Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يعقد "أمد الحروب" حلول "فض الاقتتال"؟

الصراعات الطويلة والشاملة لم تنته بنصر حاسم لأي من أطرافها بعكس تلك "المحدودة والخاطفة"

دائماً ما يكون اختبار السياسة هو كيف تنتهي الحروب وليس كيف تبدأ (أ ف ب)

بين أيام وأسابيع وحتى أشهر أو سنين، لطالما كان أمد الحروب والصراعات التي شهدها العالم ولا يزال، لا سيما تلك التي توصف بـ"الشاملة"، مؤشراً على مدى تعقيد المشهد وتعدد أطرافه، ومن ثم نتائجه وتبعاته.

ولم تكن الحرب الروسية- الأوكرانية الدائرة في جغرافية الجمهورية السوفياتية السابقة استثناء من تلك القاعدة، بعد اقتراب دخولها الشهر التاسع على بدء شراراتها في فبراير (شباط) الماضي، واحتدام منعطفاتها بين موسكو والغرب.

فمن الحرب في شبه الجزيرة الكورية في خمسينيات القرن الماضي، مروراً بـ"أزمة قناة السويس" وحرب "الأيام الستة" وبعدها "حرب أكتوبر" عام 1973، وأيضاً "حرب فيتنام" و"الحرب الإيرانية العراقية" وغيرها من حروب القرن الحادي والعشرين، كالحرب الأميركية على "الإرهاب"، وما شهدته جورجيا وأوكرانيا، يبقى العالم دائماً على موعد مع مواجهة "صراعات وأزمات معقدة وغير متوقعة".

وبحسب أحدث تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري"، في مايو (أيار) الماضي، "تضاعفت النزعات المسلحة بين الدول بين 2010 و2020 ووصلت إلى 56 نزاعاً، كذلك زادت الرؤوس الحربية النووية في 2020، بعد سنوات من التخفيض، بالتوازي مع تجاوز الإنفاق العسكري العالمي في عام 2021، تريليوني دولار لأول مرة على الإطلاق".

وبقدر التحديات الماثلة باستمرار حول خطر نشوب نزاع عسكري أو حرب بين الدول، تبقى الإشكالية الكبرى في القدرة على التوصل لـ"حلول سريعة أو اتفاقات شاملة" بشأنها، وبحسب ما يرويه وزير الخارجية الأميركي السابق ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر، في نظريته المرتبطة بفض المنازعات، فإن "الحروب لا تنتهى حقاً إلا حين يصل الطرفان إلى وضع يسمح لكل منهما بأن يحقق انتصاراً على الآخر حتى يكاد يتساوى الانتصار مع الهزيمة على الجانبين".

وهو ما يتوافق كذلك مع توضيح أحد أشهر المؤرخين العسكريين حول العالم، وهو المؤرخ البروسي كارل فون كلاوزفيتز، حين وصف الحرب بأنها "حرباء حقيقية قادرة على تغيير لونها بشكل دائم، وتوفيق مظهرها ليتواءم مع الظروف الاجتماعية والسياسية المتقلبة التي تشن بمقتضاها"، معتبراً في كتابه الأشهر "عن الحرب"، أن "الحرب ليست سوى استمرار للسياسة، لكن بوسائل أخرى".

عالم لم "يهدأ"

على الرغم من حجم الفظائع التي شهدها العالم في الحرب العالمية الثانية، التي دامت ست سنوات من القتال وخلفت نحو 17 مليون قتيل من العسكريين، وأضعاف ذلك من المدنيين، لم تتمكن منظمة الأمم المتحدة من تجنيب العالم ويلات الحروب والصراعات.

فعلى مدار العقود السبعة التي تلت نشأة الأمم المتحدة، شهد العالم أكثر من حرب على المستويات الإقليمية امتد عمرها لسنوات، وكان دائماً على موعد مع احتمالات خروجها إلى المستويات العالمية، مهددة بشبح "حرب عالمية ثالثة".

من بين تلك الحروب الحرب في شبه الجزيرة الكورية (1950 حتى 1953) التي استمرت على مدار ثلاث سنوات وكانت بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية)، وجمهورية كوريا (كوريا الجنوبية) وفقد فيها ملايين الأشخاص حياتهم، وأخذت في بعض محطاتها أبعاداً دولية.

 

وكانت شرارة الأزمة مشتعلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك منذ أن اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك في أغسطس (آب) 1945 على تقسيم البلاد لأغراض إدارية عند خط عرض 38 درجة شمالاً، وبحسب دائرة المعارف البريطانية لم يتوصل الطرفان إلى صيغة من شأنها أن تنتج كوريا موحدة، وفي 1947 أقنع الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان الأمم المتحدة بتحمل المسؤولية عن البلاد، على الرغم من أن الجيش الأميركي ظل مسيطراً اسمياً على الجنوب.

مع استمرار المناوشات تصاعد التوتر بين الجانبين بحلول خريف 1948 حول خط عرض 38، ووصل القتال إلى مستوى "حرب حدودية محدودة" بين جيش جمهورية كوريا الجنوبية الذي كان قد تشكل حديثاً وشرطة الحدود الكورية الشمالية، إضافة إلى الجيش الشعبي الكوري الشمالي، لكن بعد تشكيل جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية) في أغسطس 1948 برئاسة سينغمان ري، وإعلان كيم إيل سونغ قيام جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية) بدأت التوترات تأخذ منحى أكثر خطورة.

حرب السنوات الثلاث

تقول دائرة المعارف البريطانية إن الحرب الكورية اندلعت رسمياً في 25 يونيو (حزيران) 1950، بين كوريا الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفياتي إلى الشمال، وجارتها الجنوبية الموالية للغرب في الجنوب، وذلك قبل أن يتدخل الأميركيون في يوليو (تموز) من العام ذاته، على اعتبار أن تلك الحرب ضد "القوى الشيوعية العالمية"، وذلك بحسب ما أعلن حينها الرئيس الأميركي هاري ترومان قائلاً، "إذا خذلنا كوريا، فسيواصل السوفيات تقدمهم وسيبتلعون بلداً تلو الآخر".

وفيما كانت تتواصل المعارك بتدخل أميركي مباشر للجنوب، ودعم عسكري سوفياتي للشمال، بدت في بعض منعطفاتها أن تتحول لحرب عالمية شاملة مجدداً، إذ كان النزاع بالنسبة إلى الولايات المتحدة رمزاً للصراع بين الشرق والغرب وبين "الخير والشر"، وكان دخول بكين على خط المواجهة نذيراً بأبعاد أخرى.

ففي نهاية سبتمبر (أيلول) وأوائل أكتوبر (تشرين الأول) بدأ الصينيون في التعبير عن قلقهم إزاء ما وصفوه "بالعدوان المسلح على أراضيهم"، بعد أن عمد الأميركيون إلى اجتياز الحدود والتوجه إلى نهر يالو (يفصل بين كوريا الشمالية والصين)، وحينها أرسل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ قواته إلى كوريا الشمالية.

وحذر الزعيم الصيني الولايات المتحدة بضرورة الابتعاد عن نهر يالو إلا إذا كانت تريد خوض "حرب شاملة"، وبالفعل ففي أكتوبر 1950 عبرت قوات صينية النهر وانخرطت في الحرب إلى جانب كوريا الشمالية، ما أدى إلى تقهقر "القوات الدولية" (الأممية والأميركية).

ووفق عدد كبير من المؤرخين، لم يكن دخول الصين على الجبهة أمراً يريده الرئيس ترومان ومستشاروه، فقد كانوا متأكدين من أن توسع الحرب سيؤدي لا محالة إلى تحرك سوفياتي في أوروبا، واستخدام أسلحة نووية وملايين الخسائر، وذلك في وقت كان يعتقد فيه القائد العسكري الأميركي المكلف الإشراف على القتال في الساحة الآسيوية الجنرال دوغلاس ماك آرثر أن "أي حرب أضيق نطاقاً من حرب شاملة تعد تنازلاً للشيوعيين".

وخوفاً من اتساع دائرة المواجهة بين الشرق والغرب، شرع الرئيس ترومان في يوليو 1951 في محاولة للتهدئة، وبالفعل وقعت الأطراف المتحاربة في قرية بانمونجوم الحدودية على هدنة في 27 يوليو 1953، وبموجبها تشكلت "منطقة منزوعة السلاح" تفصل بين البلدين وتمتد مسافة 250 كيلومتراً ما زالت موجودة إلى اليوم، وما زال البلدان في حالة حرب.

"سنوات الدم" الفيتنامية

لم تكن تهدأ الحرب الكورية حتى اندلعت حرب فيتنام، التي تواصلت معاركها على مدار 20 عاماً (1955 حتى 1975)، وخلفت ملايين القتلى والجرحى والنازحين، وعدت أكثر الحروب دموية في آسيا منذ الحرب العالمية الثانية، وأحد أبرز حروب القرن العشرين إبان الحرب الباردة، التي دارت رحاها بين الولايات المتحدة والشيوعيين الفيتناميين.

تعود أسباب الصراع إلى حرب التحرير التي قادها الفيتناميون ضد المستعمر الفرنسي، التي استمرت ثماني سنوات (1946-1954)، وأعقبها تقسيم فيتنام إلى شطرين (شمالي وجنوبي) يفصل بينهما خط العرض 17، وفق ما أقره اتفاق جنيف 1954، لكن على الرغم من حضورهما في جنيف لم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها في الجنوب، وفور رحيل فرنسا من فيتنام بدأت أميركا مساعدة حكومة سايغون عسكرياً.

وفيما كانت حكومة هانوي الشيوعية في الشمال مصممة على إعادة توحيد البلاد، كان لاستمرار الدعم العسكري والمالي الأميركي للجنوب مسار توتر دائم، وبدأت الأوضاع تتخذ منحى مغايراً بعد أن أسس الثوار الجنوبيون "فييت كونغ" أول منظمة في دلتا ميكونغ في فبراير 1959، ثم تأسيس جبهة التحرير الوطني، في ديسمبر (كانون الأول) 1960، وهي الإطار التنظيمي السياسي والعسكري الذي تولى مهمة الحرب ضد أميركا وحكومة سايغون، ليتأجج بعدها الصراع ويبلغ مداه مع إعلان الحزب الشيوعي الفيتنامي الحاكم في الشمال مساندة الثورة الجنوبية وإمدادها بالعدة والعتاد.

 

في المقابل، مع أوائل الستينيات وعلى وقع الدعم السياسي والعسكري الأميركي للجنوب، بدأت أولى طلائع الجيش الأميركي في الوصول إلى العاصمة سايغون، وبلغ تعدادهم في العام التالي نحو 11 ألف جندي، كما أسست قيادة أميركية في الجنوب، وعليه أخذت الحرب بين الولايات المتحدة والثوار الجنوبيين المدعومين من الشمال منعطفات أكثر تصعيداً.

وبعد إطاحة الرئيس الجنوبي نغو دينه ديم، بانقلاب عسكري وتصفيته، في أواخر 1963، عرفت سايغون عشر حكومات عسكرية متعاقبة خلال 18 شهراً، لم تستطع أي منها ضبط الأوضاع الداخلية، وذلك في وقت كان "ثوار" جبهة التحرير يكثفون ضرباتهم.

ووفق ما تقول دائرة المعارف البريطانية، فمع ازدياد الانشقاقات بين النخبة العسكرية الحاكمة في سايغون، في صيف 1964، أمام التقدم العسكري السريع لجبهة التحرير الوطني، توصل الأميركيون إلى قناعة بأن "تدخلاً عسكرياً شاملاً هو المخرج لهم من هذه الحالة"، وعليه ازداد الوجود العسكري الأميركي في فيتنام ليبلغ في نهاية 1965 نحو 200 ألف جندي، ثم وصل في صيف 1968 إلى 550 ألفاً، وظلت واشنطن تضغط على هانوي عبر تكثيف قصفها للشمال من أجل ترك دعم الثوار الجنوبيين.

وعلى مدار ستينيات القرن الماضي، لم تتمكن هجمات الولايات المتحدة وقصفها المتواصل على الشمال من حسم المعركة، كذلك لم تجد دعوات الرئيس الأميركي ليندون جونسون للتفاوض استجابة، وبقيت الحرب مشتعلة، لكن مع وصول الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الحكم في 1969، وفيما كانت مفاوضات باريس جارية بين واشنطن والفيتناميين، أعلن أن 25 ألف جندي أميركي سيغادرون فيتنام في أغسطس 1969، وأن 65 ألفاً آخرين سيجري عليهم القرار نفسه في نهاية تلك السنة.

وكان لارتفاع الخسائر البشرية والمادية الأميركية في الحرب، فضلاً عن ضغط الرأي العام لإنهائها، وقعاً مؤثراً في السياسات الأميركية في المفاوضات مع الفيتناميين، وفي 25 يناير (كانون الثاني) 1972، أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون خطة للسلام تتضمن إجراء انتخابات رئاسية في الجزء الجنوبي من فيتنام، وهو ما لم يتوافق مع رغبات الشماليين، ما قاد لمزيد من الهجوم نحو الجنوب وتكثيف واشنطن لقصفها في الشمال.

وبقيت الحرب تأخذ مسارات مد وجزر حتى أعلن الرئيس نيكسون في 23 يناير 1973 عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم 28 من الشهر نفسه، قضى بوقف جميع أنواع العداء، وانسحاب القوات الأميركية من جنوب فيتنام خلال الشهرين التاليين، فضلاً عن الاعتراف بالمنطقة المنزوعة السلاح بين الشطرين على أنها موقتة لا أنها حدود سياسية.

إلا أن شهر مارس (آذار) 1973، لم يأت ومعه مغادرة آخر جندي أميركي فيتنام كما كان مخططاً، إذ انتهز الفيتناميون الشماليون فرصة الاضطرابات الداخلية في الولايات المتحدة ممثلة في فضيحة "ووترغيت" واستقالة الرئيس نيكسون، وشنوا هجوماً كاسحاً على الجنوب توج بدخول سايغون يوم 30 أبريل (نيسان) 1975.

شط الخليج "المشتعل"

في هذه الأثناء، وفي مكان آخر ملتهب من العالم اندلعت على مدار ثماني سنوات حرب الخليج الأولى، بعد اشتداد الخلاف بين العراق وإيران على ترسيم الحدود الخاصة في منطقة شط العرب المطلة على الخليج العربي، وهي منطقة غنية بالنفظ، وعدت تلك الحرب إحدى أطول حروب القرن العشرين، إذ بدأت في سبتمبر 1980، وانتهت في أغسطس 1988، وخلفت أكثر من مليون قتيل، وألحقت أضراراً هائلة في اقتصاد البلدين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبدأت حرب الخليج الأولى، التي أراد من خلالها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، تأكيد سيادة بلاده على ضفتي شط العرب الذي جرى تقاسم السيطرة عليه بموجب اتفاقية الجزائر بين البلدين عام 1975، فضلاً عن وقف تمدد الثورة الإيرانية، عندما غزت القوات العراقية في 22 سبتمبر 1980 غرب إيران على طول الحدود المشتركة بين البلدين، متذرعة بأن الخطوة تأتي رداً على قصف إيراني في الرابع من سبتمبر لعدد من النقاط الحدودية.

في سنوات الكر والفر بين الطرفين على خرائط البلدين الجغرافية، مثلت أبرز منعطفات سنوات الحرب مع جر العالم لمنعطفاتها، بعد أن تبادل طرفاها الهجمات على ناقلات النفط في الخليج، ودفعت هجمات إيران على ناقلات النفط الكويتية وغيرها أميركا وعديداً من دول أوروبا الغربية إلى نشر سفن حربية في الخليج لضمان تدفق النفط إلى بقية أجزاء العالم.

وبعد سنوات من الإنهاك الاقتصادي والعسكري للطرفين، تجمدت خطوط القتال في منتصف الثمانينيات، ما قاد إلى اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة في أغسطس 1988 (لم يوقع رسمياً إلا في أغسطس 1990).

الحرب على الإرهاب

في سياق الحروب الطويلة كذلك، كانت الحرب الأميركية على الإرهاب، التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ففي غضون أسابيع من تلك الهجمات، سعت الولايات المتحدة لتشكيل تحالف دولي شنت بموجبه غارات جوية ضد نظام حركة "طالبان" في أفغانستان، التي كانت قد استولت على الحكم بعد فراغ السلطة في أعقاب الانسحاب السوفياتي من البلاد، ووفرت ملاذاً لتنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن (قتل في مايو 2011).

 

وعلى الرغم من سقوط نظام "طالبان" بحلول ديسمبر 2001، بقيت الولايات المتحدة وحلفاؤها في ذلك البلد الوعر جغرافياً على مدار نحو 20 عاماً، إلى أن آخر جندي أجنبي أجلي من البلاد في نهاية أغسطس 2021، تاركة السلطة مرة أخرى للحركة التي استدعى حكمها الحرب.

كذلك كان العراق على موعد مع تلك الحرب تحت مزاعم "امتلاكه أسلحة دمار شامل، وعلاقاته التي تجمعه بتنظيم القاعدة"، ففي فبراير 2003، شنت الولايات المتحدة وتحالفها حرباً على العراق للإطاحة بنظام صدام حسين، كان أبرز معالمها الشكل التقليدي للحرب، الذي انتهى بسقوط النظام العراقي، ثم تلتها سنوات من "التمرد المسلح"، وهو الأمر الذي قاد في النهاية إلى "عنف طائفي" مزق البلاد وأدى لظهور تنظيمات متطرفة على رأسها "داعش"، وذلك بعد أن انسحبت القوات الأميركية من هناك 2010.

حروب "خاطفة" وتداعيات باقية

من بين أبرز محطات النزاعات العسكرية التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين كانت تلك الجولات التي مر بها ما يعرف الصراع العربي الإسرائيلي، الذي شمل حروب 1956 و1967 و1973.

ففي 29 أكتوبر1956، شنت كل من فرنسا وإنجلترا بالتنسيق مع إسرائيل هجوماً شاملاً على مصر بدأ بدخول القوات الإسرائيلية إلى سيناء، وهو ما اعتبرته فرنسا وإنجلترا (وفقاً للسيناريو المرسوم مسبقاً) ذريعة للتدخل في منطقة القناة، وذلك رداً على قرار الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس وإغلاقها أمام الملاحة الإسرائيلية، إبان رفض البنك الدولي تقديم قرض لمصر لبناء السد العالي.

في تلك الحرب الخاطفة، التي عرفت كذلك بـ"حرب السويس"، وعلى الرغم من انسحاب القوات المصرية من سيناء أمام تحقيق دول "العدوان الثلاثي"، وفق التوصيف العربي، نجاحات عسكرية، لكن الضغط الدولي السوفياتي والأميركي قاد إلى إنهاء العمليات في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني)، وانسحاب إسرائيل عام 1957 من سيناء، في موقف اعتبر لاحقاً "هزيمة دبلوماسية" للدول الثلاث.

لم تهدأ جبهة الصراع العربي الإسرائيلي حتى جاءت حرب الأيام الستة، بحسب التوصيف الإسرائيلي، التي تعرف في الفكر العربي باسم "النكسة" أو "هزيمة يونيو" في الخامس من يونيو 1967، حين شنت إسرائيل "هجوماً استباقياً" وفق دائرة المعارف البريطانية، ضد عدد من الدول العربية (مصر وسوريا والأردن)، وفي غضون ثلاثة أيام حقق الإسرائيليون تقدماً واسعاً على الأرض واستولوا على الضفة الغربية وقطاع غزة وكل شبه جزيرة سيناء حتى الضفة الشرقية لقناة السويس، وهضبة الجولان السورية، وهي الحرب التي لا تزال تخيم بصماتها على الشرق الأوسط حتى يومنا الراهن، وأعقبها قرار أممي حمل الرقم 242 دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب مقابل سلام دائم، وهو القرار الذي أصبح أساساً للجهود الدبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها بما في ذلك اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر والضغط من أجل حل الدولتين مع الفلسطينيين.

وبحسب ما كتبه الباحث المحلل جي لارون في كتابه "حرب الأيام الستة: تدمير الشرق الأوسط" فإن تلك الحرب لم تكن ناجمة عن مجرد احتكاك إقليمي، بل إن السبب الحقيقي يعود إلى دور السياسات الأميركية والسوفياتية في خضم الأزمة الاقتصادية التي كانت تعصف بالعالم في تلك الفترة، إضافة إلى أن عودة سوريا كطرف مركزي في الصراع قد زاد من حدة التوتر وعجل بالحرب التي شنتها إسرائيل يوم الخامس من يونيو".

لم تنته محطات الصراع العربي - الإسرائيلي عند هذه الحرب، فبعد سنوات من "حرب الاستنزاف"، "التي نقلت الاستراتيجية المصرية من مرحلة الصمود إلى مرحلة الردع"، جاء يوم السادس من أكتوبر1973 لتندلع رابع حرب تدور بين العرب وإسرائيل، عندما شنت القوات المصرية والسورية في إطار خطة عسكرية مشتركة هجوماً مفاجئاً ضد القوات الإسرائيلية لاستعادة أرض سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، قبل أن يتوقف إطلاق النار في 24 من الشهر نفسه، وتبدأ في أعقاب الحرب مفاوضات لفض الاشتباك الذي تم فعلياً في بداية عام 1974، بعد أن تمكنت القوات المصرية من تثبيت مواقعها على مسافة 15-20 كيلومتراً شرق قناة السويس.

كان لافتاً في هذه الحرب تدخل الدولتين الأقوى في العالم آنذاك (أميركا والاتحاد السوفياتي) فيها بشكل غير مباشر، إذ زود الاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا سوريا ومصر بالأسلحة، بينما زودت الولايات المتحدة إسرائيل بالعتاد العسكري.

وفي 31 مايو 1974، انتهت الحرب رسمياً بالتوقيع على اتفاقية فك الاشتباك، حيث وافقت إسرائيل على إعادة مدينة القنيطرة لسوريا وضفة قناة السويس الشرقية لمصر، مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية من خط الهدنة وتأسيس قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تحقيق الاتفاقية.

وبعدها عمل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وسيطاً بين الجانبين ووصل إلى اتفاقية هدنة، ووقع الطرفان في ما بعد اتفاقية سلام شاملة في "كامب ديفيد" عام 1979. وكان من نتائج تلك الحرب استرداد السيادة المصرية الكاملة على قناة السويس وعودة الملاحة في القناة بدءاً من يونيو 1975.

معارك محدودة الأهداف

على مدار العقود الأخيرة لم تخل الساحة الدولية من المعارك العسكرية "محددة الأهداف"، لا سيما تلك التي اشتركت فيها روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

ففي أواخر عام 1994، بعد الاستقلال الفعلي لجمهورية القوقاز لمدة ثلاث سنوات، أرسلت موسكو قوات لإخضاع الشيشان، لكنها واجهت مقاومة شرسة وانسحبت في 1996، وذلك قبل أن تعود القوات الروسية في أكتوبر 1999 لتنفيذ "عملية مكافحة الإرهاب"، رداً على الهجمات المميتة في روسيا التي شنها الانفصاليون الشيشان وطالت أيضاً داغستان المجاورة.

وفي فبراير 2000 استعاد الجيش الروسي العاصمة الشيشانية غروزني، التي دمرتها المدفعية والغارات الجوية، لكن حرب العصابات استمرت في عام 2009، حتى أعلن الكرملين انتهاء عمليته التي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من الجانبين.

 

كذلك وعلى مدار نحو ستة أيام، أقدمت القوات الروسية في أغسطس 2008، على شن حرب مع جورجيا، على أوسيتيا الجنوبية، وهي منطقة جورجية انفصالية صغيرة موالية لروسيا، وانتهت بانتصار روسيا وسيطرتها على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وحافظ الكرملين منذ ذلك الحين على وجود عسكري قوي هناك، وسط تنديد غربي بما سماه "احتلال الأمر الواقع".

وعلى الخريطة الأوكرانية، جاء التدخل العسكري الروسي بعد أحداث فبراير 2014، التي شهدت احتجاجات عنيفة للمتظاهرين في الشوارع الأوكرانية ضد الرئيس الموالي للكرملين فيكتور يانكوفيتش وإطاحته، إذ تدخلت روسيا وتمكنت عبر جنود موالين لها من السيطرة على شبه جزيرة القرم وضمها لها رسمياً بعد عملية تصويت وصفت غربياً بأنها "غير شرعية".

بعد ذلك، على الرغم من خفوت حدة الصراع منذ عام 2015 إبان التوقيع على اتفاقيات مينسك للسلام، ظهرت الحركات الانفصالية في دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا على الحدود مع روسيا لإعلان الاستقلال، ما زاد من أجواء التوتر بين موسكو وكييف.

أمد الصراع وحله

على مدار التاريخ، اكتسبت الحروب أهمية كبيرة في سياق العلاقات الدولية، وكانت في كثير من الأحيان هي الأداة الصلبة القادرة على صون مصالح وأمن الدول، لكن ومع كل حرب كان السؤال الأبرز الذي يخيم على مشاهدها، هو كيف يمكن أن تنتهي؟ وماذا عن تداعياتها الاقتصادية والإنسانية؟

بحسب ما كتبه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، قبل نحو ثماني سنوات في صحيفة "واشنطن بوست" في معرض الحديث حينها عن الأزمة الأوكرانية، في 2014، فقد قال إنه على مدار حياته "رأى أربع حروب بدأت بحماس كبير ودعم شعبي، لم نكن نعرف كيف ننهيها، وانسحبنا منها من جانب واحد". موضحاً، "كان دوماً اختبار السياسة هو كيف تنتهي الحروب وليس كيف تبدأ؟".

هذه الرؤية التي توافق معها كل من نيكولاس تسان وكيفن كوهلر من مؤسسة "فوراوس" الفكرية المتخصصة، معتبرين أن "مشكلة الحروب هي أنها تبدو بالنسبة إلى أطرافها وكأنها حتمية، فكل طرف يعتقد أنه مضطر للقيام بما يقوم به وأن لديه كل المبررات الأخلاقية والسياسية لقتل الطرف الآخر، دفاعاً كما يعتقد عن أمنه أو حقوقه، لكن معضلتها عسكرياً أكثر تعقيداً، فشنـها يبدو لأطرافها سهلاً، لكن حسمها يبدو صعباً للغاية".

ويتابعان "المشكلة الحقيقة هي أنه لا يمكن التنبـؤ بالمستقبل في ما يتعلق بمسار تلك الحروب، إذ يشير الواقع دوماً إلى نفق مظلم مع مؤشرات محدودة بأن بعض تلك الحروب يمكن أن تتوقف في مدى زمني معيـن، إذا قررت مجموعة أشخاص أن تفكر بعيداً من المباريات الصفرية".

من جانبه، وفي مقال سابق كتب بيري كاماك الباحث في برنامج الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، قائلاً إن "النزاعات التي ينخرط فيها عديد من اللاعبين المستقلين تدوم أكثر من غيرها، ذلك أن نطاق الاتفاقات المقبولة لجميع الأطراف يكون ضيقاً جداً، ناهيك بأن التحالفات قد تتبدل، وأن المجموعات المتحاربة تملك حوافز تشجعها على الصمود قدر الإمكان".

وعلى ضوء إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، كتب المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف، عبر قناته على "تيليغرام"، قائلاً "إن إطالة أمد الحرب تزيد من مخاطر زعزعة الاستقرار الداخلي في البلاد بسبب المصاعب الاقتصادية والضغط النفسي، وفي الواقع لا تزال هذه هي الجبهة الرئيسة للحرب بين روسيا والغرب".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير