Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسيقى "الراي" من مقاومة الاستعمار إلى السقوط التجاري

جمعت بين المقهورين في المغرب والجزائر وانتشرت على ألسنة "الشيخات" و"الشباب" أدخلوها طور الصخب الذي استأصل جذورها

انتقال الراي من الأغنية البدوية إلى الحداثة بدأ مع إطلاق وصف "الشاب" أو "الشابة" كتمييز عن جيل الشيوخ  (غيتي)

لا يوجد دليل قاطع على أن موسيقى الراي مغربية ولا العكس أيضاً. لكن ما هو متعارف عليه بحسب بعض الدارسين الفنيين أنها موسيقي بدوية نشأت على الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر بعدما ظل العديد من الثوار يتغنون بها في الجبال والقرى. لذلك فإن مرجعية موسيقى الراي تستوجب أبحاثاً تاريخية عميقة تنقب عن جذورها وبدايات تشكلها على أيدي "الشيخات" (المغنيات الشعبيات) اللواتي عملن على أداء هذه الأغاني في البوادي والقرى البعيدة داخل كل من مدينتي وجدة ووهران، إضافة إلى مدى تأثيرها في المغرب العربي.

شرعية التأسيس

تجدر الإشارة إلى أن هذه الموسيقى لم تكن جديدة، بل خرجت من شكل تعبيري موسيقي آخر يتمثل في الموسيقى الشعبية. ويرى الكثير من المغنيين أن هذا اللون الموسيقى يعد "حداثة" الفن الشعبي، مع أنه حافظ على الكثير من ملامح وجماليات الأغنية الشعبية. فجاءت أغانيه الأولى عبارة عن تكليل لتطور الموروث لذلك لم يشكل الراي قطيعة مع الموسيقى القديمة، بل استمد منها جوهرها الشعبي، فجدد "الشيوخ" (الرواد) البحث عن لغة موسيقية جديدة لهذا الفن. لم يكن هؤلاء الشيوخ وهم ينسجون هذه المواويل الحزينة جراء الاستعمار وسط الجبال البعيدة من مدن المركز يدركون آنذاك أنها ستغدو ذات يوماً علامة موسيقية ستكتسح العالم ككل.

ثمة روايات متناقضة تطرح نفسها حين نكون بصدد الحديث عن الراي، الأولى مغربية وترى أنه تأثر بالأغنية البدوية، التي تأثرت بنصوص فن الملحون، بالتالي، فقد كانت نشأته مغربية. مع أن هذا الرأي غير دقيق لكون الملحون أثر وتأثر أيضاً بالكثير من الأنماط الغنائية والقوالب الموسيقية خلال فترات تاريخية مختلفة. لهذا يرى بعض الباحثين أن نشأته كانت على الحدود بين البلدين ويصعب الحسم ما إذا كان مغربياً أم جزائرياً. في حين يذهب الباحث الجزائري سعيد خطيبي أن الراي "موسيقى تستمد بعض جذورها من الأغنية الوهرانية". بالتالي، فإنه "جزء من التراث الشعبي لمدينة وهران التي نظمت في 1985 أول مهرجان للراي، تلاه مهرجانان دوليان في مدينتي وجدة المغربية وطبرقة التونسية. أما أول مهرجان لموسيقى الراي في الخارج، فعقد في ضاحية العاصمة الفرنسية باريس عام 1987".

ملامح الموسيقى الشعبية

يرى ثلة من الباحثين أن مظاهر انتقال الراي من تأثره بالأغنية البدوية صوب حداثة غنائية، تبدأ من اللحظة التي بدأ فيها يطلق كلمة "الشاب" أو "الشابة" كتمييز دقيق عن جيل الرواد (الشيوخ). فهذا الانتقال من طور الشعبية إلى حداثة غنائية أسهمت فيها عوامل عدة تتعلق بالاستعمار والتحديث الذي طاول الموسيقى المغاربية ككل.

تأتي عبارة "الراي" من كلمة "الرأي" أيْ الإدلاء برأي خاص. فلا غرابة أن تكون أغانيه أشبه ببوح ذاتي في موضوعات تتعلق بالحب والقهر والألم والضياع. فهي تظل عموماً ذا صبغة ذاتية اجتماعية لا علاقة لها بالفعل السياسي، كما هي الحال مع الفرق الشعبية في المغرب خلال السبعينيات. لكن في الجزائر لم يلب الراي بجرأته وجمالياته نداء السلطة وأوهامها، بل ظلت أغانيه منفية وبعيدة تغنى في البوادي وترصد سيرة المحزونين والمنكوبين، غير منتبهة للسلطة وخطابها التقليدي.

 

 

ولادة الراي الأصيل

تأتي أغاني "الراي" على لسان الشيخة ريميتي (1923-2006) على شكل ثورة وجرح، فهذه الفنانة الجزائرية عاشت سنوات من القهر والمنع، ما جعل سيرتها تراجيدية بامتياز. وتشكل اليوم أيقونة غنائية للراي الأصيل الذي يعتمد في آلاته الموسيقية بدرجة أولى على "الناي". مثل هذا النوع من الأغاني ثورة غنائية حقيقية في الجزائر، لكون الكثير من العائلات التقليدية كانت تأبى الاستماع إلى هذا النمط من الراي، بسبب شعبيته وجرأته في طرح موضوعات محرمة، لم تستسغها بعض العائلات الجزائرية ولا تلفزيوناتها الرسمية. وهذا السبب جعل أغانيها مشهورة وتغنى فقط في المدن المقهورة البعيدة داخل الحفلات والمقاهي والملاهي والمواخير.

هذا الأمر جعل الكثير من المتخصصين يعتبرون صاحبة أغنية "دابري" استثناء حقيقياً لكونها الشيخة التي أسهمت بشكل أكبر في ذيوع الراي الأصيل وحررته من المعتقدات المسبقة التي أصبغتها عنه السلطة. فكانت ريميتي الشيخة الوحيدة التي تحملت عناء هذه الدعوة الغنائية التجديدية وخرجت به من البادية صوب المدن.

وجد المواطن الجزائري نفسه مرغماً على عشق هذا الراي الجريح الذي يرصد سيرة الناس مع أجسادهم. فمجمل أغاني الشيخة ريميتي، لم تكن لها علاقة بتحرر الجزائر، ولا باستعادة كواليس التاريخ والذاكرة، بل ظلت تعبر بصوتها الجهوري الموجوع عن حالات إنسانية تتعلق بالفرح والحب والأبناء والعشق والرغبة والهجرة. هذه الموضوعات ستشكل تيجاناً قوياً للجيل السبعيني مع خالد ومامي وغيرهم، إذ سينطلق منها بعد استقلال البلد، حيث سيضيف من جهته لمسة فنية خاصة على "الراي" داخل المنطقة المغاربية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ريميتي... أيقونة الراي الأصيل

ويرى بعض المغنيين أن أغاني من قبيل: "نوار"، و"آوليدي"، و"سعيدة"، و"نخلة" تعتبر تراثاً غنائياً مغاربياً، لأن صداها خرج من الجزائر ووصل شرق المغرب واخترق أكثر المدن التونسية.

وعلى رغم بساطة التوزيع الموسيقي في أغاني ريميتي، فإن جرأتها وبراعة صوتها سيجعلانها أيقونة مؤثرة في طبيعة الراي المغاربي. لقد حررت الأصوات من جمودها وجعلتها تخرج الراي صوب المدن للالتحام أكثر بالناس ومشاغلهم اليومية. يقول الباحث الجزائري سعيد خطيبي الذي كتب أول كتاب عن فن الراي "على رغم نجاحها الموسيقي الواسع، لم تكن ريميتي تحب الأضواء كثيراً. امتنعت عن الظهور في التلفزيون والصحف والمحطات الإذاعية إلا نادراً. وحين تكلمت، كان حديثها يقتصر على الموسيقى، وأصرت صاحبة ألبوم "هاك السرة هاك" (أول أغنية إيروتيكية في الراي الأصيل) طوال حياتها على الاحتفاظ بلهجتها الوهرانية المميزة وبنبرتها الهادئة. عرفت حياة البؤس صغيرة. يوميات الغجر والسفر والترحال، علمتها الإصغاء المديد والاكتفاء بما قل من الكلام".

الراي البوب

إذا كانت موسيقى الراي امتداداً عميقاً للموسيقى الشعبية، وقد تخلت عن بعض من إيقاعها السريع والمندفع. فإنها ستغدو مع الجيل الجديد الذي يمثله كل من الشاب خالد والشاب مامي وميمون الوجدي والشاب حسني والشاب نصرو وسعيد فكري ورشيد طه، مجرد أساس تاريخي لا أكثر. وذلك لأن أغانيهم استفادت بشكل أقوى من الموسيقى الغربية ومؤسساتها الإنتاجية. حيث غابت جمالية الكلمة وقوتها في محاكاة يوميات العزل الاجتماعي والاضطهاد السياسي.

هكذا بدت الأغاني تلهث وراء الإيقاع الصاخب وما يرافقه من طموح تجاري عالمي. وكان استقرار بعض وجوه الأغنية الرايوية الجزائرية بفرنسا، يمثل صورة مصغرة عن الإرهاصات الأولى لنشوء الراي الجديد الذي امتزج مع موسيقى البوب. لكن هذه الأجيال السبعينية والثمانينية، ستنقل الراي المغاربي صوب منعطفات فنية قوية أصبح بموجبها في عداد الموسيقى العربية العالمية. والسبب هنا، لا يتعلق فقط بطبيعة التحول الموسيقي للراي، ولكن أيضاً بسبب المؤسسات الإنتاجية الفرنسية الكبيرة التي تبنت هذا اللون الموسيقي وعرفت به. بحيث استفاد كل من خالد ومامي من جودة هذه المؤسسات الراديكالية الموسيقية مع تنامي موجات اليسار الفرنسي.

 

 

ويذهب الباحث مصطفى رمضاني إلى أن من خصائص موسيقى الراي أنها عبارة عن "مترددات غنائية منفصلة عن بعضها البعض". فهذه الفراغات تشغلها الموسيقي وتحاول اللعب بأنغامها. وقد شكلت هذه الخصائص ميزة جمالية بالنسبة للراي، بحكم أن الكثير من الشيوخ الجزائريين كانوا يشاركون في أعراس مغربية والعكس أيضاً. فهذا التلاقح الموسيقي يرجح عدد من الباحثين والمغنيين أنه السبب في نشأة جذور الراي، لكن لا أحد يعرف مع هذا من الأسبق في اكتشاف الراي.

الراي الرومانسي

لعل أهم تحول شهدته موسيقى الراي تمثل في "الراي الرومانسي" مع الشاب حسني (1968-1994) الذي سيقوم بثورة حقيقة في هذا المجال. فأغلب الناس الذي يستمعون إلى الراي داخل العالم العربي يتعرفون إليه أكثر من خلال صوت حسني. فهذا الفنان الشاب الذي تم اغتياله خلال التسعينيات، ظل أكثر توهجاً في الذاكرة الموسيقية العربية. ذلك أن صعوبة المرحلة السياسية في الجزائر (العشرية السوداء) وتزايد حجم الخطابات الدينية ستسهم في منع الراي.

ففي هذه المرحلة التي كانت تشهد صراعاً سياسياً وأيديولوجياً دفع كبار الموسيقيين من الجزائر والمغرب وتونس إلى الهجرة خارج البلد والدخول في مسلسل التجريب الموسيقي، ظل حسني الصوت الأكثر تمثيلاً للراي الرومانسي. بحكم أنه المغني الوحيد الذي تشرب أحلام جيل بأكمله. هكذا أعاد من خلال الراي محاكاة تجارب الناس ورصد سيرة الخيبة التي ظللت سيرتهم في ذلك الإبان.

امتزاج الراي منذ الثمانينيات مع موسيقى البوب، حيث أصبحا معاً كتلتين موسيقيتين موحدتين، وجعل أيضاً أسماء مغاربية تحلق بعيداً في سماء الراي من خلال إقامة سهرات في فرنسا والتعريف بهذا النمط الغنائي، ومحاولة خلق شراكات فنية مع فرق أجنبية والتخلي عن الأوركسترات المغاربية والدخول صوب منعطف الموسيقى الإلكترونية التي أسهمت في شهرته أكثر. لكن في تأزيمه أيضاً وجعله مجرد سلعة تجارية تؤدى تحت الطلب، أكثر من كونه موسيقى نابعة من شغاف الجسد وجرح الناس المستضعفين والمقهورين داخل المغرب والجزائر.

المزيد من فنون