Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مستقبل أفريقيا مختلف عن ماضيها

كيف يمكن للقارة أن ترسم مسارها الخاص

تعدين الذهب في مقاطعة أويلي العليا بجمهورية الكونغو الديمقراطية بتاريخ أكتوبر 2021 (رويترز)

أفريقيا قارة شاسعة وغنية، إذ يوازي حجمها تقريباً عشرة أضعاف حجم الهند وثلاثة أضعاف مساحة الصين، يقطن فيها نحو 18 في المئة من سكان العالم، وتشكل مصدراً لنحو 30 في المئة من موارده المعدنية. على رغم أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها يزيد قليلاً على 2000 دولار، فإنها تبقى أفقر قارة على الإطلاق. ومن بين 46 دولة صنفتها الأمم المتحدة بوصفها البلدان الأقل نمواً، هناك 35 دولة أفريقية. في الحقيقة، يعيش أكثر من ثلاثة أرباع سكان القارة في بلدان يتدنى متوسط العمر المتوقع والدخل والتعليم، بكثير عن المتوسط العالمي. ووفق وصف الدبلوماسي الغاني كوفي عنان [الأمين العام السابق للأمم المتحدة] فإن أفريقيا "قارة غنية يعيش فيها كثير من الفقراء".

في الواقع، نحن الأفارقة فقراء لأسباب متنوعة، بعضها ناجم من أفعال الآخرين وبعضها من أفعالنا. في ذلك السياق، تسببت العبودية والاستعمار و"الحرب الباردة" في إلحاق أضرار جسيمة بالمجتمعات والاقتصادات الأفريقية، يستمر جزء كبير منها حتى الآن. وقد خلف الإقصاء من مؤسسات الحوكمة العالمية التي يهيمن عليها الغرب، ضرراً بات حجمه أكبر اليوم، لكن اللوم في شأن إخفاقات أفريقيا لا يمكن إلقاؤه على القوى الخارجية وحدها.

يترك التاريخ الاستعماري للقارة إرثاً مسمماً آخر لا يزال مستمراً، إذ يعطي بعض القادة الأفارقة، وعدداً كبيراً من شعوب أفريقيا، ذريعة لعدم تنظيم صفوفهم في الداخل والاستمرار في إلقاء اللوم على الغرب. وفي المقابل، أعاق سوء الإدارة والانقلابات والفساد، مسار التقدم وأهدر سنوات عدة منذ زمن الاستقلال قبل نحو 60 عاماً. على رغم ذلك، نحن نواصل توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الحقيقة، عانت كل أمة تقريباً شكلاً من أشكال الاستعمار أو الاستغلال في مرحلة ما. لسوء الحظ، هذا تاريخنا كجنس بشري، لكن معظم البلدان استطاعت النهوض مجدداً ومضت قدماً. نحن الأفارقة بحاجة إلى أن نتطلع إلى الأمام، لا إلى الوراء، ونتحمل مسؤولية مصيرنا ونبنيه. وهذا يعني الاستمرار في النضال من أجل حكم أفضل وسيادة القانون والقيادة النزيهة. في المقابل، يجب على أصدقائنا في الغرب إظهار نزاهة أكبر ونفاق أقل. يجدر بهم أن يمنحوا أفريقيا صوتاً أقوى في مؤسسات الحوكمة العالمية، ويحسنوا إدارة تلك المؤسسات والشركات المتعددة الجنسيات، ويسدوا الثغرات التنظيمية التي تسمح بالتدفقات المالية غير المشروعة الضخمة إلى خارج القارة. تحتاج أفريقيا إلى من يناصر تطورها، وليس من يتواطأ على نهبها.

 

أشباح الاستعمار

مما لا شك فيه أن الحكم الاستعماري تسبب في ضرر دائم لأفريقيا. لقد رسمت القوى الأوروبية حدوداً موقتة وعشوائية، متجاهلة في الغالب الحقائق العرقية والجغرافية والتاريخية. نشأت بعض البلدان، على غرار غامبيا وليسوتو، في معظمها أو بكاملها داخل بلدان أخرى. وانتهى المطاف بكثير من الدول الأخرى إلى أن تكون محرومة من منفذ بحري، فتصبح بالتالي معتمدة على جيرانها في الوصول إلى البحر. وتنتمي إلى تلك الفئة الأخيرة، معظم البلدان الضعيفة في منطقة الساحل، أي بوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومالي والنيجر. إن تلك الدول بعيدة تماماً عما كانته إمبراطورية مالي العظيمة التي حكمت من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، أراض كانت تغطي مساحة تسع دول أفريقية حالياً. بشكل حكيم، وافقت البلدان الأفريقية عند الاستقلال على تجميد هذه الحدود المصطنعة بهدف تجنب الصراع، لكن بذور عدم الاستقرار كانت قد زرعت بالفعل.

ومثلاً، فلننظر إلى القطاع الزراعي في القارة. عمدت القوى الاستعمارية إلى بناء اقتصادات غايتها خدمة احتياجاتها الخاصة، مع التركيز على تصدير الموارد، سواء الخشب، أو القطن، أو الكاكاو، أو الشاي، أو القهوة. وإلى حد ما، تستطيع تلك الأولويات أن تفسر الصعوبات التي ما زالت تواجهها عدة بلدان أفريقية في ضمان أمنها الغذائي. مثلاً، لا تزال غانا وكينيا والسنغال، تزرع محاصيل للتصدير في أكثر من نصف أراضيها القابلة للزراعة، بينما تستورد الغذاء لإطعام شعوبها. وقد سلطت الحرب في أوكرانيا الضوء فجأة على حقيقة أن معظم البلدان الأفريقية مستوردة صافية للقمح، فيما تعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر مزودين للقمح.

على نحو مشابه، أرسيت البنية التحتية التي ورثتها أفريقيا عند الاستقلال بطريقة تتناسب مع اقتصاد مستند إلى استخراج الموارد. وصممت معظم الطرق والسكك الحديدية التي بنتها القوى الاستعمارية من أجل نقل السلع الخام إلى الموانئ. وقد أدى ذلك جزئياً، إلى بقاء الترابط بين البلدان الأفريقية ضعيفاً. إن نقل البضائع من نيجيريا إلى كينيا من طريق البحر أسهل من نقله على الطرق البرية أو السكك الحديدية، وكذلك فإن نقل البضائع من غرب أفريقيا إلى الصين أقل كلفة من نقلها من غرب أفريقيا إلى شرقها.

 

لا يمكن إلقاء اللوم في إخفاقات أفريقيا على القوى الخارجية وحدها

شكلت الحوكمة مجالاً آخر أهملته القوى الاستعمارية. وعوضاً عن بناء مؤسسات ديمقراطية شاملة، عملت تلك القوى على تعزيز المؤسسات الهشة والهرمية التراتبية. وقد أدى الاستقلال إلى ظهور أعلام جديدة ملونة وأناشيد وطنية مشرفة ووظائف مجزية للرؤساء والأشخاص المقربين منهم، لكن لا شيء أكثر من ذلك. في الواقع، لم تكن المؤسسات الضعيفة في الدول الأفريقية المستقلة حديثاً قادرة على الوقوف في وجه موجة الانقلابات العسكرية التي حدثت في أعقاب الاستقلال. خلال ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، نجت أفريقيا من 82 محاولة انقلاب، أي بمعدل محاولة واحدة كل 89 يوماً. ونجح نحو نصفها.

وحاضراً، لا يزال الحكم الدستوري والمدني هشاً في معظم أنحاء القارة. على مدى السنوات الخمس الماضية، شهد غرب أفريقيا على وجه الخصوص عودة الانقلابات العسكرية واضمحلال سيادة القانون. في تلك المنطقة وأجزاء أخرى من أفريقيا، يبدو أن الاعتماد المفرط على التعاون العسكري مع قوى أجنبية كفرنسا وروسيا والولايات المتحدة قد شجع عناصر قوات الأمن القومي على توجيه أسلحتهم نحو أبناء وطنهم للاستيلاء على السلطة بدلاً من حماية شعوبهم والحدود ومحاربة الإرهابيين.

