Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فن "الراي" الأصيل بدأ يفقد هويته ويقع في الهجانة

يتحدر من بوادي الجزائر وعبر عن مكابدات الشباب وأحلامهم وتغنى بالخيبات العاطفية

"الراي" من فن ممنوع إلى تراث عالمي (أ ف ب)

في أقل من أربعة عقود تحول "الراي" من فن ممنوع في القنوات الرسمية إلى تراث عالمي لا مادي باعتراف منظمة اليونيسكو. فخلال الاجتماع السابع عشر للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي المنعقد بالرباط، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة موسيقى وأغاني "الراي" ضمن قائمة التراث العالمي اللامادي للإنسانية.

وإن كان هذا الحدث يعد انتصاراً لنمط غنائي عانى التهميش الرسمي لفترة طويلة، فإن الاعتراف العالمي به في المقابل جاء في توقيت ملتبس. فـ"الراي" بدأ يفقد وهجه في بلد المنشأ نفسه، ثم إنه أصبح يعيش حالة من الهجانة، إذ بدأ مطربو "الراي" ينحون بهذا اللون الفني صوب أشكال غنائية أخرى جديدة، متذرعين بحجة "ما يطلبه الجمهور".

حين تحدر "الراي" من البوادي الجزائرية إلى المدن، تمت محاصرته رسمياً بدواعٍ "أخلاقية". ولأن كل ممنوع مرغوب فقد خرج "الراي" من دائرة الحصار وانتشر وذاع بين الشباب، وبلغ أوج حضوره وانتشاره خلال سنوات التسعينيات مع أسماء نقلته من الشوارع الخلفية بالجزائر إلى البلدان المغاربية أولاً، ثم إلى أوروبا لاحقاً. وإذا كان الشاب حسني الذي اغتيل في مرحلة سوداء بالجزائر هو الأقرب ربما لوجدان الشباب، فإن مواطنه الشاب خالد هو الذي حمل على عاتقه مهمة إيصال هذا الفن إلى مسامع العالم.

من الشيوخ إلى الشباب

ارتبط فن "الراي" في صيغته الحديثة بجيل الشباب، وبالرغبة في التجديد الفني، وفي الخروج بالموسيقى من الصالات الرسمية إلى الشوارع الخلفية والأماكن الصغيرة والمهمشة، حيث تتكدس أحلام الشباب. تحدر "الراي" في منابته الأولى من الأغاني البدوية، وانتقل من ألسنة الشيوخ إلى مايكروفونات الشباب، فقد كان مغني "الراي" يحمل لقب "الشيخ"، بينما صار مع جيل خالد وحسني ومامي وآخرين يحمل لقب "الشاب". وبدا مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كما لو أننا أمام بيان ثقافي جماعي يعلن انهيار الآمال الكبرى، ويتغنى بالخسائر والخيبات. وما الخيبة العاطفية التي طغت على معظم أغاني "الراي" سوى تكثيف لخيبات كبرى اجتماعية وفكرية صبت على الأجيال الجديدة عقب تراجع الأفكار والتطلعات الجماعية التي واكبت تلك المرحلة. لقد كانت نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بمثابة رماد للنار التي أضرمها جيل السبعينيات، في سياق ذلك الأفق الأيديولوجي الحالم الذي انتهى إلى انتكاسات سياسية وفكرية.

ومثلما كان "الراي" في البادية فن الفقراء، ظل أيضاً في المدينة مع الأجيال الجديدة الفن الأثير والرائج بين شباب ينتمون في الغالب إلى الفئة الاجتماعية ذاتها، لذلك أريد لهذا الفن أن يبقى بعيداً من الضوء الرسمي، وخارج السياسة الثقافية والفنية للبلاد. فكلمة "راي" في اللهجة الدارجة هي كلمة "رأي" في العربية الفصحى، بما تحمله هذه الكلمة من دلالات وأبعاد تهم الحق في التعبير. لقد كان مطرب "الراي"، سواء في المرحلة الكولونيالية أو بعدها ناقلاً لرأي فئة عريضة من الشعب، ومعبراً عما يعتمل في ذاتها من هموم ومكابدات، سواء كانت فردية أو جماعية. وقد هيمنت على لغة "الراي" في فترة تجديده مع الشباب الكلمات الخادشة للحياء العامة. وربما يعود السبب في هذه الظاهرة إلى الأماكن الليلية التي كان "الراي" يغنى فيها، وإلى الفئة العمرية التي تشكل قاعدة المستمعين. وربما يعود أيضاً إلى عامل سوسيولوجي، فالعنف اللغوي في "الراي" قد يكون بمثابة رد على عنف آخر في الواقع تمارسه مؤسسات المجتمع، سواء التي تشكل قواعد للسلطة، أو التي تستمد مشروعيتها من تراكم الأعراف والتقاليد.

من المآسي الجماعية إلى المكابدات الفردية

منذ السبعينيات بدأت لغة "الراي" تتحول من طابعها البدوي إلى لغة المدينة، ممزوجة بمفردات وتعابير فرنسية. وبدأت مواضيع الأغاني تتحول من رصد الحالة الاجتماعية للسكان خلال المرحلة الكولونيالية إلى التعبير عن الهموم والمكابدات الفردية للمواطن، في ظل الحياة الجديدة التي عرفتها الجزائر، ومعها البلدان المغاربية الأخرى، هذا التحول من الجمعي إلى الذاتي صاحبه تحول آخر ليس في طبيعة المواضيع فحسب، بل في مفرداتها، إذ صار هذا الفن رائجاً ومطلوباً داخل الملاهي الليلية، بالتالي صارت أغانيه تتشكل أحياناً من كلمات وجمل جريئة لا يقبلها الوسط المحافظ. وهذا ما سيجعل فن "الراي" ممنوعاً في الإذاعة والتلفزيون بالجزائر، إذ لم تسمح الجهات المسؤولة عن الإعلام ببث الأغاني الجديدة للشباب باعتبارها تنتمي إلى فن خارج الحياة العامة للبلاد. غير أن الحضور الطاغي للراي مع مطلع التسعينيات كان كافياً لأن يحطم كل الجدران الحاجزة ويصل إلى المستمعين عبر مختلف وسائل الإعلام، خصوصاً بعد أن فطن نجوم "الراي" إلى ضرورة تشذيب لغتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في فترة التسعينيات وبداية الألفية الجديدة تحول "الراي" إلى خطاب الفجائعيات الفردية، كما لو أننا صرنا أمام مناحة طويلة. فالتيمة الأساس لأغاني "الراي" كانت هي تمجيد الفشل والهزيمة، والتعبير عن التصادم المستمر مع الواقع، والرغبة الدائمة في الهرب منه بمختلف الوسائل.

ثمة مسحة من الكآبة طغت على هذا الفن تزامنا مع انفجار أزمة العطالة، وموجة الهجرة السرية إلى أوروبا، وتراجع وعود العدالة والديمقراطية التي بشر بها اليسار العربي في السبعينيات، هذا الجانب العاطفي أسهم في انتشار أغاني "الراي" في البلدان المغاربية على نطاق واسع، وأسهم إدخال الآلات الموسيقية الحديثة والتوليفات اللحنية الجديدة في انتشاره بأوروبا، خصوصاً فرنسا وبلجيكا، حيث تقيم جالية كبيرة من المغاربيين، ليصبح "الراي" بفضل أسماء من قبل خالد ومامي وفضيل ورشيد طه، وغيرهم، فناً عالمياً حاضراً على أكبر المنصات الدولية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة