Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصة باتيومكين الذي نقلت السلطات الموالية لروسيا رفاته من خيرسون

مع دنو القوات الأوكرانية من أطراف المدينة قامت السلطات الموالية للكرملين بنقل تمثاله وبقاياه ومعها أنصبة لعدد من رموز الحقبة القيصرية

نجا باتيومكين من السلطات الأوكرانية لكنه لم يصمد أمام الغزو الروسي (ويكيميديا)

منذ شهر تقريباً أعلنت سلطات مدينة خيرسون الموالية لروسيا عن نقلها نصباً تذكارية كانت موجودة في المدينة لشخصيات يعود معظمها إلى الحقبة القيصرية، وهي الأدميرال فيودر أوشاكوف، ومارشال ألكسندر سوفوروف، والجنرال السوفياتي فاسيلي مارغيلوف، وأهمها تمثال للدوق غريغوري باتيومكين الذي قامت السلطات أيضاً باستخراج رفاته من قبره.

بخلاف مارغيلوف – الوحيد من الحقبة السوفياتية - فإن الشخصيات الأخرى لعبت دوراً محورياً في بسط السيطرة الروسية إبان حكم الإمبراطورة كاترين الثانية والمعروفة بالعظيمة على الأراضي التي تشكل الآن جنوب أوكرانيا، وكانت في حينها أراضي عثمانية. ومن بين هذه الشخصيات الأخيرة غريغوري باتيومكين أكثرها إثارة للإعجاب، خصوصاً أن السلطات الروسية الحالية رأت ضرورة في سحب بقاياه إلى مكان "آمن"، لكن لا يزال مجهولاً، وهو أمر معبر جداً لأننا يمكننا إدراج هذه الخطوة ضمن عملية استئصال الآثار الروسية من أوكرانيا وهي تهمة يوجهها الكرملين نفسه مراراً وتكراراً إلى كييف.

غريغوري باتيومكين

مما لا شك فيه أن باتيومكين واحد من أهم الشخصيات التي عاصرت حكم كاترين الثانية وعشيقها الأبرز ومستشارها الأهم لعقود، والذي دفع بعديد من القرارات السياسية ليس أقلها التوسع الروسي في جنوب أراضي أوكرانيا الحالية بما فيها القرم، مما أكسبه ألقاباً شرفية عديدة أهمها دوق تافريد، وهو الاسم الذي عرفت به شبه جزيرة القرم والمقاطعات المحاذية لها.

أسهم باتيومكين في وصول كاترين إلى الحكم عبر الانقلاب على زوجها الإمبراطور بطرس الثالث، وبعدها بسنوات أعجبت به عندما رأته في أحد المراسم العسكرية، والتي كانت الإمبراطورة تنظمها من أجل اختيار عشيق جديد لها. خيارها كان موفقاً للغاية، وتحول العشيق إلى الحاكم الخفي للبلاد الروسية، كان حاذقاً جداً ووجه كاترين لاتخاذ قرارات التي كان يراها مهمة لروسيا، وكانت كاترين مغرمة به بالفعل، بل إن هناك اعتقاداً شبه موثوق بأن الاثنين تزوجا سراً (عام 1875).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طبيعة باتيومكين المفعم بالنشاط والحياة والطموح لم تسمح له بالبقاء طويلاً في القصر برفقة محبوبته، وعلى رغم فراقهما فقد بقية "أصدقاء" وعلى تواصل مستمر ومحبة دائمة حتى وفاته عام 1791، لا بل إنه وبعد تركه القصر مارس نفوذه في فرض العشاق الذين يثق بهم على كاترين لكي يطمئن بأنها في أيدٍ أمينة.

خلال هذه السنوات الطويلة، وأثناء عمله في المقاطعات الروسية الجنوبية، عمل على إقناع كاترين بشن الحروب على الإمبراطورية العثمانية والسيطرة على بقية المنافذ البحرية على البحر الأسود، وقاد هذه الحروب بنفسه وتحقق له مراده في عام 1783 مع إخضاع خان القرم، الذي كان يخضع لنفوذ الدولة العثمانية للسيطرة الروسية.

باتيومكين في منظور بوتين

لطالما ردد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن أوكرانيا مصطنعة والبلاشفة ولينين هم من قاموا بترسيم الحدود بشكل تعسفي ترك كثيراً من الأراضي الروسية الأصيلة وسكانها الروس داخل حدود الجمهورية السوفياتية الجديدة (أي أوكرانيا السوفياتية). وهو أمر صحيح فعلاً، لا بل إن الحدود التي ما فتئ القادة الشيوعيون يرسمونها، وخصوصاً ستالين، كانت لا تمت بالواقع الإثني الحقيقي بأي صلة، كما في القوقاز أو آسيا الوسطى. والحروب أو الاشتباكات العسكرية المتواترة التي تشهدها تلك المناطق اليوم هي هذه الورثة الثقيلة التي تركها الحكم الشيوعي عبر رسمه حدوداً افتراضية على أهوائه.

 

باتيومكين قد يكون أحد المثل العليا بالنسبة لبوتين، فالأخير ذكر بطرس الأكبر وكاترين الثانية ضمن القياصرة العظام. ربما يريد بوتين أن يكون مثل باتيومكين أن يقنع الشعب الروسي بالمغامرة، وأن يكون هو البطل الذي يسيطر على الأراضي نفسها التي ضمها دوق تافريد إلى روسيا. بوتين أنجز نصف المهمة في 2014، حين ضم القرم، وها هو يسلخ جنوب أوكرانيا وشرقها عن الدولة المجاورة ليصبح خطوة أقرب إلى باتيومكين. إنه حلم يتحقق، تاريخ يعيد نفسه بعد 230 سنة، أم هو في الحقيقة محاولة لإحياء الماضي والعيش فيه، بينما العالم بأجمعه يعيش في قيم وأفكار مختلفة؟

ماذا يفعل رمز إمبريالي روسي في أوكرانيا المستقلة؟

قصة تمثال باتيومكين في خيرسون تحاكي ما عايشته تلك المنطقة من تبدلات. كانت كاترين من أوائل من أبدوا الرغبة بتشييد تمثال للدوق وهو لا يزال حياً يرزق. وكررت الرغبة عقب وفاته، لكنها لم تتحقق إلا في عام 1836. عند مجيء البلاشفة إلى الحكم، وكما عاملوا معظم رموز القيصرية، فقد تمت تغطية التمثال، ثم أزيل ونقل في عام 1927 إلى باحة أحد المتاحف، وانتصب مكانه كارل ماركس. وفي الحرب العالمية الثانية، وبعد تحرير المدينة من الاحتلال النازي "الفعلي"، لم يعثر على التمثال.

التمثال الحالي الذي نقله الروس أخيراً شيد في عام 2003 (قبل عام من الثورة البرتقالية الأوكرانية، التي جاءت برئيس موالٍ للغرب) حين كانت تحتفل خيرسون بعيد الـ225 للمدينة. وحصل هذا أثناء تولي فلاديمير سالدو منصب عمدة المدينة، وللتذكير فإن سالدو هو اليوم المتعاون الأبرز مع السلطات الروسية ويشغل منصب القائم بأعمال حاكم مقاطعة خيرسون.

 

يبدو اليوم غريباً، وبعد كل العدوانية الروسية تجاه السلطات الأوكرانية التي انبثقت بشكلها العسكري بعد ثورة "ميدان أوروبا" في 2014، أن ترى رموزاً للعصر الروسي القيصري والسوفياتي في أوكرانيا، ولكنها فعلياً موجودة بكثرة، جزئياً لارتباطها بتاريخ تلك الأنحاء، وجزئياً لأنه كانت هناك بالفعل مشاعر موالية لروسيا (هنا يكفي النظر إلى خريطة الانتخابات الأوكرانية بين 1991 و2014 وحتى 2019 لنرى انقسام الناخبين في توجهاتهم بين غالبية تميل إلى التقارب مع روسيا في شرق وجنوب البلاد من جهة وغالبية تتبنى توجهات وطنية في وسطها وغربها من جهة أخرى)، لكن هذا أصبح في الماضي.

وإذا استشهدنا بالخطاب الروسي الرسمي يمكننا القول إن باتيومكين وأصدقاءه نجوا من السقوط والتدمير أثناء الحكم "النازي" لأوكرانيا، والذي جاء الجيش الروسي لاستئصاله. نجوا من الحكم "النازي"، ولكنهم لم يستمروا طويلاً إبان الحكم الروسي "المتسامح"، يا لها من مفارقة. مفارقة يمكن رؤيتها في كثير من الأمور التي كشفت عنها الحرب، ليس أقلها أن القسم الناطق بالروسية في أوكرانيا كان الضحية الأبرز للتدخل الروسي العسكري، هو يشكل القسم الأكبر من اللاجئين في أوكرانيا والخارج (لأن الحرب تجري في مناطق انتشارهم)، وهم الذين تضررت بيوتهم وأعمالهم بالدرجة الأكبر للسبب السابق نفسه. ونبقى أن نتساءل من الذي أسهم في اضطهاد الروس الأوكرانيين أكثر، السلطات الأوكرانية أم الكرملين؟

المزيد من تحلیل