إذاً، لقد تضاءل النفوذ الخبيث للقوى الأجنبية لكنه لم يتوقف مع نهاية الاستعمار. خلال "الحرب الباردة"، تعاملت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مع أفريقيا على أنها ساحة للتنافس على الموارد، والمواقع العسكرية، والأصوات في الأمم المتحدة. غالباً ما شارك كلاهما الديكتاتوريين والفاسدين، في التقليل من أهمية الحكم الرشيد وتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان. وعلى رغم أن "البنك الدولي" وجه التمويل نحو حلفاء الولايات المتحدة في القارة، فإن عدداً قليلاً من تلك البلدان حقق إنجازات كبيرة في مجال التنمية. أصبحت المساعدات الخارجية المشروطة قوة فاعلة في السياسة الاقتصادية الأفريقية، مما عزز الاعتماد على الغرب اقتصادياً عوضاً عن التكامل القاري الذي تمس الحاجة إليه.

إذاً، لم يكن من قبيل المصادفة أن بدأت الحوكمة في أفريقيا في التحسن بعد انهيار "جدار برلين". [سقط في 1989، بعد أن فصل طيلة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وحلفائه وبين أوروبا والغرب. اعتبر سقوطه نهاية تلك الحرب].

وقد انتقلت بلدان كثيرة إلى انتخابات متعددة الأحزاب، واعتمدت دساتير جديدة تضمنت تحديد فترة الرئاسة. ووفقاً لأحدث ما أصدره "مؤشر إبراهيم عن الحوكمة في أفريقيا"، ونشرته المؤسسة التي أديرها [مؤسسة مو إبراهيم] في عام 2021، يعيش أكثر من 60 في المئة من سكان أفريقيا الآن في بلد تحسنت فيه الحوكمة بشكل عام على مدى العقد الماضي.

 

العقود الضائعة

على رغم أن تاريخ أفريقيا المضطرب من الاستعمار والتدخل في "الحرب الباردة" كان مدمراً ومؤلماً، فإن ذلك لا يمكن أن يفسر كل المشكلات التي تواجهها القارة حالياً. ويعني ذلك إن الفرص الضائعة والحوكمة السيئة والفساد وحتى الجرائم التي ارتكبها القادة الأفارقة، قد أعاقت تقدم القارة أيضاً. ويحل سوء إدارة الموارد الطبيعية الهائلة بين الأخطاء الأكثر كلفة. وقد شكل منتجو النفط والألماس على وجه الخصوص مثلاً قوياً على ما يجدر الامتناع عن فعله بالموارد الطبيعية، أي نهب ثروة الأمة، والاعتماد المفرط على "ريع" المعادن، وفي الوقت نفسه تهميش القطاعات الاقتصادية الأخرى.

قبل اكتشاف النفط وتطويره في نيجيريا، تمتعت البلاد بقطاع زراعي ناجح، ينتج ما يكفي من الغذاء لإطعام سكانها حتى اندلاع الحرب الأهلية في عام 1967. والآن، تعد نيجيريا مستورداً رئيساً للغذاء. في منحى مقابل، يجب أن تكون جمهورية الكونغو الديمقراطية من أغنى بلدان العالم بفضل ثرواتها الهائلة من النحاس والكوبالت والنفط، ولكن عوضاً عن ذلك، فهي فقيرة وضعيفة وتشكل موطناً لواحدة من أكبر بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، التي أصبحت بمثابة معلم دائم هناك.

على النقيض من ذلك، تبرز بوتسوانا كنموذج يحتذى للقارة، بديمقراطيتها السليمة وحكمها القوي. كانت بوتسوانا تنعم بالموارد الطبيعية، الألماس بشكل أساسي، وقد حظيت أيضاً بقادة عظماء كالرئيس كيتوميل ماسير، الذي قاد البلاد بين عامي 1980 و1998، والرئيس فيستوس موجاي، الذي خلف ماسير وتنحى بعد فترة رئاسته الثانية التي استمرت خمس سنوات في 2008. لقد خدم كلاهما شعبه بدلاً من ذاته. وإلى حد ما بفضل حكمهما الرشيد، تحولت بوتسوانا من واحدة من أفقر البلدان في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في أواخر ستينيات القرن العشرين، إلى صاحبة أعلى تصنيف في المنطقة من ناحية "مؤشر التنمية البشرية"، الذي يقيس التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة.

وللأسف، كان هناك نقص في الحكم الرشيد والقيادة النزيهة، ثم نالت أفريقيا نصيبها العادل من الطغاة والديكتاتوريين في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد نهبوا بلادهم، وأثروا عائلاتهم وأصدقاءهم، وقلصوا حقوق مواطنيهم. وعمل الزعماء الأسوأ سمعة على تغذية فكرة أن القارة بأكملها فاسدة، مما دفع المستثمرين الجادين إلى تجنب أفريقيا وتقاطر حشد من رجال الأعمال الفاسدين على القارة، بالتالي ألحق بالقارة أذى جسيماً لا تزال آثاره ملموسة حتى اليوم.

واستكمالاً، اعتبرت نهاية "الحرب الباردة" بمثابة بركة لأفريقيا، إذ فقد الطغاة كثيراً من قيمتهم أمام الغرب المنتصر. بدأت الولايات المتحدة وأوروبا في إيلاء مزيد من الاهتمام للفساد وحقوق الإنسان والديمقراطية، وفي معظم الحالات، جعلتا المساعدات مشروطة بإدخال تحسينات في هذه المجالات. ولكن، في ذلك الوقت، كانت القارة قد خسرت نصف قرن بسبب الفساد وسوء الحكم.

 

لا تزال مستبعدة

اليوم، لا تزال أفريقيا موجودة على هامش النظام العالمي، مستبعدة إلى حد كبير من المؤسسات الدولية، ويجري التعامل معها كحالة ميؤوس منها تستدعي المعالجة. وتجدر الإشارة إلى أن النظام الدولي الحالي المتعدد الأطراف، الذي أنشئ في نهاية الحرب العالمية الثانية، لا يمثل أو يخدم عالم اليوم بشكل فعال. ويتفق الجميع تقريباً مع هذا التقييم، بيد أن المجتمع الدولي يواصل تأجيل عمل اليوم للغد. وفي الواقع، كان من المفترض منذ فترة طويلة إلقاء نظرة جديدة على مهمة مؤسسات النظام العالمي وحوكمتها، كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

فلنأخذ مثلاً مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أصبح عاجزاً بسبب حق النقض الممنوح لأعضائه الخمسة الدائمين، وهم الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. لا يوجد من بين هذه البلدان بلد واحد يرغب في التخلي عن امتيازاته غير العادلة، حتى لو كان ذلك يعني شل مؤسسة حيوية. وكذلك تقدر جميعها على ارتكاب ما تريده والإفلات من العقاب، وتوفير الحماية للدول التابعة التي تسير في ركابها، مما يسمح بحصول الفظائع من دون عقاب وحماية الديكتاتوريين في أفريقيا وأماكن أخرى من التدقيق. إن حالة الحوكمة العالمية هذه غير مقبولة.

وعلى نحو مماثل، فإن مجموعتي "الدول السبع" و"الدول العشرين" للاقتصادات الكبرى تخذلان أفريقيا أيضاً. ولأسباب مفهومة، لا توجد أي دولة أفريقية بين الدول الأعضاء في مجموعة الدول السبع، وفي المقابل، هناك دولة واحدة فحسب، هي جنوب أفريقيا، ضمن مجموعة دول العشرين. وخلافاً للاتحاد الأوروبي، لا ينال الاتحاد الأفريقي مقعداً في أي من الطاولتين، وأحياناً يدعى إلى المشاركة على مائدة العشاء، لكنه لا يتلقى أي دعوة على الإطلاق إلى غرفة الاجتماعات، بالتالي إن هذه المعاملة لها عواقب وخيمة على أفريقيا، التي تلعب دوراً ضئيلاً وضعيفاً في تحديد المعايير الدولية التي تؤثر في كل شيء، من مكافحة الفساد إلى تمويل التنمية إلى تخفيف آثار تغير المناخ. ستكون النقاشات والقرارات في شأن تلك القضايا وغيرها أكثر إنصافاً وفاعلية إذا تعاملت مجموعتا السبع والعشرين مع أفريقيا باعتبارها شريكاً مساوياً لهما، عوضاً عن أن تمليا أوامرهما ببساطة عليها.

وفي سياق متصل، يطلب الأفارقة مزيداً من التعاون والمشاركة من الغرب في سياق سعيهم إلى محاربة الفساد. ففي نهاية المطاف، غالباً ما ينتهي الأمر بالأموال المسروقة من القارة، إلى البنوك الغربية. وتحتاج دول أميركا الشمالية وأوروبا إلى إنشاء سجلات عامة تحدد أولئك الذين يمتلكون أو يستفيدون من شركات سرية ومجهولة الهوية، بيد أنها امتنعت عن فعل ذلك، على رغم انتقادها الأفارقة بانتظام في شأن الفساد. والآن، تتذوق الدول الغربية قليلاً من مرها [تتجرع قليلاً من نفس تلك الكأس] عبر ما تكابده من أجل تتبع ممتلكات الأوليغارشية الروسية.

ووفقاً لأحد التقديرات التي أجرتها الأمم المتحدة، فالتدفقات المالية غير المشروعة إلى خارج أفريقيا، وسوء تسعير الصادرات والواردات، وتحويل الأرباح داخل الشركات المتعددة الجنسيات، كلفت البلدان الأفريقية أكثر من 88 مليار دولار سنوياً بين عامي 2008 و2017. ويتجاوز ذلك مبلغ الـ52 مليار دولار من المساعدات الدولية السنوية التي تلقتها القارة خلال تلك السنوات، مما يثير تساؤلات حول من كان يمول من. يجب على الدول الغربية أن تتحرك بسرعة من أجل سد الثغرات الضريبية والمصرفية التي تمتص دماء القارة الأفريقية.

يجب على الغرب أيضاً أن يأخذ حاجات أفريقيا التمويلية بجدية أكبر. في الواقع، تكافح البلدان الأفريقية للاقتراض في الأسواق المالية الدولية من أجل تمويل احتياجاتها الإنمائية أو التعامل مع أزمات كجائحة كورونا وتغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي. وينبغي على البلدان التي تنجح في الاقتراض أن تدفع أسعار فائدة عقابية تصل إلى عشرة في المئة. إذاً، لا عجب في أن الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقراً، حتى في وقت يحاضر فيه المسؤولون الغربيون الأفارقة حول عدم المساواة.

وينبغي لوكالات التصنيف الائتماني الدولية أن تسأل نفسها ما إذا كانت تقييماتها مستندة إلى الأحكام المسبقة أم الوقائع. في كثير من الأحيان، حينما تصنف الاقتصادات الأفريقية على أنها دون مستوى الاستثمار [أي أنها تشكل استثماراً عالي المخاطرة]، بالتالي تحرمها من التمويل الذي تشتد الحاجة إليه أو تجبرها على الاقتراض بمعدلات مدمرة، فإنها في الواقع تهندس تلك الإخفاقات التي تتوقعها. ووفق ما أشار إليه الخبير الاقتصادي جيفري ساكس أخيراً، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في غانا، البالغة 83.5 في المئة، هي أقل من تلك المسجلة في اليونان (206.7 في المئة) والبرتغال (130.8 في المئة). على رغم ذلك، صنفت وكالة "موديز" Moody’s غانا في مرتبة أدني بدرجات من البلدين الأوروبيين كليهما في عام 2021، بالتالي اندفع الدائنون صوب المبالغة في تقييم أخطار إقراض حكومة غانا، مع فرض سعر فائدة بـتسعة في المئة على السندات التي تستحق بعد عشر سنوات. في غضون ذلك، لم تدفع اليونان والبرتغال سوى 1.3 في المئة و0.4 في المئة على التوالي. وجاءت النتيجة متوقعة تماماً. ففي مراجعته لقدرة غانا على تحمل الديون في عام 2021، حذر "صندوق النقد الدولي" من أن البلد معرض لخطر شديد من ضائقة الديون مما يجعله عرضة للصدمات. وفي أغسطس (آب) 2022، خفضت وكالة فيتش Fitch  التصنيف الائتماني للبلاد إلى "سي سي سي" CCC، مما يشير إلى "جدارة ائتمانية عالية المخاطرة".

أخيراً، يجب على الدول الغربية تحمل المسؤولية الكاملة عن مساهمتها في أزمة المناخ والتوقف عن مطالبة الدول الأفريقية بالتضحية بأهدافها التنموية من أجل إصلاح مشكلة ليست من فعلها. لا يزال الأميركيون الشماليون يولدون ما معدله 14 طناً من انبعاثات الكربون للفرد سنوياً، بينما يولد الأوروبيون والصينيون سبعة أطنان. في المقابل، لا يصدر الأفارقة سوى 1.1 طن. على رغم ذلك، لا تزال الدول الغربية تقاوم الحل البديهي المتمثل بفرض كلفة على الانبعاثات والسماح لقوى السوق التي يقدرونها بأن تؤدي دورها. عوضاً عن ذلك، تركز الدول الغربية على تحقيق الحياد الكربوني من خلال "كفاءة الطاقة" [الاستعمال الكفء للطاقة] أو تشجيع الناس على تغيير أنماط حياتهم وسلوكياتهم من أجل تقليل الانبعاثات. يشكل ذلك نهجاً معقولاً بالنسبة إلى البلدان المتقدمة ذات الانبعاثات العالية، ولكن لا معنى له بالنسبة إلى البلدان صاحبة الانبعاثات المنخفضة التي لا يزال سكانها يفتقرون إلى ما يلبي حاجاتهم الأساسية من الطاقة.

 

أفريقيا موحدة

من أجل أن تستفيد أفريقيا من كامل إمكاناتها وطاقاتها، يجب على قادتها ومواطنيها التصدي لما يواجهونه من تحديات وأوجه قصور. أولاً وقبل كل شيء، يجب على أفريقيا تسريع تكاملها الاقتصادي. نعم، إن التقسيم التعسفي للقارة إلى 54 دولة غير مفيد، لكن لا رجعة فيه. لذا، فإن أفضل وسيلة للمضي قدماً تكمن في تعميق الروابط الاقتصادية والسياسية بينها. لقد بذل "الاتحاد الأفريقي" جهداً كبيراً من أجل ربط بلدان القارة معاً بشكل أوثق. ومثلاً، إن اتفاقية التجارة الحرة القارية التي أبرمها الاتحاد في عام 2018 تعد بتقليل الحواجز أمام التجارة وربما في يوم من الأيام إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، لكن هذا الالتزام الضخم لم ينفذ بشكل كامل وفاعل، ليس بعد.

على مدى سنوات، طرحت على الأفارقة سؤالاً بسيطاً. إذا قسمت الصين، التي يزيد عدد سكانها قليلاً على سكان أفريقيا، إلى 54 دولة يعتمد كل منها أنظمة وعملات مختلفة، فهل كان لها أن تتطور لتصبح القوة العظمى التي هي عليها اليوم؟ بالنسبة إلى الأسواق، يعتبر الحجم مهماً، لذلك يجب على الأفارقة الشراء والبيع بين بعضهم بعضاً. إنها الطريقة الوحيدة لتطوير اقتصاد القارة وجذب رأس المال الأجنبي. يتعين على الدول الأفريقية أن تتحد لإنشاء بورصة عموم أفريقيا، التي من شأنها تشجيع الاستثمار وتحسين قدرة وصول الشركات الأفريقية إلى التمويل.

واستطراداً، سيؤدي التكامل الأكبر والسوق الأضخم إلى تحفيز تنمية الصناعات الأفريقية، بما في ذلك صناعات الأدوية واللقاحات. كذلك فإن الدروس المستفادة من جائحة كورونا واضحة. في حالات الطوارئ، تعيد البلدان اكتشاف القومية، وتقيم الحواجز التجارية، وتسعى إلى وضع شعوبها في المرتبة الأولى. لا تزال البلدان الأفريقية تستورد ما يقرب من 95 في المئة من السلع الطبية والصيدلانية التي تستهلكها، و99 في المئة من اللقاحات الروتينية. في أوقات الأزمات العالمية، لا يمكنها الاعتماد على لطف الآخرين في ضمان بقاء شعوبها في صحة جيدة وأمان.

ومن هذا المنطلق، كان الوباء مفيداً. في أبريل (نيسان) 2021، حدد الاتحاد الأفريقي و"المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها"African Centers for Disease Control  هدفاً يتمثل بإنتاج 60 في المئة من اللقاحات التي ستحتاج إليها القارة بحلول عام 2040. وبمساعدة الاتحاد الأوروبي، تعمل أفريقيا الآن على إنشاء أو تعزيز ستة مراكز تصنيع في القارة، في مصر وغانا والمغرب ورواندا والسنغال وجنوب أفريقيا. إذا افترضنا أن الحكومات الأفريقية مستعدة للنهوض بالاستثمارات اللازمة، بما في ذلك في مجال الصحة العامة، فستعمل تلك المبادرات على تحسين الأمن الصحي في القارة وستتمكن ربما من خلق فرص عمل.

