Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تراس وجونسون وستارمر جميعهم أعراض سياسات ما بعد الحقيقة في بريطانيا

بدءاً من أكاذيب بوريس جونسون خلال حكمه وصولاً إلى تعهدات كير ستارمر التي لم يتم الوفاء بها، تبدو المسألة كلها أشبه بلعبة كبيرة من الخداع قصير المدى

"هل تعد النظرة إلى السياسيين على أنهم غير جديرين بالثقة أمراً مثيراً للغرابة؟" (غيتي)

بتنا الآن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة. ودخلنا في عصر المعادلات الخاطئة والحجج المضللة والمصالح الخاصة، التي تشكل السردية الجديدة المتسمة بملامح حيادية وجامدة، وسط تفشي النزعة اليمينية المتنامية داخل بنيتها. فالحقائق الموضوعية لم تعد تهم، هذا إذا كانت موجودة في الأساس.

إنه عالم ساهمت في صياغته جهات سياسية فاعلة مثل دونالد ترمب، لكن أيضاً النبرة العالية والمتنمرة لبوريس جونسون رئيس وزرائنا الراهن، لا بل شبه السابق. وقد خطفت شعلته بلمحة خاطفة من كانت "تنشد أناشيده"، لتصبح الآن المنافسة على زعامة الحزب، ومرشحة "الحرب على مكافحة التمييز العنصري": ليز تراس.

واستناداً إلى تحقيق أجرته محطة "سكاي نيوز" الإخبارية، فإن 80 في المئة من المستشفيات الأربعين الجديدة التي وعد بها حزب "المحافظين" في العام 2019، إما تخلو من خطة زمنية محددة لإنجازها، أو من غير المرجح أن تكون جاهزة بحلول موعد الانتخابات العامة المقبلة في العام 2024. لقد كانت جزءاً رئيسياً من الوعود التي تضمنها البيان الانتخابي لبوريس جونسون في العام 2019. ولعل ما لم يدهش أحداً هو أن أياً من وزير الخزانة السابق ريشي سوناك أو وزيرة الخارجية تراس، أقدما على ذكر تلك المستشفيات في حملة ترشحهما لزعامة الحزب ومنصب رئيس الوزراء.

هذا يذكرني بالشعار الذي كانت تجوب به حافلة الترويج للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والذي كان يعد هيئة "خدمات الصحة الوطنية" (أن أتش أس)  NHS بتلقي 350 مليون جنيه استرليني (423 مليون دولار) أسبوعياً. المال لم يكن ليصبح واقعاً ملموساً في حساب "أن أتش أس"، لكنه لقي صدىً طيباً، أليس كذلك؟ غير أن ما نشاهده أمامنا اليوم هو التهاب الأسعار الجنونية للمواد الغذائية، وتنامي صفوف الانتظار الطويلة في ميناء دوفر (نتيجة أعمال التدقيق الروتينية التي سببها اتفاق "بريكست")، إضافة إلى النقص الحاد في اليد العاملة، والمخاطر المتزايدة التي تهدد الكبار في السن والمعوقين، وتراكم الأعباء التنظيمية، والركود الاقتصادي الذي يلوح في الأفق. بالتالي، يبدو واضحاً للغاية أننا نعاود الإمساك بزمام الأمور!

دعونا لا ننسى تلك المسألة الصغيرة المتمثلة في ارتفاع مرعب لأسعار الطاقة، في وقت تحقق شركات الوقود الأحفوري أرباحاً خيالية، ويرفض رئيس الوزراء (الذي ما زال في موقع القرار في الوقت الراهن، لكنه بات رئيساً سابقاً للحكومة إلى حد ما) القيام بأي شيء حيالها. بوريس جونسون يقضي ثاني عطلة له هذا الصيف، وهذه المرة في اليونان، في وقت ما زال يتقاضى راتبه البالغ160080  جنيهاً استرلينياً (198464 دولاراً)، في ذروة استفحال أزمة ارتفاع كلفة المعيشة.

هذا الصباح، تحدثت أنباء عن أن الأجور العادية انخفضت بين شهري أبريل (نيسان) ويونيو (حزيران) بمعدل هو الأسرع على الإطلاق، مسجلةً تراجعاً بنسبة 3 في المئة بعد التضخم. لا يهم، فليز تراس هي في طريقها إلى الحرب، واعدةً باعتماد تشريع يستهدف "التحرك النضالي" الذي تقوم به النقابات. والمقصود بـ "التحرك النضالي" هو الحق في الإضراب - أو بعبارة أخرى، الامتناع عن ممارسة العمل نتيجة فشل المفاوضات. لذا لن تكون لفئة العمال سلطة للاحتجاج على أجور الفقر أو عروض الرواتب الهزيلة التي لا تواكب في أي شكل من الأشكال حجم التضخم المتزايد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حتى كير ستارمر زعيم حزب "العمال" الشهير، يعمل هو أيضاً في إطار سياسات ما بعد الحقيقة هذه، ناقضاً التعهدات الـ 10 التي جرى انتخابه على أساسها، ومانعاً نواب الحزب من الانضمام إلى صفوف الاعتصام، ومقيلاً نائبه الأول سام تاري بسبب دعمه العمال المضربين. يا لراحة البال بالنسبة إلى العاملين العاديين بوجود شخص مثل ستارمر إلى جانبنا!

هل النظرة إلى السياسيين على أنهم غير جديرين بالثقة تعد أمراً مثيراً للغرابة؟ يبدو أن هذه المسألة برمتها - بدءاً من أكاذيب بوريس جونسون خلال ممارسته لمهامه، وصولاً إلى تعهدات كير ستارمر التي لم يستطع الوفاء بها في سعيه إلى كسب أصوات يساريي حزب "العمال" - تبدو كلها أشبه بلعبة كبيرة من الخداع قصير الأمد.

اعتمد ريشي سوناك وليز تراس على تصويت 0.3 في المئة من سكان المملكة المتحدة، آملين في حزم  حقائبهما للانتقال إلى مقر رئاسة الوزراء في "10 داونينغ ستريت"، بحيث حاول كل منهما التفوق على الآخر والمزايدة عليه من خلال إطلاق نوبات من القبح اليميني المتطرف، واستهداف المهاجرين واللاجئين، وداعمي حركة "التنبيه إلى التمييز والعنصرية" (أي شخص يؤمن بمناهضة العنصرية ومكافحة التعصب)، والعمال الذين لديهم جرأة الدفاع عن حقوقهم ومستويات معيشتهم، وأي شخص يجد صعوبات في تغطية نفقاته (هل تذكرون تعليق تراس على "الصدقات"؟) - إلى ما هنالك من أمور أخرى.

لا نستطيع أن نجزم بما يمكن أن يتحقق أو يتم تفعيله، سواء خلال الحكم أو عبر القوانين، وما الذي سيتم دفنه بمجرد انتقال السلطة إلى أطراف معينة.

نحن بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، لسياسات تكون قادرةً على تحقيق حالة من الالتفاف الشعبي، وبناء التغيير. سياسات تتمتع بالحس السليم، كتلك التي تميزت بها مرحلة الزعيم السابق لحزب "العمال" جيريمي كوربين (لجهة تأميم القطاعات الرئيسية، والملكية العامة لشبكة الإنترنت بتقنية النطاق العريض، وحماية حقوق العمال، وخدمة وطنية في مجال الرعاية الاجتماعية، إضافة إلى الحاجة لعكس مسار الضرر الذي لحق بالبلاد على مدى عقد من الزمن نتيجة سياسات التقشف، على سبيل المثال لا الحصر). ومع ذلك، فإن أي تحد يمهد للتحول المتنامي للبارومتر السياسي نحو اليمين، يقابل برعب من جانب الأصوات التقليدية الوازنة.

قد يكون حان الوقت كي نعتمد الصدق في التساؤل عن السبب. لماذا ينعت اتخاذ موقف ضد الفقر والأجور المتدنية بصفة الجنون "اليساري المتطرف"؟ لماذا أصبحت حقوق الإنسان والمساواة الآن تعد مسائل تحمل سمة "الحرب الثقافية"؟ إذا كنت لا تهتم لأمر الآخرين، ولا سيما الفئة الأشد ضعفاً منك، ما عليك إلا أن تقول ذلك. لا داعي لأن تلجأ إلى الأساليب الملتوية والمنمقة التي تتسم بها الزمرة السياسية "الراشدة"، أو أن تطلق عبارات تشير إلى "سياسات تنم عن حسد"، وتختلق لنا سرديات تحاول أن تقنعنا من خلالها بأن "تحقيق الأرباح هو أمر غير ضار".

لقد أصبحنا الآن في مرحلة ما بعد الحقيقة، وباتت فيها مياه بئرنا السياسية مسمومة - لكن ليس من الضروري أن تتخذ الأمور هذا المنحى.

© The Independent

المزيد من سياسة