Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أوليفر" الذي مكن لندن من منافسة برودواي في عودة إلى تشارلز ديكنز

الموسيقي ليونيل بارت يتجرأ على أيقونة أدبية فيحقق نجاحاً ويفتح دروباً

مشهد من المغناة المسرحية "أوليفر" (موقع المغناة)

في البدء كان تشارلز ديكنز وواحد من أبطاله الفتيان الذين عرف كيف يكتب عنهم بأحسن مما فعل أي روائي في التاريخ. وفي البدء كان "أوليفر تويست" بطل تلك الرواية التي تحمل اسمه في عنوانها، ونظر إليها دائماً ليس على أنها من أجمل روايات ديكنز فحسب، بل على أنها من أشد رواياته قسوة، وهي كانت في الواقع من الفضح للمعاملة البائسة التي كان يلقاها الأطفال في لندن حتى أواسط القرن التاسع عشر إلى درجة أنها أثارت ما إن ظهرت وقرئت على نطاق واسع الرأي العام، ودفعت السياسيين إلى فرض تبديلات في القوانين تعيد إلى الطفولة بعض حقوقها. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن ديكنز كتب روايات عديدة بأبطال صغار مشابهين لبطل هذه الرواية (وبخاصة تحفته "ديفيد كوبرفيلد" التي تكاد تكون مستقاة من سيرته الذاتية)، لكن "أولفر تويست" تبقى الأكثر شهرة، بل ازدادت شهرتها أضعافاً خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، ولا سيما أن الإنجليز إذ رغبوا حينها في منافسة أولاد عمهم الأميركيين في ميدان العروض الموسيقية لجأوا إلى تشارلز ديكنز، كاتبهم القومي الأكبر، وتحديداً إلى روايته تلك ليقتبسوها مسرحاً غنائياً، فلبت طلبهم فاتحة المجال لعودة "أوليفر" إلى الواجهة بطلاً، ولكن أقل قسوة مما هي الحال في الرواية. ففي نهاية الأمر كانت المغناة تستهدف الأجيال الفتية، وهي نجحت في ذلك، تماماً كما فعل بعد عروضها الأولى بسنوات قليلة، الفيلم السينمائي الذي اقتبسه المخرج الإنجليزي كارول ريد عنها، لا عن رواية ديكنز. وهو "إجحاف" في حق الكاتب الكبير سيعوض عليه السينمائي رومان بولانسكي لاحقاً بفيلم يحققه عن الرواية نفسها لتصبح عندنا أعمال عديدة تنتمي إلى الرواية، ومنها أفلام سابقة، ولكن تبقى المغناة أجملها وأغناها، بالتالي أكثرها نجاحاً. وأكثر من ذلك، أقدرها على إشعار الأميركيين بأن الإنجليز هم أيضاً قادرون على إنتاج هذا النوع من الفن، وخصوصاً في وقت كان أهل برودواي قد "سرقوا" منهم مسرحية جورج برنارد شو "بيغماليون" محولين إياها إلى مغناة وفيلم، هو طبعاً "ماي فير ليدي"، له نكهة إنجليزية لكن إنتاجه وضخامته أميركيان بالتأكيد.

اختصارات وتخفيف

هكذا، نجدنا إذاً أمام "أوليفر" تلك المغناة التي كتبها ولحنها ليونيل بارت، مختصراً بعض أحداث صفحاتها الختامية من ناحية، ومقدماً عبرها بعض أجمل الأغاني التي وضعت لمغناة من هذا النوع. ولقد قدم العرض للمرة الأولى على مسرح ويمبلدون غير بعيد من الطرف الغربي من لندن، في عام 1960، ولكن النجاح الكبير الذي حققته العروض الأولى مكن من نقلها فوراً إلى  منطقة "الويست إند" التي تعد مركز الثقل في الحياة المسرحية والاستعراضية اللندنية. ولقد ضربت في حضورها هناك رقماً قياسياً بالنسبة إلى استمرار عرض غنائي على خشية لندنية، ما فتح شهية الأميركيين فنقلوها إلى برودواي في عام 1963. وهي واصلت على أية حال نجاحاتها اللندنية، حيث راح تقديمها يستعاد كل حين فيتواصل في كل مرة أربع أو خمس سنوات من دون توقف، كان آخرها حتى الآن بين 2008 و2011. ولا بد أن نذكر هنا أن ليونيل بارت قد نال منذ عام 1963 جائزتي "طوني" لأفضل موسيقى لاستعراض من هذا النوع، كما أن نحو نصف دزينة من أغاني العمل قد انتشرت مستقلة، ودخلت لوائح أكثر الأسطوانات مبيعاً، ومنها طبعاً "طعام يا أيها الطعام الممجد"، و"انظر إلى نفسك"، و"سوف أفعل أي شيء". والسؤال هنا هو لماذا تمكن هذا العمل من تحقيق كل هذا النجاح وهو "يغزو" الفن الأميركي بامتياز في عقر داره؟

 

 

الجواب: البساطة

الجواب بسيط: البساطة والوضوح والنزعة الإنسانية. ولئن كان ليونيل بارت قد عثر على هذه الأبعاد في مكان غير متوقع على الإطلاق، أي في رواية لديكنز الذي لم يكن قد سبق للمسرح الغنائي، أو حتى للموسيقى على الإطلاق الاقتراب منه، إلا في حالة واحدة قبل "أوليفر" تتعلق باقتباس تلفزيوني لنصه "أنشودة الميلاد"، فإن الأمر لم يكن مؤكداً في النهاية، وذلك لأنه كان من المحتم اختصار الشخصيات والتخفيف من خطورة الأحداث والفصل الواضح بين الأفعال الشريرة والخيرة، ناهيك بالإقلال من القلبات الميلودرامية بالنسبة إلى عمل كان من النجاح والانتشار في الإنجليزية وغيرها على مدى ما يزيد على قرن وربع القرن، إلى درجة قد لا يكون من الممكن معها إحداث كل هذا القدر من التبديلات التي لا مفر منها. من هنا، كان بارت يعرف أن رهانه صعب وكبير، وأن بين تحقيق القبول والمجازفة بالرفض والغضب، خيط رفيع قد تكون فيه نهاية مستقبله المهني. والأدهى من هذا فيه أيضاً مجازفة أخرى قد لا تخطر على البال تتعلق هذه المرة بما في نص ديكنز الأصلي من مواقف وعبارات، بل حتى شخصيات وصمت عمله حين ظهر بقدر من "معاداة السامية"، وهو أمر لم يعد من السهل القبول به في الزمن الحديث.

جرأة فنان

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن بارت جرؤ وقدم عمله، فإذا بالجمهور العريض يقف إلى جانب النقاد في الإقبال على مغناة تسير تقنياً على النمط الأميركي، لكنها تبدو من الناحية الإنسانية شديدة الأوروبية. ولئن كنا نعرف أن سنوات الستين تلك كانت سنوات قادرة عل تحقيق اكتشافات فنية تجدد في التعامل مع القيم والنزعات الإنسانية، نفهم كيف استجاب الجمهور أولاً إلى بساطة الأغنيات ومعانيها الإنسانية والأخلاقية العميقة، ثم إلى خطية حبكة راح يراقب بهدوء إبداع ليونيل بارت في عصرنتها جاعلاً منها تعبيراً عن قضية قد لا تبدو أنها قضية، تماماً على أية حال، كما فعل مثلاً مقتبسو "سيدتي الجميلة" حين حولوا نص برنارد شو إلى إدانة للطبقية البريطانية، أو كما فعل مقتبسو "قصة الحي الغربي" حين حولوا مسرحية شكسبير الغرامية الشهيرة "روميو وجولييت" إلى حكاية موسيقية تدين في ثناياها عقلية التعصب والعنصرية المتحجرة داعية إلى القبول بالآخر، مع مثل هذه الاستعراضات أدخل المبدعون الجدد القضايا الاحتماعية الإنسانية في صلب فن جميل كان لا يشي بأنه قادر على أن يحمل بكل تلك الأبعاد.

للصغار أم للجمبع؟

بعد هذا كله هل يهم كثيراً أن تكون مغناة "أوليفر" قد حققت للصغار حقاً؟ من الصعب طبعاً القول إن هذا لا يهم. ففي نهاية المطاف فتحت هذه المغناة، ولا سيما لاحقاً حين تحولت إلى فيلم يكاد لا يبتعد عنها، ولو قدراً ضئيلاً كما أشرنا، فتحت المجال، من ناحية للفنانين الإنجليز كي يبدعوا في بلدهم من دون أن يكونوا عالة على الأميركيين مستعيدين في مجالهم مبادرة كان سبقهم إليها، وفي الحقبة نفسها، فريق "البيتلز" الغنائي الذي انطلق من صفوف الطبقة العاملة في ليفربول ليسحب بساط غناء "الروك" و"البوب" من تحت أقدام كبار المغنين الأميركيين ويفرض قيمه على الغناء العالمي وموسيقاه؛ ومن ناحية ثانية للإمعان في العودة إلى قمم في الآداب العالمية، بما في ذلك أكثرها كلاسيكية، لكي تقتبس في استعراضات موسيقية غنائية، لعل ما يخطر في بالنا منها هنا على سبيل المثال رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو التي حولها الفرنسيون هذه المرة إلى تلك المغناة التي عرفت بدورها كيف تغزو برودواي، ثم السينما الأميركية بعد نجاحاتها الفرنسية الأولى. ونعرف كم أن هذا التمازج بين الفنون الغنائية - الموسيقية في أبعادها الأكثر حداثة، قد أثرى الأدب الكلاسيكي وروائعه متمكناً على خطى أعمال سابقة "جرؤت" على المساس بتلك الأيقونات التي لم يكن من الممكن لها قبل ذلك أن تمس. فلقد اكتشف الجمهور أن في إمكانه اليوم أن يشاهد الروائع الكلاسيكية التي يحبها تغنى وترقص الممثلين على الخشبات، فيغني هو ويرقص معها، وهو يعلم أنه إن حن إلى العمل الأصلي القديم سيمكنه أن يجده دائماً ماثلاً بين دفتي كتابه المفضل على أرفف مكتبه، فهذا في نهاية الأمر لا يمنع ذلك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة