Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيتر بروك الراحل بعد مسار قاده من شكسبير إلى "المهارابهارتا" وتصوف التسامح

توريط لصاحب "الملك لير" في الاحتجاج ضد حرب فيتنام

من تقديم لاستعراض "المهارابهاراتا" (1985) (موقع العرض)

كان في الـ 97 من عمره قبل أشهر حين رحل بيتر بروك في باريس التي أحبها وعاش فيها وحقق في رحابها تطلعاته المسرحية معظم سني حياته وكان ذلك عند بدايات يوليو (تموز) الماضي 2022. ولئن كان بروك قد افتتح مساره المسرحي، والسينمائي والتلفزيوني وإن ضمن حدود، بالتصدي "الشجاع" لمسرحية "فاوست" من كتابة كريستوفر مارلو في عام 1943 في لندن لينتقل منها مباشرة بعد عامين إلى إخراج "الآلة الجهنمية" للفرنسي جان كوكتو، فإن هذين الخيارين المبدئيين لم يكونا من قبيل الصدفة لديه بل سيكونان إرهاصاً بتنقله المقبل، جغرافياً وفي هواه المسرحي والفني، بين باريس ولندن اللتين سيقول إنه عشقهما دائماً معاً من خلال قراءته المبكرة لرواية تشارلز ديكنز "قصة مدينتين". أما عشقه الآخر فسيكرسه لشكسبير وذلك منذ عام 1947 حين توجه إلى مسقط رأس هذا الأخير ستراتفورد آبون آيفون مساعداً للإخراج في تقديم لمسرحيتين شكسبيريتين تباعاً "روميو وجولييت" و"خاب سعي العشاق". ومنذ ذلك الحين سيلعب مسرح شكسبير دوراً كبيراً في حياته وفنه، لكن جان كوكتو سيقوده من ناحيته إلى أنطونان آرتو و"مسرح القسوة" ما يحدد الأطر العامة لتكوينه المهني الذي سيتضافر لديه لاحقاً وعلى مجرى الممارسة مع اكتشافاته من ناحية لأفكار المتصوف كوردييف ومسرح غروتوفسكي، وبخاصة أساليب مييرهولد الإخراجية مروراً ببرتولد بريخت ومسرحه.

الوصول الحتمي إلى الشرق

للوهلة الأولى قد يبدو هذا نوعاً من خليط مدهش، لكن بروك عرف كيف يستوعبه طوال عشرات السنين وعشرات الأعمال المتنوعة التي سيقول دائماً أنه لولا انتقائيته الماثلة فيها لما كان من شأنه أن يصل إلى "الشرق"، ولكن أي شرق؟ بالتحديد الشرق الذي أوصل مسرحه إلى الذروة مرتين على الأقل خلال السنوات التي كان قد ترسخ فيها كواحد من كبار المخرجين في العالم. المرة الأولى في عام 1985 حين قدم مسرحيته الأكبر المقتبسة من الملحمة الهندية "المهابهاراتا"، والثانية في عام 2004 حين قدم ذلك العرض المدهش المعنون "تييرنو بوكار" مقتبساً عن نص يعبق بفكرة التسامح الصوفي للكاتب الأفريقي (من مالي) أحمدو هامباتي با. ولعل اللافت في الحالتين أن شريك بروك في الكتابة المسرحية لم يكن سوى الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير الذي اشتهر بكتابة السيناريوهات الأخيرة للسينمائي الإسباني لوي بونويل. ولعل من الضروري أن نذكر هنا السجالات الحادة التي وجد بيتر بروك نفسه يخوضها مع منظري "ما بعد الكولونيالية" من الذين لم يستسيغوا هذا "التدخل الاستشراقي" في ما يعتبرونه ملكاً حصرياً لهم، فاتهموا برووك بخوضه في "أمور لا قبل له بها" ناصحين إياه بالبقاء في عوالمه الغربية وترك "الشرق لأهله". يومها قهقه بروك ضاحكاً أمام هذا الهجوم وقرر أن يعود بخاصة إلى "المهارابهاراتا" مرة أخرى كإصرار منه على أن العالم كله يمتلك هذا التراث كما يمتلك شكسبير وتشيخوف وصمويل بيكيت. وهو بالفعل عاد في عام 2002 ليقدم "موت كريشنا"، وأيضاً بالتعاون مع كاريير.

باريس مربط خيله

وخلال تلك المرحلة كلها كان بروك يعيش في باريس متخذاً من مسرح "لا بوف دو نور" في شمال العاصمة الفرنسية مستقراً له جامعاً من حوله عشرات المبدعين المسرحيين من شتى بلدان العالم، وبخاصة من العالم الثالث (وكانت الفنانة المسرحية اللبنانية ميراي معلوف قد عملت معه في عدد من عروضه، ولا سيما في "المهارابهاراتا"). والحقيقة أن ارتباط بروك ومسرحه بتلك المنطقة المليئة بالمهاجرين العرب وغير العرب منذ بدايات سنوات الـ 70 عرفته عن كثب على قضايا المهاجرين وأحلامهم وإمكاناتهم، مما أدى به في مراحل متلاحقة، وهذه المرة ضمن نشاطات "المركز الدولي للبحث المسرحي" الذي أسسه مع ميشلين روزان إلى الانطلاق في زيارات مسرحية وبحثية في عديد من مدن الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية كأفريقيا الوسطى، إذ أقام حوارات سيصفها بالمثمرة مع نخب من مثقفيها. وستنعكس تأثيرات تلك الزيارات واللقاءات لاحقاً من خلال جولات مسرحية يقدم خلالها عروضه في الضواحي الفرنسية وفي قرى داخل فرنسا وفي أفريقيا كما في مخيمات لاجئين وغالباً من مناطق سيخبرنا في كتابه "الحيز الخالي" الذي أصدره في سنوات الـ 80 وتحدث فيه عن تقنياته الإخراجية كما عن تجاربه ورحلاته أنها لم تكن تعرف شيئاً عن المسرح من قبل.

دفاعاً عن قضية المسرح والإنسان

والحقيقة أن بروك تمكن في هذا الكتاب من أن يقدم مرافعة صادقة دفاعاً عن قضية المسرح، ولكن كذلك عن قضين الشعوب التي اعتبر أن من حقها أن تمتلك هذا الفن لتكتشف أنه كان يعيش منذ الأزل في وجدانها. ولقد كشف بروك في هذا الكتاب، وبحسب تعليق الناقد الفرنسي غي دومور أنه "ليس مجرد مخرج مسرحي، وليس مجرد منظر للمسرح، بل مناضل يبدو واثقاً من صدق طموحاته التي تقوم على اعتبار المسرح وسيلة لتأسيس المجتمع وإعادة تأسيسه والحفاظ عليه كمجتمع لنساء ورجال قادرين على تقويض نظام قائم بغية تحقيق القلق والسعادة اللذين هما قوام الفنون الأدائية". ويؤكد دومور أن هذا الكتاب "أساسي للقراء، سواء كانوا يحبون المسرح أو لا يحبونه لأن قضيته قضية عامة واجتماعية بقدر ما هي قضية فناني أداء أو ممثلين أو مخرجين أو تقنيين. حتى وإن كنا نعرف أن المسرح لا يمكنه أن يعيش إلا بفضل هؤلاء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شكسبير للاحتجاح على حرب فيتنام

على هذا النحو إذاً طرح بيتر بروك في هذا النص الذي بدا في نهاية الأمر أقرب إلى الوصية الفكرية والسياسي القضايا الثلاث التي يخبرنا أنها شكلت همومه منذ بداياته، قضية المسرح وقضية المجتمع وقضية الإنسان الذي قد يعيش كل حياته غير واع بحقوقه. والحقيقة أن استعراضاً للمسار الذي اتخذته سيرة بروك منذ ولادته عام 1925 في إنجلترا لأبوين مهاجرين من أصل ليتواني قدما إلى تشيزويك من لاتفيا، ما عنى تراكم هجرات و"هويات"، سيرينا كيف أنه بدأ حياته بدراسة اللغات ثم ما إن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى انخرط في المهن المسرحية منطلقاً من مارلو "فاوست" ليخوض شكسبيرية شديدة الغنى مكنته خلال أعوام قليلة من إخراج نحو ثماني مسرحيات شكسبيرية قبل أن يقدم في عام 1964 على "اكتشاف" وتقديم مسرحية "مارا/ ساد" لبيتر فايس الذي سيرتبط معه بصداقة كما أنه سيشاركه في عام 1966 في العمل على واحد من العروض المسرحية الأكثر احتجاجاً على ما كانت الولايات المتحدة تقترفه في فيتنام. واللافت هنا أن هذا العمل قد قدم ضمن إطار العروض المسرحية لفرقة شكسبير الملكية التي كان بروك متفرغاً للعمل معها في ذلك الحين.

"لماذا؟" سؤال لختام حياة

ولكن في الوقت نفسه راح بروك ينوع أعماله بين أوبرا ومسرحيات اجتماعية ثم يعود إلى شسكسبير من جديد، ولكن دائماً تقريباً، في البدايات المجيدة والتي كادت تكون كلاسيكية خالصة على أية حال، مع ممثلين كبار أصحاب أسماء ضخمة من لورانس أوليفييه إلى غليندا جاكسون وجون جيلغود ووبن كينغسكلي وباتريك ستيوارت وبول سكوفيلد وفيفيان لي التي تمكن من أن يجمعها عام 1955 مع زوجها لورانس أوليفييه في تقديم مبكر من إخراجه مسرحية "تيتوس أندرونيكوس" لشكسبير الذي كان لا بد أن يعود إليه في آخر سنوات حياته ليمسرح واحدة من سوناتاته وهي "الحب خطيئتي" (2010). وبقي أن نذكر هنا أن بيتر بروك كان يقترب حثيثاً من عامه الـ 97 ومن أيامه الأخيرة حين انصرف مع زميلته المسرحية الفرنسية ماري هيلين إتيين إلى تحقيق ما لا يقل عن خمسة عروض كبيرة أشرف على تصويرها سينمائياً خلال الفترة بين 2011 و2019 تضمنت اقتباسا لـ "الناي السحري" من موتسارت و"ميدان معركة" كجزء من "المهارابهاراتا"، وصولاً إلى العرض الأخير الذي ختم به حياته "لماذا؟" من كتابته وإخراجه مع ماري هيلين إيتيين.

المزيد من ثقافة