ملخص
المستعرب الفرنسي #أندريه_ميكيل عاد إلى كتاب #أسامة_بن_منقذ "الاعتبار" باعتباره صورة مضيئة لزمن إنساني خلال #الحروب_الصليبية
حين رحل المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل عن عالمنا عام 2022، كان قد بلغ الثالثة والتسعين هو الذي ظلت روحه مرحة حتى سنواته الأخيرة بحيث أنه حين سئل مرة عما لا يبارح ذهنه من لحظات حياته كلها، ابتسم بمكر وقال "لحظتان عربيتان" في حياته ترتبطان لديه: أولاهما صورته في زنزانة سجن قاهري عام 1961 أودع فيه من دون محاكمة بتهمة التجسس. ثم أطلق سراحه من دون تبرير. والثانية كانت عام 2010 حين نال جائزة الملك عبدالله للترجمة في السعودية. ويضحك ميكيل قائلاً إنه في الحقيقة لا يمكنه أن يسترجع واحدة من اللحظتين من دون أن يذكر الأخرى. والطريف أن هذا المفكر الذي عاش جزءاً كبيراً من حياته بين تواريخ العرب وآدابهم ولغتهم، لم يكن على ذلك المرح عندما أصدر وهو يقترب من الحادية والستين عام 1990 كتاب مذكراته وقد اعتقد أنه اختتم به حياته العملية، وغير متوقع أنه سيصدر بعد ذلك الكتاب الذي يختم به المفكرون من طينته، حياتهم عادة، نحو عشرة كتب أخرى جميعها عن الحضارة العربية. ومهما يكن فإن ميكيل الذي خاض أنواعاً أدبية عديدة لم يتوقف عن تفضيل عدد قليل من كتبه ومن بينها ذاك النص الذي ترجمه إلى الفرنسية في كتاب، وفسره على ضوء تاريخيته في كتاب آخر.
نتاج باهر لتاريخ طويل
والحقيقة أن هذا التفضيل سيبدو غريباً من مؤرخ ومبدع حملت توقيعه طوال أكثر من نصف قرن عشرات الكتب المترجمة عن العربية أو المؤلفة عن العرب وحضارتهم، إضافة إلى تفسيرات لعدد من أيقونات التراث العربي، من "ألف ليلة" إلى "مجنون ليلى" و"كليلة ودمنة" وغيرها. في نهاية الأمر كان تفضيل ميكيل يتجه دائماً إلى كتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ بشكل أساسي. أما لتفسير هذا الاختيار فعلينا العودة إلى الكتابين اللذين كرسهما له. وربما إلى كتاب مذكرات ميكيل المعنون "شرق حياة بأسرها" (1990)، وفيه يروي ميكيل ذكرياته، ثم يتوقف عند كل عمل من أعماله، ويشرح لنا علاقته به. والحقيقة أن ما يلفتنا هنا هو ما يرويه الكاتب عن اشتغاله على نص ذلك الفارس العربي – السوري، الذي عاصر الحروب الصليبية، وكتب عنها وعن ذاته نصاً رائعاً. فأسامة الذي ولد في اللحظة نفسها التي كانت فيها الكنيسة الغربية تدعو إلى الحملة الصليبية الأولى في كليرمون – فيران، ومات بعد سنوات قليلة من استعادة صلاح الدين القدس، عرف القرن الثاني عشر بأسره تقريباً. وهذا ما يجعل السيرة الذاتية التي أملاها على من كتبها، قبل موته، شهادة استثنائية على تلك المرحلة التي تجابه فيها الشرق والغرب في أراضي الإسلام. وكما يفيدنا ميكيل – كانت الإمبراطورية الإسلامية، قد بدأت تتراجع بخطوات حثيثة: كان الأتراك قد وطدوا أنفسهم فيها، أما الخلافة في بغداد فلم تعد تحكم شيئاً، وسورية تفتت إلى عدد من الإمارات الصغيرة الموزعة بين تركية وعربية... أما في مصر فكانت الخلافة الفاطمية بدأت تتدهور في شكل جدي. وفقط حين كان قد تقدم في السن كثيراً، هو الذي جاوز التسعين من عمره، راح أسامة يملي سيرته الذاتية، التي لا يمكن اعتبارها – تماماً – سيرة "ذاتية" بالنظر إلى أن أسامة، يبدو شديد التكتم حول ذاته. فهو هنا إنما يجمع ذكرياته على شكل ما يمكن أن نطلق عليه اسم كتاب العائلة، أي تلك الوثيقة التي لا تهدف إلى لذة التسرية عن النفس، بقدر ما تهدف إلى التعبير عن الرغبة في خدمة الأجيال المقبلة، ويلفت نظرنا ميكيل إلى أن مثل هذا الأمر لم يكن رائجاً في تلك المرحلة.
حياة فارس حقيقي
ها هو أسامة بن منقذ إذاً، يكتب ذكرياته، يملي هذه الذكريات فيطلع من هذا عمل "جدي" يغوص في نوع من الكتابة "التاريخية – الوعظية" التي ترمي إلى التعليم والتربية. لقد عرف أسامة، عن كثب، أطرافاً عدة تقلبت في السلطة، من الذين لعبوا دوراً في مهزلة التاريخ التي كانت تلعب الساخن والبارد في التأرجح بين الحرب والسلام. ما مكنه من أن يترك لنا ما كان يسمى في ذلك الحين "خبرة الأمم" غير أن شهادة أسامة هي واحدة من تلك الشهادات التي لا تكف عن إعطائنا هذا الدرس الأخلاقي العميق: "إن الله يفعل ما يشاء، حينما يشاء وحيثما يشاء... لهذا نرى ذاك الذي كان موعوداً بمستقبل باهر، يقتل مبكراً بلسعة نحلة وهو بعد في زهرة العمر، بينما نجد الآخر الذي انخرط منذ أبكر سني حياته في القتال ضد البشر كما ضد الحيوانات المفترسة، من أسود ونمور، والذي كان متوقعاً له أن يموت باكراً، نراه يموت في سريره وقد عاش من العمر عتياً، وقد فتكت به أمراض الشيخوخة ولم يعد قادراً حتى على إمساك ريشته وكتابة الصفحات التي بات مجبراً بالتالي على إملائها".
أخطار مرعبة
فأسامة، إذاً، هو واحد من أولئك الذين اختار الله أن يتركهم أحياء لزمن طويل. أما لائحة المخاطر الجدية التي أفلت منها الرجل، فإنها تصور لنا خير تصوير الفكرة الأساسية المتحدثة عن مصير لا يمكنه أن يكون شيئاً آخر غير إرادة الله. وغير حياة شاءها الله لأسامة: حياة الفارس. وأسامة يصر على هذا اللقب لنفسه، مستنداً في هذا إلى ما كان "فرسان المعبد" الفرنجة الذين تعرف إليهم ذات مرة، يقولونه له واصفينه بأنه فارس كبير، نبيل، فارس حقيقي بإمكانه إذا شاء أن يترك لهم ابنه فيرسلونه إلى بلاد الفرنجة حيث يتعلم قواعد حياة الفروسية إن شاء.
يرى أندريه ميكيل، أن نص أسامة يظل مطبوعاً بكثير من التحفظ والحياء حتى اللحظة التي يصل فيها الرجل إلى آخر ذكرياته، فيفتح هلالين ليتوقف عند بعض الحكايات الأخلاقية التي يظللها شعار يقول: "إن الله يفعل ما يشاء... أما أنا فيلسوف أعطي هنا مثالاً آخر...". ثم يخوض في نص آخر، يشكل نحو عشرين صفحة، ويتحدث فيه عن صباه وعن مسقط رأسه. عن السنوات التي أمضاها إلى جانب الإنسان الذي ربما كان أحبه أكثر من أي إنسان آخر: أبيه، الرجل الذي يتحدث عنه بعبارة مؤثرة، بل وتبدو أكثر تأثيراً إن نحن تنبهنا إلى تحفظ أسامة وحيائه طوال صفحات النص السابقة، إذ نراه يقول: "أنا لا أعرف لماذا كنت أحبه إلى هذا الحد، ربما كان ذلك بسبب ذلك الحنان الذي كان يكنه لي، والحنان الذي كنت أشعر به إزاءه...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتقادات برسم الفرنجة
يقول لنا أندريه ميكيل، إنه فيما كان لا يزال عند بداية ترجمته لكتاب أسامة بن منقذ، حيرته فقرة يروي فيها الفارس السوري أخبار قتال دار بين إمارتي شيزر وأنطاكية وينهيهما قائلاً: "وما إن انتهت المعارك، حتى عاد الفرنجة إلى ديارهم"... هنا كمنت حيرة ميكيل في أنه لم يجد في تاريخ الصليبيين ما يفيد بأنهم عادوا إلى "ديارهم" أي إلى أوروبا بعد ذلك القتال... وحين تحرى الأمر اكتشف أن "ديارهم" هنا تعني أنطاكية. ما يعني، في رأي ميكيل، أن أسامة لا يتعامل أبداً مع الفرنجة على أنهم أغراب، ولا على أنهم صليبيون أتوا من مكان آخر بعيد. وهذا يعني أيضاً إن وجودهم كان، ولفترة من الوقت، يعتبر وكأنه أمر واقع ولا يطرح مشكلات حقيقية. في ذلك الحين، كما يفيدنا ميكيل، كانت المدينة تنتمي على الفور إلى من يستولي عليها. ومنذ اللحظة التي يعترف فيها السكان المحليون بسلطة ذاك الذي حل مكان الحكام السابقين، يصبح بإمكان السيد الجديد أن يحوز على مشروعية ما. غير أن هذا التعامل الذي يبديه أسامة إزاء الفرنجة، لم يمنعه من توجيه العديد من الانتقادات إليهم، أولها كون الفرنجة عجزوا عن الاندماج في أوساط الشعوب التي جاؤوا ليعيشوا بينها، إذ ظلوا يعتبرون أنفسهم أغراباً. والثاني يتعلق بـ"غبائهم" في كل ما يتعلق بالطب؛ والثالث، يتعلق بما من شأنه أن يظهر مدى حمقهم: "فكيف يمكن للمرء أن يفهم ما يحدث حين يكون ثمة رجل يتجول في شارع مع زوجته، وفجأة يلتقيان برجل آخر فيتوقفان ويسلمان عليه، وتروح المرأة متحدثة إلى الرجل. كما لو أن زوجها لم يكن موجوداً خصوصاً أنه قد يحدث أحياناً أن يتابع الزوج مساره، فيما الزوجة تواصل حديثها مع الرجل الآخر!".