 

لا تزال أفريقيا تعامل بوصفها في حالة عجز شديد

 

في سياق متصل، ثمة حاجة ماسة إلى بذل جهود مماثلة في مجال الأمن الغذائي كي تصبح أكثر اعتماداً على نفسها، بحسب ما تبين من التعطيل في صادرات الحبوب والأسمدة الحيوية إلى أفريقيا بسبب الحرب في أوكرانيا. لفترة طويلة، تجاهلت أفريقيا قطاعها الزراعي، مما أدى إلى انخفاض غلة محاصيلها إلى ما دون المتوسط العالمي. يعتبر ذلك من بعض النواحي أخباراً سارة لأنه يعني أن هناك إمكانات هائلة لتحسين الأوضاع. في الواقع، لا تزال أفريقيا تمتلك أراضي صالحة للزراعة أكثر من بقية دول العالم مجتمعة، وهذا أيضاً خبر سار. في المقابل، ينبغي للقارة إعادة النظر في نموذجها الزراعي، الذي لا يزال يعتمد في الغالب على زراعة الكفاف [بمعنى الزراعة بكميات لا تزيد إلا بالكاد على الحاجات المباشرة للمزارعين وقراهم وجوارها]. يجب على الحكومات الأفريقية إعطاء الأولوية لأنظمة الإنتاج التي تفيد شعوبها أولاً. وبالطبع، يجب أن تستمر الصادرات، ولكن بطريقة لا تعرض الأمن الغذائي للخطر.

يجب على الدول الأفريقية رفع سلاسل القيمة في الزراعة والصناعات الأخرى كالتعدين. إن لم تفعل ذلك، فستستمر في الحصول على رسوم منخفضة نسبياً مقابل المواد الخام، بينما تجني البلدان الأخرى مكاسب أكبر بكثير من تصدير المنتجات النهائية [بمعنى أنها تصنع استناداً إلى المواد الأولية والزراعية، كالهواتف النقالة بالنسبة إلى المعادن] المبيعة بأسعار لا يستطيع كثير من الأفارقة تحملها. فمن غير المقبول أن يحصل مزارع أفريقي على بضعة سنتات مقابل الكاكاو المستخدم في صناعة لوح شوكولاتة يباع بأربعة دولارات في الغرب.

وهناك أيضاً حاجة ماسة إلى توفير الكهرباء. لا يزال نحو 600 مليون شخص في أفريقيا يعيشون من دون كهرباء. ومن دونها، لا مجال للتنمية والتعليم والصحة. وما زاد الطين بلة أن بعض البلدان ذات النوايا الحسنة ومؤسسات التمويل الإنمائي، عملت على الضغط من أجل إنهاء التمويل المخصص لمشاريع النفط والغاز في أفريقيا وأماكن أخرى. يبدو أن أياً منها لم يفكر في ملايين النساء والأطفال الأفارقة الذين أصيبوا بالمرض أو ماتوا بسبب استنشاق الأدخنة من الوقود غير النظيف المستخدم في الطهو. وتتدافع الدول الغربية الآن للحصول على الغاز الأفريقي تعويضاً عن فقدان القدرة على الوصول إلى الغاز الروسي. في المقابل ما زالت دول عدة لا ترغب في أن يطور الأفارقة مثل هذه الموارد لاستخدامهم الخاص.

في مقلب مغاير، تبلي أفريقيا بالفعل بلاء حسناً حينما يتعلق الأمر بالطاقة الخضراء. تعتمد 22 دولة أفريقية حالياً على الطاقة المتجددة، على غرار الطاقة المائية والطاقة الحرارية الأرضية، كمصدر رئيس للكهرباء، بيد أن مصادر الطاقة المتجددة وحدها لا تستطيع تلبية الحاجة الهائلة والمتنامية إلى الطاقة في جميع أنحاء أفريقيا. من أجل سد هذه الفجوة، يجب أن تكون أفريقيا قادرة على الاستفادة من ثرواتها من الغاز الطبيعي، وذلك بالطبع إلى جانب تسريع تطوير الطاقة المتجددة. سيتطلب ذلك من الحكومات الأفريقية وشركائها تخصيص موارد من أجل رفع مستوى تخزين الغاز ونقله وتوزيعه. في غياب استثمار من هذا النوع، لن تتمكن أفريقيا من تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة أو أهداف التنمية الخاصة بأجندة 2063 التي حددها الاتحاد الأفريقي.

أخيراً وليس آخراً، هنالك التركيبة السكانية. يحب الأفارقة التباهي بنسبة الشباب المرتفعة بين السكان والمزايا المتعددة المترتبة عن ذلك، من بينها القوة العاملة القوية، والسوق المتنامية، والنشاط، والروح الإبداعية، بيد أن ما يسمى العائد الديموغرافي هو سيف ذو حدين، لا يؤتي ثماره إلا إذا تعلم الشباب وتلقوا تدريباً يخولهم النجاح في اقتصاد القرن الحادي والعشرين. والجدير بالذكر أن معدل البطالة بين الشباب الأفريقي مرتفع ومتصاعد، مما يشكل خطراً على استقرار البلدان الأفريقية والبلدان الأخرى أيضاً، إذ إن الشباب العاطلين عن العمل الذين فقدوا الأمل، غالباً ما يختارون الهجرة بشكل غير قانوني وينضمون أحياناً إلى جماعات إجرامية أو إرهابية. إذاً، يجب على الحكومات الأفريقية أن تخلق بيئة تسمح لهم بالنجاح في قارتهم، وزيادة إمكانية الحصول على الكهرباء، وإنشاء البنية التحتية اللازمة، وتعزيز الحكم وسيادة القانون. وبطريقة موازية، يجب عليها تحسين الوصول إلى تنظيم الأسرة والحد من اعتباره من المواضيع المحرمة. فإذا تجاوز النمو السكاني معدل النمو الاقتصادي، وفق ما عليه الحال في كثير من البلدان الأفريقية، فسوف تستمر شعوبنا في التراجع عوضاً عن إحراز تقدم.

 

سبيل للارتقاء

من أجل مواجهة تلك التحديات كلها، تحتاج أفريقيا إلى تحسين الحوكمة وانتخاب قادة أفضل. نحن الأفارقة بحاجة إلى التوقف عن الشكوى من ماض لا يمكننا أن نفعل شيئاً لتغييره والبدء في التركيز على المستقبل الذي يمكننا رسمه بأيدينا. نحن بحاجة إلى التطلع إلى الأمام، والعمل على تطوير أنفسنا، والاعتماد على ذاتنا. لا أحد غيرنا مسؤول عن مستقبلنا ومستقبل أطفالنا.

نأمل أن تعمل الدول الغربية أيضاً على تحسين نظم حوكمتها، وتكون أكثر صدقاً وشمولية في تعاملاتها مع أفريقيا، وتقدر نسبة قلة الثقة التي ولدها سوء السلوك الماضي والنفاق الحالي. ثمة دلائل واعدة على أن الجانبين كليهما قد بدأ يتحدث مع الآخر عوضاً عن أن يتجاهل أحدهما الآخر. في فبراير (شباط)، نهض الرئيس السنغالي ماكي سال، رئيس الاتحاد الأفريقي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الاتحاد الأوروبي، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، بأمر استضافة القمة السادسة بين الاتحادين الأوروبي والأفريقي في بروكسل. وبدلاً من أن يلقي رؤساء الدول خطابات لا نهاية لها غالباً ما تستهلك كل الوقت المتاح في القمم العالمية، تضمن ذلك الاجتماع سلسلة من حلقات النقاش الموضوعية والتفاعلية التي تركز على القضايا الحيوية، المثيرة للجدل في معظم الأحيان، على غرار الأمن والصحة والتمويل والهجرة والزراعة. والتزم القادة الأفارقة والأوروبيون شراكة متساوية وحكماً أفضل. دعونا نأمل أن ينفذ الجانبان تلك الالتزامات حتى نتمكن في يوم من الأيام من النظر إلى تلك القمة السادسة بوصفها بداية جديدة.

 

*محمد إبراهيم، مؤسس ورئيس "مؤسسة محمد إبراهيم" والشريك المؤسس والرئيس المشارك لـ"مؤسسة أفريقيا- أوروبا". هو رجل أعمال سوداني المولد، أسس شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية "سلتل" Celtel في عام 1998.

 

مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر (تشرين ثاني)/ ديسمبر (كانون أول) 2022

المزيد من آراء