكلة تتمثل في أن شيئاً ما في ثقافة وكالة الاستخبارات المركزية، وعقليتها الجماعية، سمح لها بتحويل جرائم ضد الإنسانية إلى سياسة، لذا أصبحت منطقة خالية من الأخلاق بحسب جون كيرياكو الباحث في معهد دراسات السياسات والضابط السابق في الـ "سي آي أي".

وحينما يطلب من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي ووكالات الاستخبارات الأميركية الأخرى اختراق الخلايا الإرهابية ومنع الهجمات ضد الأميركيين، يتم الضغط عليهم للقيام بالمهمة وإلا سيتحملون العواقب، لكن لا أحد قادر أو راغب في إخبارهم بالقواعد والأخلاقيات، وهذا هو الخلل في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية اليوم، ومن هنا يجب أن تبدأ عملية إعادة البناء الأخلاقي والقيمي للمنظمة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير