Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العزوبية في مصر: حين يصبح الزواج "مخاطرة"

متخصصون: تزايد حالات الطلاق بالمحاكم وارتفاع كلفة المعيشة والانفتاح في العلاقات وانتشار منصات التواصل عززت "الهروب"

تأخر سن الزواج لدى الرجال أصبح أمراً مألوفاً وشائعاً في مصر (رويترز)

ملخص

قرر الشاب المصري العزوف نهائياً عن فكرة الارتباط والاستقلال بنفسه بالعيش في شقة منفردة بعيداً من أسرته، بعد أن فشلت كل محاولاته في إيجاد شريكة حياته لعدم وجود المواصفات التي حددها ومغالاة كثير من أسر الفتيات في كلفة الشبكة والمهور وارتفاع سقف الطموحات بشراء شقة تمليك أو إيجار جديد ضمن منطقة راقية واشتراط أن يكون الفرح في أكبر الأندية، فيما لا يملك الإمكانات المادية التي تؤهله لتنفيذ تلك المتطلبات.

على رغم إلحاح أسرته وأصدقائه على ضرورة البحث عن شريكة حياة بعدما تخطى عمره 40 سنة، فإن مهند الغازولي (اسم مستعار)، رفض الإنصات إلى هذه النصائح ضارباً بها عرض الحائط، وظل متمسكاً بقراره بالعزوف عن الزواج نهائياً، مفضلاً أن يكمل حياته عازباً، هرباً من أية مسؤوليات أو التزامات مادية تعكر صفو حياته.

وفضل الغازولي منذ تخرجه الجامعي وعمله في مجال التدريس، أن يعيش برفقة والده ووالدته بعد زواج شقيقاته الثلاث، ينعم بالحرية في تحركاته مع أصدقائه في السهر على المقاهي والسفر إلى المدن الساحلية ومشاهدة الأفلام السينمائية والعروض المسرحية ومباريات كرة القدم، من دون التقيد بأية ضغوط معيشية أو أعباء إضافية ناجمة عن تدبير كلفة لوازم الفرح ونفقات المهر والشبكة والتزام مصاريف المنزل الشهرية وإيجار الشقة ونفقات الأطفال ومصاريفهم الدراسية، متسائلاً "كيف أتمكن من تكوين أسرة وأنا أتقاضى راتباً شهرياً لا يتخطى الـ 10 آلاف جنيه (210.44 دولار)؟".

لم يكترث الغازولى لسخرية زملائه في العمل وتنمرهم بوصفه "رجلاً عانساً" أو "فاته قطار الزواج" في بعض الأحيان، وعلى رغم أن ذلك كان يضعه كثيراً في "حرج اجتماعي" مع المحيطين حوله ويجعله يشعر نفسياً بالضيق والضجر، فإنه مع مرور الوقت بدأ يتعامل معه بنوع من "اللامبالاة" وعدم الاهتمام، مفضلاً الصمت والتجاهل لعدم الاحتكاك بهم أو الاشتباك معهم لفظياً أو الدخول في مناوشات كلامية.

كان الغازولي يتنفس الصعداء، ويشعر بارتياح أنه اتخذ القرار الصائب، كلما طالع نبأ في صحيفة أو موقع إلكتروني أو شاشة التلفاز عن تزايد عدد نسب الطلاق أو لجوء زوجة إلى المحكمة للخلع أو ارتكاب جرائم أسرية، بسبب الخلاف على مصاريف المنزل.

ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، الصادرة مطلع ديسمبر (كانون الأول) الجاري،  بلغ عدد حالات الطلاق 273 ألفاً و892 حالة عام 2024، مقابل 265 ألفاً و606 حالات عام 2023 بنسبة زيادة 3.1 في المئة، ووصل إجمال عدد أحكام الطلاق النهائية إلى 14 ألفاً و195 حكماً نهائياً، من بينهم 11 ألفاً و906 حالات طلاق بسبب الخلع.

لا تراجع عن العزوبية

حال عمرو يوسف (47 سنة) الذي يعمل مهندساً في إحدى شركات البرمجيات، لا تختلف كثيراً عن الغازولي، إذ قرر أيضاً العزوف نهائياً عن فكرة الارتباط والاستقلال بنفسه بالعيش في شقة منفردة بعيداً من أسرته، بعد أن فشلت كل محاولاته في إيجاد شريكة حياته لعدم وجود المواصفات والمقاييس التي حددها ومغالاة كثير من أسر الفتيات في كلفة الشبكة والمهور وارتفاع سقف الطموحات بشراء شقة تمليك أو إيجار جديد ضمن منطقة راقية واشتراط أن يكون الفرح في أكبر الأندية، فيما لا يملك الإمكانات المادية التي تؤهله لتنفيذ تلك المتطلبات.

وكان من أكثر المعوقات التي تعرقل يوسف وتقف حائلاً أمام إتمام زواجه، اشتراطه رفض فكرة عمل الزوجة وأن تسخر وقتها له وأبنائه، مما اعترضت عليه الفتيات لرغبتهن في إثبات ذاتهن، فكان ينصرف مبكراً قبل الدخول في تفاصيل الزواج، إضافة إلى غلاء المعيشة والأسعار الجنونية التي طاولت غالبية السلع والمستلزمات الغذائية بصورة تشعره بالعجز عن تلبية متطلبات وحاجات أسرته في المستقبل، قائلاً "العيش عازباً أفضل من تدمير مستقبل أسرة بأكملها وعدم القدرة على الإنفاق عليها والعيش حياة كريمة".

أما محمود العلوي (اسم مستعار) الذي تخطى الـ39 من عمره، فيتخوف من تكرار تجربة انفصال والديه، نتيجة شخصية والدته القوية وتحكمها في مقاليد الأمور بالمنزل، مما رفضه والده، لتنتهي العلاقة بالانفصال والوقوف أمام ساحات المحاكم.

وتركت تلك التجربة المريرة آثارها السلبية لدى العلوي، وجعلته يشعر بصدمة بالغة، أجبرته على الذهاب إلى طبيب نفسي للتخلص من آلامها، ليتخذ قراراً حينها بعدم الارتباط بفتاة لديها السمات الشخصية نفسها التي تشبه والدته، مما أعاقه كثيراً عن فكرة الزواج والارتباط بفتاة.

 

وعلى رغم محاولات زملائه المقربين لإقناعه بالتراجع عن فكرة "العزوبية" من أجل إنجاب أطفال والتخلي عن التمسك بالمواصفات التي حددها للفتاة، فإن محاولاتهم باءت بالفشل، فهو يعتقد بأن تجربة الزواج أصبحت "فاشلة" بكل المقاييس، وستنتهي في ساحات المحاكم في غالب الأحيان، والأطفال من سيدفعون الثمن ويتعرضون للتعذيب وتشريد مستقبلهم في النهاية.

وكان أكثر ما يعزز موقف العلوي من فكرة عدم الارتباط، حينما يستمع إلى شكاوى زملائه المقربين أو جيرانه في المنطقة من المشكلات المتكررة في علاقتهم الزوجية، إما بسبب مصاريف المنزل الباهظة، أو عدم القدرة على تلبية متطلبات الأسرة الشهرية، بسبب غلاء الأسعار، أو انفصال أحد جيرانه بسبب خلافات منزلية والدخول في مشكلات تتعلق بحضانة الطفل وعدم القدرة على رؤية أبنائهم بعد الانفصال.

وفي يوليو (تموز) عام 2018، سلطت صحف محلية الضوء على دراسة أعدها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بعنوان "العنوسة في مصر"، أشارت إلى أن لفظ "العنوسة" يطلق على الجنسين الذكور والإناث، وأن الشائع مجتمعياً إطلاق اللفظ على النساء، وأوضحت الدراسة أن انتشار تلك الظاهرة أدى إلى زيادة بعض الظواهر غير المقبولة اجتماعياً ودينياً مثل ظواهر الزواج السري والعرفي بين الشباب في الجامعات، والإصابة بأمراض نفسية، وبالنسبة إلى الرجال فقد دفعت بعضهم إلى الإقبال على إدمان المخدرات.

ووفق الدراسة، وصلت النسبة بين الذكور في الحضر إلى 6.8 في المئة مقابل 2.4 في المئة بالريف خلال عام 2017، فيما بلغت نسبة العنوسة للإناث 4.2 في المئة في الحضر، مقابل 2.6 في المئة بالريف، وأرجعت الدراسة ذلك إلى الوضع الاقتصادي الذي يتضمن غلاء المسكن، سواء كان مستأجراً أو مملوكاً بل كلف الزواج من مهر وتجهيز المنزل وغيرها من الالتزامات التي أدت إلى تقليل فرص الزواج، بخاصة في الحضر لعدم قدرة الرجل على تحمل كل هذه الأعباء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي هذا الصدد، يقول أستاذ الإحصاء في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتور حسين عبدالعزيز إن لفظ "عنوسة الرجل" مصطلح اجتماعي متعارف عليه وليس مصطلحاً إحصائياً، إذ يندرج في الإحصاءات الرسمية تحت مسمى "تأخر سن الزواج"، منوهاً أنه لا يمكن اعتبار هذا الأمر ظاهرة لأنه يرتبط في غالب الأوقات بالأوضاع والمتغيرات الاقتصادية والظروف المعيشية، فإذا كانت تشهد تحسناً تتراجع تلك النسب والعكس صحيح أيضاً.

ويوضح عبدالعزيز خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن بعضهم يصف الرجل (مجازاً) حينما يصل عمره إلى 45 سنة من دون زواج أنه "عانس" في مجتمعه، مشيراً إلى أن متوسط الأعمار في سن الزواج ارتفع نسبياً للذكور والإناث، وكلاهما قد يتزوج في أعمار كبيرة إذا كانت لديهما الرغبة في ذلك.

ووفق تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادر أخيراً، سجلت أعلى نسبة زواج في الفئة العمرية (25 - 30 سنة)، إذ بلغ عدد العقود بها 384 ألفاً و166 عقداً تمثل 41.0 في المئة من جملة العقود، وبلغ متوسط سن الزوج 30.6 سنة عام 2024، وسجلت أعلى نسبة زواج في الفئة العمرية (20 - 25 سنة)، إذ بلغ عدد العقود بها 349 ألفاً و190 عقداً تمثل 37.3 في المئة من جملة العقود، ووصل متوسط عمر الزوجة إلى 25.2 سنة.

مؤسسة سيئة السمعة

وتتحفظ أستاذة مناهج علم الاجتماع في جامعة عين شمس الدكتورة عزة فتحي على لفظ "عنوسة الرجل"، فتعتقد بأنها كلمة "سيئة السمعة"، موضحة أن الأدق هو مسمى "تأخر سن الزواج" الذي أرجعته إلى أسباب رئيسة عدة، أبرزها فشل كثير من الزيجات التي تنتهي في بعض الأحيان بالانفصال والوصول إلى ساحات المحاكم، مما أحدث رعباً لدى كثير من الرجال للإقدام على تلك الخطوة، إضافة إلى الانفتاح في العلاقات داخل المجتمع الذي يعيش فيه بعض الرجال، ووضع مقاييس وشروط محددة للفتاة التي يرغب في الارتباط بها، علاوة على التهرب من المسؤولية، فضلاً عن الضغوط الاقتصادية التي تجعله متخوفاً من عدم القدرة على الإنفاق على أسرته في المستقبل.

وفي تقدير فتحي خلال حديثها إلى "اندبندنت عربية"، فإن كثيراً من الرجال يرفضون تدخلات الأسرة في إقناعهم بالزواج، وتشير إلى أن كثيراً من الذكور يتخوفون من جلسات مقابلة أسر الفتيات وارتفاع سقف طموحاتهم بدءاً من المغالاة في المهور وكلف الفرح وقضاء شهر عسل في أغلى الأماكن الساحلية، فضلاً عن اشتراط تجهيزات محددة للشقة، مما يجعل كثيراً منهم ينصرفون عن تلك التجربة ويفضلون حياة "العزوبية"، هرباً من تلك الالتزامات المادية المرهقة، مردفة أن "هناك قناعة لدى كثير من الشباب بأن نسبة الفشل في العلاقة الزوجية أكبر من النجاح، مما يجعلهم ينصرفون عن تلك التجربة".

وفي رأي فتحي، فإن انتشار منصات التواصل الاجتماعي والإنترنت والأفلام الإباحية أسهم في إحداث تغيرات فكرية لدى بعض الرجال وتسبب في زيادة نسب تأخر سن الزواج، ولفتت إلى انتشاره في الحضر أكثر منه في القرى والأرياف.

 

"الرجل لا يعد عانساً لأنه يملك قرار الزواج واختيار توقيته، عكس الفتاة إذا لم يقبل إليها الأزواج، فلن تلحق بالقطار وستصبح عانسة"، هكذا تعقب أستاذة علم الاجتماع في جامعة بنها الدكتورة هالة منصور، وتشير إلى أن ما يميز الرجل عن المرأة في هذا الجانب أنه حينما يأخذ قراره الشخصي يستطيع الزواج وتكوين أسرة في أية سن، مردفة "الرجل لديه اطمئنان أنه سيتزوج تحت أية ظروف فلا يتعرض لأية ضغوط مطلقاً ولا يشعر بالقلق من تأخر الارتباط".

وتعزو منصور خلال حديثها إلى "اندبندنت عربية" انصراف كثير من الشباب عن الارتباط إلى وجود خلل في الاختيار، وسوء سمعة مؤسسة الزواج وارتباط تلك الفكرة في عقول كثير من الرجال بالمشكلات والصراعات التي تنتهى بالطلاق، مما يجعلهم ينصرفون عنها.

ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن نسب الزواج في البلاد تراجعت بمعدل 2.5 في المئة خلال عام 2024، مقارنة بالعام السابق له، وسجلت أعلى نسبة طلاق في الفئة العمرية (35- 40 سنة)، إذ بلغ عدد الإشهادات بها 47 ألفاً و367 إشهاداً بنسبة 18.2 في المئة، بينما سجلت أقل نسبة طلاق في الفئة العمرية (18- 20 سنة)، إذ بلغ عدد الإشهادات بها 356 إشهاداً بنسبة 0.1 في المئة من جملة الإشهادات، ووصل متوسط سن المطلق إلى 40.8 سنة عام 2024.

وفي تقدير نقيب الاجتماعيين الدكتور عبدالحميد زيد، فإن تغير المزاج العام بالنسبة إلى أولويات الزواج لدى بعض الرجال في الوقت الراهن يعود في المقام الأول لما أحدثته ثورة التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي ومتغيرات العولمة ودخول ثقافات غربية على المجتمع التي أسهمت بدورها في إزالة الحواجز بين الشعوب والثقافات، فأصبح الشباب متأثراً بمصادر القيم الغربية ويستحسن وجود نماذج بديلة للمعيشة من دون الارتباط أو تكوين أسرة أو التقيد بأعباء المسؤولية، وأضاف أن فكرة الحرية باتت تداعب كثيراً من أحلام الشباب، ولا سيما إذا كانوا يمتلكون القدرة على إقامة علاقات منفتحة ولديهم صداقات متعددة مع الفتيات، قائلاً "أصبح الشاب يحرص في أولوياته على امتلاك عربية أو شقة بدلاً من تكوين أسرة وإنجاب أطفال".

ويرى نقيب الاجتماعيين خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن بعض الرجال أصبحت لديهم نزعة "عشق الذات" والأنانية والتهرب من المسؤولية الجماعية، وعزز ذلك تزايد الضغوط المعيشية والأوضاع الاقتصادية، مما جعل فكرة "العزوبية" الملاذ الآمن لكثير من الرجال.

ونفسياً، يرى رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي الدكتور ممتاز عبدالوهاب أن تأخر سن الزواج لدى الرجال أصبح أمراً مألوفاً وشائعاً، ونوه أنه أحد مظاهر وعلامات الخلل النفسي والاجتماعي لدى بعض الرجال، مشيراً إلى أن المتعارف عليه أن يسعى الرجل إلى الزواج والارتباط وتكوين أسرة وحياة اجتماعية والرغبة في إنجاب الأطفال، لكن حين يتخذ قراراً بالعزوف عن الارتباط، فهذا يعني أنه يواجه معوقات إما اجتماعية تتمثل في عدم قدرته على الإنفاق على كلف الزواج أو المهور أو مصاريف المنزل، أو مشكلات نفسية ناجمة عن عدم استطاعته التجاوب مع الجنس الآخر أو إقامة علاقات معه أو رغبة في التهرب من المسؤولية والرغبة في الحرية من دون التقيد بأية أعباء.

وفي تقدير عبدالوهاب، فإن عزوف الرجل عن الزواج سواء بإرادته أو هرباً من المسؤوليات وأعباء الحياة، يتحول في المجتمع المحيط به في كثير من الأحيان إلى ما يشبه "الوصم المجتمعي"، ويتوقف هذا الأمر على حسب قدرات الرجل ذاته، فإذا كانت لديه علاقات جيدة ومنفتحة على من حوله ووضعه الوظيفي والتعليمي لائقاً فسيتعاملون معه بقدر من الوعي وفهم أسبابه، أما إذا كانت لديه مشكلات مع المحيطين به، فسيتحول الأمر في كثير من الأحيان إلى موضع تنمر وسخرية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات