Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصة فن "الراي" من الأقبية المظلمة إلى منصة اليونيسكو

هل تتصالح الجزائر اجتماعياً واقتصادياً وسياحياً وثقافياً مع هذه الأغنية بوضع خطة إنعاش؟

مغني الراي الفرنسي فوديل الجزائري المولد في قلعة دمشق خلال ليلة الموسيقى العالمية  2008   (أ ف ب)

مفارقة عجيبة، في بلاد لا تنظر إلى الثقافة إلا بما يصنع مجد السياسيين الموسميين، قد يمنع فن أو يهمش لمرحلة ثم بقدرة قادرة يحتفل به بعد حين، ذلك هو مصير أغنية الراي بالجزائر.

لم يحارب فن من الفنون مثلما حوربت أغنية "الراي" في بلدها وبين محبيها من الجمهور العريض ومن كل الأعمار ومن كل الجهات.

اليوم بعد 50 سنة من الحصار والقمع المباشر والمستتر يبتهج بعض السياسيين أو ورثاؤهم في الأيديولوجيا والخط السياسي، الذين لطالما حاربوا ودانوا ومنعوا هذا الطابع الموسيقى، يبتهجون لأن منظمة "اليونيسكو" سجلت فن "الراي" على قائمة التراث الإنساني اللامادي.

في الجزائر، يحدث هذا منذ السبعينيات وحتى قبل ذلك، الجميع يحب فن الراي في السر أو في دائرته الاجتماعية الضيقة، وفي الوقت نفسه متستراً في تأخلق مظهري لا يتردد في أن يبدي صورة المحارب لهذا الفن.   

فور إعلان منظمة "اليونيسكو" نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، في الاجتماع الذي انعقد بالرباط، تصنيف أغنية الراي الجزائرية على قائمة لائحة التراث الإنساني اللامادي، عمت الفرحة في الإعلام الجزائري، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وعلى صفحات الجرائد الصفراء، التي كانت منذ تأسيسها لا تتوقف عن مهاجمة هذا الفن، الذي تعتبره ضد الأخلاق ووسيلة لإفساد الشباب.

الذين قادوا قبل أربعة عقود، ولا يزالون ولو من خلال أيديولوجياتهم، حرباً شنعاء ضد فن الراي ها هم اليوم يزغردون للحدث "تصنيف أغنية الراي تراثاً إنسانياً عالمياً غير مادي"، واعتبار ذلك نصراً وطنياً كبيراً.

لقد تغيروا هم، تغيروا بتغير مصالحهم، ولم تتغير أغنية الراي، التي ظلت على أسسها وفلسفتها وجمهورها.

كانت ولا تزال أغنية الراي صورة للدفاع عن الحرية الفردية، حرية تدخين سيجارة أو تناول كأس بيرة أو الحلم بسفر أو حرية اللباس بطريقة معينة، هي الصوت المعبر عن حالات الإنسان المقموع في مجتمع مكبوت ومغلق.

أغنية الراي هي نشيد حرية المرأة، حريتها وملكيتها لجسدها وحياتها وعواطفها، حريتها في التعبير عن ذلك.

في تاريخها العريق، ارتبطت أغنية الراي بناس الأحياء الشعبية المهمشة والفقيرة، كتعبير عن فرح إنساني يومي يصنعه المواطن البسيط بعفويته في إطار بحثه عن لحظة متعة وحرية وتنفيس اجتماعي في مجتمع قامع ومناهض للحرية الفردية وللمرأة وللآخر.

تظل أغنية الراي هي الصوت الصادق المعبر عن خصوصية الأذن الموسيقية الجزائرية والشمال أفريقية.

فسبحان الله، إلى زمن قريب، كانت أغنية الراي في عيون الإعلام الأصفر فناً ملعوناً وفجأة أصبحت فناً مرغوباً معبراً عن الشخصية الوطنية، فحتى مطلع التسعينيات كانت أغنية الراي ممنوعة في الإذاعة والتلفزيون العموميين.

الغريب في شخصية الجزائري، فهو ظاهرياً يبدو وكأنه يكره فن الراي، بدا ذلك من خلال آلاف التعليقات المتشنجة والمتطرفة المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي عقب نشر خبر من قبل الجهات الرسمية "تسجيل الراي كفن جزائري على لائحة التراث الإنساني من قبل منظمة اليونيسكو" وخفية، هؤلاء المعلقون أنفسهم، يرقصون على إيقاع الراي في كل مناسبة وبغير مناسبة.

الجميع ينتقد كلمات أغنية الراي ويطالب بتهذيبها، وفي الوقت نفسه الجميع ينتشي على هذه الكلمات حين يخلو بنفسه أو يكون مع أقرب وأعز الناس إليه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعتقد بعض السذج بأن الشيوخ الأوائل لأغنية الراي، في الثلاثينيات والأربعينيات، كانوا يغنون "المدائح النبوية" أو ما شابه ذلك، لكن الحقيقة غير ذلك، فقد كان الشيوخ أيضاً وبآلاتهم الموسيقية التقليدية البسيطة "الغايطة والبندير" يؤدون قصائد جريئة في الحب والنساء والجسد وتفاصيل المغامرات العشقية.

صحيح كانوا يعتمدون على قصائد الشعر الشعبي، الذي له تقاليد جمالية وبنيوية خاصة، لكننا حين نفكك مثل هذه القصائد سنجدها هي الأخرى لا تختلف كثيراً في فلسفة ما يغنيه الجيل الجديد من شباب أغنية الراي المعاصرة، فالحرقة هي هي، والرغبة في التحرر هي هي، ومناهضة القمع بكل أشكاله الاجتماعية والسياسية والجنسية هي هي.   

لكن لماذا هذا الانفصام في الشخصية الجزائرية بشكل عام حين يتعلق الأمر بأغنية الراي؟ لماذا التأرجح ما بين الرفض والقبول، ما بين النكران والاحتضان؟

أثناء العشرية السوداء الدموية 1990-2000، تم اغتيال كثير من الفنانين والمثقفين التنويريين، ومن بينهم أصوات وازنة في أغنية الراي من أمثال الشاب حسني والشاب عزيز والفنان ومنتج أغنية الراي رشيد بابا أحمد وغيرهم.

أمام هذا الوضع المرعب، حيث كانت الحرب مفتوحة على الفن والفنانين والمثقفين من قبل الجماعات الإسلامية المسلحة، اضطر كثير منهم للهجرة إلى فرنسا، حيث واصل هؤلاء حياتهم الفنية الجديدة انطلاقاً من هذا البلد.

رب ضارة نافعة، فقد كانت ظروف المنفى على قساوتها لهؤلاء الفنانين من أمثال الشيخة الريميتي والشابة الزهوانية والشاب خالد والشاب مامي والثنائي فضيلة وصحراوي وبن شنات وغيرهم، فرصة للاتصال بشركات إنتاج عالمية، وأيضاً بملحنين موسيقيين عالميين، وهو ما منح أغنية الراي فرصة لتصبح عالمية ولتصل إلى المتذوق الأوروبي والأميركي، ومنها لليابان والخليج العربي غيرها.

وباحتماء فن الراي بالمؤسسات الفنية الفرنسية أساساً واعتماده على مساعدة ومرافقة الموسيقيين الكبار واقتحام شبابه فضاءات النجوم فقد رفع هذا النجاح في سلم درجات شحن الأصوات التقليدية الجزائرية ضد هذا الفن، معتبرة ذلك خيانة وطنية من باب أن هذا النجاح وهذا التموقع العالمي انطلق من بلد كان بالأمس المستعمر الغاشم.

كلما أصبح المجتمع متشدداً في طباعه وطغا فيه التيار الديني المتطرف وغابت فيه الحياة الاجتماعية في بعديها الحر والصادق، ارتفع صوت أغنية الراي أكثر كصوت مقاوم للتحجر ورافض لتنميط الأحاسيس وتعليب العواطف في صناديق التطرف الديني وسلم الأخلاق الاجتماعية القائمة على النفاق والمظهرية.

ما لم يتم التعبير عنه روائياً وشعرياً وسينمائياً ومسرحياً بكل جرأة قامت به أغنية الراي من خلال آلاف الأشرطة "الكاسيطات" التي كانت تنتجها استوديوهات شعبية بسيطة كـ"ديسك مغرب Disque Maghreb"، التي كانت تتلقفها العامة بكثير من الوفاء لهذا الفن المتمرد. 

كلما زاد المنع وتشدد وهبط سقف الحرية فوق رؤوس العامة ليبلغ الحد الأدنى تزايد عدد متابعي وعشاق أغنية الراي، لأنها متنفسهم وصوتهم الجريح.

على المستوى السياسي والعقدي، كان فن الراي، من حيث دفاعه عن الحرية الفردية وعن فضاءات للتعبير الحر، من الفنون التي واجهت المد الإسلاموي في التسعينيات وبالأساس في العشرية السوداء الدموية، وهو ما وضع فناني هذا الطبع نصب أعين حراس المعبد ووكلاء الله على أرض الجزائر.  

وانطلاقاً من الألفية الثالثة، وعلى رغم انفتاح الدولة الجزائرية رسمياً على أغنية الراي، وتخصيص مهرجان لها في سيدي بلعباس، وتسامح بعض القنوات التلفزيونية والإذاعية مع هذه الأغنية، إلا أن التيار المحافظ المتشدد ظل يحاربها بطرق مختلفة مباشرة وغير مباشرة.

وأمام هذا الواقع المتعثر، ونظراً إلى غياب الجو الاقتصادي والسياحي الذي يسمح بتنمية هذه الأغنية فقد اضطر كثير من شباب الراي للهجرة إلى البلد المجاور، أي المغرب، إذ وجدوا فيه فضاء مناسباً لمواصلة إبداعهم، حيث تنتعش السياحة، وحيث المجتمع منفتح على الآخر.

على رغم كل ما يمكن أن يقال عن طبيعة هذا التفتح، هاجرت كثير من الأسماء الأساسية للإقامة أو لممارسة فنهم في هذا البلد الجار من دون أن تكون هناك أية قطيعة مع بلدهم الأصلي، الذي ظلوا يزورونه لإحياء بعض السهرات أو المشاركة في بعض المهرجانات كلما كانت هناك باردة حرة أو رسمية.

حين تفطنت السلطات المغربية إلى البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي لهذا الفن أسست مهرجاناً دولياً خاصاً بأغنية الراي بمدينة وجدة الموجودة على الحدود الجزائرية - المغربية، وفي ظرف سنوات قليلة أصبح هذا المهرجان مرجعاً عالمياً لهذه الأغنية، بأكثر من نصف مليون زائر في الطبعة، وظهر كثير من الأسماء الفنية المغربية التي مشت على أساليب أغنية الراي الجزائرية.

وأمام هذا الواقع الجديد، بدأ المغرب في التفكير في تقديم ملف الراي إلى "اليونيسكو" لاعتماده كفن مغربي على قائمة التراث الإنساني، وهو ما حرك الجزائر التي أسرعت في تقديم ملفها باعتبار أن فن الراي فن جزائري، وبالفعل تم قبول الملف الجزائري وتم تسجيل الراي كفن جزائري على قائمة التراث الإنساني في دورة اليونيسكو نوفمبر 2022.

أعتقد أن الصراع السياسي ما بين المغرب والجزائر، والتوترات الموجودة بين البلدين الشقيقين، هو ما حرك الجزائر ودفعها لاستعادة رمزية هذا الفن، وهذا أمر إيجابي ما في ذلك شك، لكن ومع تسجيل فن الراي على لائحة التراث العالمي الإنساني اللامادي من قبل منظمة "اليونيسكو"، هل ستتصالح الجزائر اجتماعياً واقتصادياً وسياحياً وثقافياً مع أغنية الراي، وذلك بوضع خطة إنعاش اقتصادي ببعديها الثقافي والفني استجابة لجيل جديد من فناني الراي، جيل مؤسس على ثقافة وسائل التواصل الجديدة ومتحرر من الكوابيس التي عاشها جيل السبعينيات والثمانينيات، جيل له حلم آخر؟

المزيد من آراء