Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 أندريه ميكيل صوّب أخطاء المستشرقين إزاء الثقافة العربية

مستعرب وأكاديمي فرنسي فتنته آداب العرب فكتب وترجم ووقع في حب "ليلى"

المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل (صفحة الكاتب - فيسبوك)

رحلَ عن عالمنا، عالم وعلاّمة فرنسي ومستشرق جليل الحضور والأثر، هو أندريه ميكيل (1929-2022) الفرنسي المولود في بلدة ميز الفرنسية، الهانئة على المتوسّط، عام 1929. التحق ميكيل بكلية التربية عام 1950، وتخرّج منها أستاذاً لتعليم اللغة العربية التي أتقنها إلى جانب اللاتينية واليونانية القديمة. ولكنّ شغفه باللغة العربية، معطوفاً على نزعته الإنسانية المتعالية على التصنيفات، دفعاه إلى الالتفات نحو الشرق، ودرس العربية وآدابها وتراثها العلمي والفني في دارها. لذا عزم على زيارة مصر عام 1961، في عزّ احتدام الصراع بين الحكم الناصري والغرب، فاتّهمه غلاة القوميين والناصريين بأنه، من الجواسيس، وأنّ تعلمه العربية هو من قبيل التجسس على الثورة الناشئة، فأُدخل السجن.

غير أن تجربة السجن كانت مناسبة جديدة لإعادة النظر في الآخر والذات. إذ ازداد إصراراً على التبحّر في اللغة العربية، والتعرّف الشامل إلى التراث العربي شعراً ونثراً، وجغرافياً وتاريخاً، ردّاً على اتّهامه بالتجسس لمصلحة الغرب، والعمل على زعزعة أركان الثورة الناصرية الشابة آنذاك. وفي الكلمة التي ألقاها فاروق مردم بيك في حفل تكريمي لميكيل في معهد العالم العربي بباريس عام 2018، أشاد بأصالة العلاّمة ميكيل، وبموقفه الشريف من العرب، وببحثه الدؤوب عن نقاط الضوء الكثيرة في التراث العربي الضخم، وبموضوعيّته المتفهّمة التي جعلته مستعرباً ناقداً مواقف المستشرقين ونظراتهم الاستعلائية والانتقائية المبتسرة.

تجديد النظرة إلى التراث

ولو أنّ العلاّمة أندريه ميكيل، الذي أطبقت شهرته الآفاق، وتمنى الكثير من طلاّب العالم وطالباته الانتظام في الكوليج دو فرانس حيث كان يدرّس العربية، أو يتعرّفوا إليه، أودعنا شهرته ومضى لكان ذلك كافياً. ولكنّ غاية ميكيل كانت أبعد من هذا، وأشد رسوخاً؛ كانت في تمرين أجيال من الطالبات والطلاّب، ولا سيما العرب منهم، على تجديد النظرة إلى تراثهم الأدبي والفكري والعلمي، بعد هجمة الحداثة وإشاحة البعض أنظارهم عن هذا التراث لقدمه وعدم اتفاقه مع العصر، وانصراف البعض الآخر إلى استرجاع التراث علامة وحيدة على الانتماء والهوية. بل ويمكن القول إنّ أندريه ميكيل أرسى منهجاً في البحث لم يتبيّنه سوى القلّة من الباحثين العرب والأجانب، وعنيتُ به؛ تجديد اعتبار التراث العربي المكتوب، مدوّنة الشعوب العربية الكبرى، وأنّ هذه الأخيرة تحمل في طواياها كلّ مكنون الإنسان العربي، في الفكر والشعر، والقصة، والأمثال، والتاريخ، والتمدّن- على حدّ تعبير جرجي زيدان- والشعر، والنظرة إلى العالم، والعادات والتقاليد، وصنوف الطعام، والحُسن، والفنون، وغيرها. وما على الباحث الجدّي سوى أن يتدبّر طريقة أو منظوراً مستفاداً من العلوم الحديثة التي باتت موفورة، في عصرنا الحالي، من أجل أن يسلط أضواءه على التراث طمعاً في استخلاص مراده منه. أو يكون الباحث شامل المعرفة، موسوعياً في مجاله- على غرار المعلّم ميكيل- وقادراً على الغوص في أعماق مدوّنته واكتشاف الجديد منها.

آثار ميكيل أو تراثه الكبير  

بلغت ميكيل نحو مئتين وخمسين (250) مؤلفاً، توزّعت بين دراسات علمية، وروايات، ومذكّرات، وخواطر أدبية، ونضيف إليها شعراً على طريقة الشعر الحرّ وقصيدة النثر. ولكن قبل تعداد هذه الأعمال، يمكن إلقاء نظرة على التوجّهات العامة بل الميادين التي تتوزّع عليها هذه الأعمال، والدافع إليها، وهو جوهريّ في نفسية المؤلّف.

ففي الترجمة من العربية إلى الفرنسية، قصد ميكيل نقل شغفه وإعجابه بنوع معيّن من الشعر، ولا سيّما شعر الغزل، متمثّلاً بـ"مجنون ليلى"، وفي النثر نقل نصوصاً مختارة من "ألف ليلة وليلة"، و"فلسطين في الطريق: العالم الإسلامي نحو العام ألف"، و"الأنطولوجية الشعرية: من صحراء العرب إلى حدائق الأندلس"، و"العرب والحبّ"، ونقل 1205 قصائد من الشعر العربي إلى الفرنسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكنّ أهمّ ما طبع انشغال ميكيل هو انصرافه إلى تبيان خصائص الأدب العربي التراثي، بغضّ النظر عن اتّجاهاته، إلى جانب الإطار الحضاري الذي هيّأ لنموّ هذا الأدب؛ فكان "الإسلام وحضارته" في جزءين، و"جغرافيا العالم الإسلامي البشرية، منتصف القرن الحادي عشر"، و"الآداب واللغة العربية التقليدية" في أربعة أجزاء، و"العرب والإسلام وأوروبا"، و"من الخليج إلى المحيطات"، و"العرب: من الرسالة إلى التاريخ"، و"حكايتا عشق: من المجنون إلى تريستان"، وغيرها الكثير.

ميكيل شاعر

ومن لا يحسب لأندريه ميكيل حساباً في الشعر؟ فهو أصدر فيه أربع مجموعات شعرية، هي: "الابن الراحل قبل أوانه"، و"الابن اللامتحقق"، ووجبة المساء"، و"الرجل العجوز والريح"، وأشعار متجاوبة"، وفيه يصوغ الشاعر من نسيج شغفه بالعربية شعراً غنائياً صافياً، وضافياً حزناً على ابنه المتوفى قبل أوانه، ولوعة عليه، وتأملاً في الموت والوحشة والانتماء والهوية. والحال أنّ الشاعر ميكيل يواصل بسط وجدانيّته الغنائية في مجموعاته الشعرية المتتالية، عارضاً بوحه وحنينه إلى المحبوبة، بنبرة مجنون ليلى حيناً، وبتأنّق تريستان حيناً آخر، ومولّهاً بنار الغياب الحارقة، غياب ابنه قبل أوانه، نظير فيكتور هوغو، أو بدر شاكر السياب، وهو يشيّع ابنه، قائلاً: "ذهبتَ... يموتُ كلّ موج أو مرمر،/ فيصرخ تمّ، تحت فجأة خنجر،/ وجهدٍ أخيرٍ في جناحٍ مسمّر،/ وكيف بلا حبّ سافرَ في البحر؟/ ذهبتَ فأصعقتَ حمائم المنائر/ وكيف بلا حبّ نسافر في البحر".

وغنيّ عن الإشارة أنّ الكلام على قامة فكرية وأكاديمية مثل أندريه ميكيل، لا يفيه المقال الواحد حقّه، ولا يحيط بكلّ أبعاده وآثاره الجليلة على الأدب العربي. حسبه أنّه خطّ سبيلاً في البحث والنظر إلى التراث العربي، بما يكفل إعادة الاعتبار له، وتصويب النّظر إليه بأحسن الطرق والمناهج المتوافرة في يومنا. بل حسبه أن يكون قيّماً على اللسانين (الفرنسية والعربية) وما يحملانه من إرث أدبي قديمه والحديث، على حدّ تعبير كاظم جهاد مقدّم كتابه الشعري "أشعار متجاوبة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة