Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما "اصطاد" ديلاكروا أسود المغرب من دون أن يراها

7 لوحات لإعادة نظر جذرية في فنون الاستشراق والعودة إلى فنون الاستعراب

لوحة "صيد الأسد" لأوجين ديلاكروا (المتحف الوطني في استوكهولم)

ليس من الواضح تماماً بالنسبة إلى النقاد والمؤرخين ولا بالنسبة إلى كاتبي سيرة الرسام الفرنسي أوجين ديلاكروا (1798 – 1863) في أية لحظة قرر أخيراً أن يجمع ثلاثة من الموضوعات التي دائماً ما شغلت باله في بوتقة واحدة تمثلت في عدد لا بأس به من لوحات تدور جميعها من حول "تيمة" الصيد، ولكن هؤلاء الباحثين يجمعون على أن الفكرة ولدت في ذهنه للمرة الأولى من خلال "اكتشافه" للوحات صيد حيوانات حققها الفنان الهولندي بيتر بول روبنز قبله بنحو قرنين من الزمن، لا سيما منها لوحة هذا الأخير المعنونة "صيد الضبع" والتي يمكن أن يكون ديلاكروا قد شاهدها باكراً منذ عام 1805، فرأى أن محاكاته لها يوماً سوف تمكنه من أن يضم في تلك البوتقة الواحدة شغفه بالفن "الاستشراقي"، وحبه لرسم الحيوانات إلى جانب تجريبية كان يتطلع إليها في مجال نقل مشاهد صيد الحيوانات إلى اللوحة. غير أن الفنان ظل يؤجل ذلك غير واثق من قدرته في المراحل المبكرة من حياته على مضاهاة روبنز، حتى كانت رحلته الشهيرة إلى المغرب.

أين أسود الغابات؟

فخلال تلك الرحلة التي تكررت ودامت شهوراً وشملت غير منطقة في الشمال الأفريقي، كان ديلاكروا لا يتوقف عن رسم اسكتشات لفت نظر مرافقيه خلالها أنها كثيراً ما كانت تتألف من رسوم لحيوانات في أوضاع مختلفة، وتحديداً حيوانات أليفة كان يراها عن قرب منه ولكن أيضاً حيوانات مفترسة من بينها أسود أجمع المرافقون على أنه لم يرها ولم يرها أحد منهم على رغم ما هو معروف من أن الأسود لم تنقرض في تلك المناطق من العالم إلا في ستينيات القرن العشرين. ولكن ديلاكروا كان لا يعبأ بتلك الحقيقة هو الذي كان يعرف أنه يرسم الحركة أكثر من رسمه للحيوان صاحبها. ربما كان منذ تلك الأوقات المبكرة يعرف أنه لن يقيّض له أن يرى الأسود وغيرها من حيوانات الغابة المفترسة، إلا وهي قابعة في سكون وهدوء عرينها وأوكارها في "حديقة النبات الباريسية" ولن يصعب عليه أن يضافر الحركات التي كان يرسمها على أوراقه في المغرب مع الأشكال التي سيمكنه مشاهدتها في تلك الحديقة الآمنة وسط العاصمة الفرنسية. والحقيقة أن ذلك كان ما سيفعله ولكن بعد أعوام طويلة من رحلته المغربية وأعوام أطول من استمتاعه بالتفرج على لوحات سلفه الهولندي الكبير.

7 لوحات متنوعة ومشتتة

وكما فعل روبنز من قبله لن يكتفي ديلاكروا بلوحة واحدة بل رسم بين 1849 و1861 ما لا يقل عن سبع لوحات تنتمي إلى النوع نفسه وإن كانت متفاوتة القياسات ومتنوعة في حيواناتها وشخوصها على الرغم من أن تلويناً صافياً بل فاقعاً يجمع بينها. وهذه اللوحات الموجودة اليوم موزعة على متاحف في مدن أوروبية وأميركية عدة، من شيكاغو وبوسطن الأميركيتين إلى بوردو الفرنسية وسانت بطرسبرغ الروسية وصولاً إلى باريس واستوكهولم، تترك جميعاً مركز الصدارة وأفضلية "المقارنة" مع تلك التي تعتبر أفضل أعمال ديلاكروا في هذا المجال، أي اللوحة المعروفة بـ"صيد الأسد – لوحة استوكهولم" ورسمها ديلاكروا في العام 1855 ويبلغ ارتفاعها نحو 57 سم مقابل عرض يصل إلى 74 سم ما يعني أنها تكاد تكون أصغر لوحات ديلاكروا في هذا المجال مساحة، لا تقل عنها سوى إحدى لوحتيه المعلقتين في شيكاغو (44 عرضاً و37 ارتفاعاً) وهي الوحيدة من بين اللوحات السبع التي تحمل اسماً مغايراً بعض الشيء، "فارس عربي يهاجمه أسد" (1849 – 1850) فيما تحمل اللوحات الباقية نفس اسم لوحة استوكهولم فتتمايز بإضافة اسم المدينة التي تمتلكها.

اسكتشات عربية

المهم في الأمر أن ديلاكروا كان قد استخدم الاسكتشات التي حققها في رحلته المغربية في عشرات النسخ، للمرة الأولى في لوحة "فارس عربي"، ما جعل هذه اللوحة تعتبر مع كل ذلك التأخر الزمني، نوعاً من الامتداد للوحات التي كان حققها ودائماً في محترفه الباريسي بعد زمن من انقضاء الرحلة، ودارت دائماً من حول مواضيع أخرى، غلب عليها الطابع الاجتماعي أو التاريخي ودائماً في مناخ "استشراقي" لا يعطي للوجود الحيواني في اللوحة، والمتمثل غالباً عبر الجياد العربية الممشوقة والتي كان الرسام يجد لذة قصوى في رسم أجسادها وغالباً في استعراض حيادي يعبق في أحسن حالاته بجماليات ملفتة ولكن يغلب عليه أيضاً سكون يكشف عن وظائفية مدجنة لتلك الحيوانات. لكنه ما إن بدأ ينتقل ديلاكروا إلى رسم عوالم الصيد والصراع المتحرك بين البشر والحيوانات أو بين المفترسة وتلك المدجنة، حتى وجد نفسه على مجابهة مع ذكرياته الباقية لديه عن لوحات روبنز. وهنا تبدل كل شيء. لم يعد الحيوان سواء كان مفترساً (أسداً في أغلب الأحيان) أو مدجناً (حصاناً عادة) زينة جمالية في اللوحة، بل صار في حركيته الجزء الأساسي في موضوعها. ولا بأس أن نتوقف هنا قليلاً عند توصيف ديلاكروا نفسه، لا سيما في ملاحظات دونها في يومياته، لممارسته الفنية هذه. وهو توصيف تتكرر فيه كلمة هوميري وما يدور من حولها مرات ومرات. ومن البديهي القول هنا بأن هذه الكلمة لا تذكر إلا بشاعر الإغريق الأعظم هوميروس صاحب "الإلياذة" و"الأوديسة"، المعبر بكل وضوح عن صورة الصراعات وأسطوريتها. وفي هذا السياق لنقرأ ما يكتبه ديلاكروا في "يوميات العام 1897" أي سنتين قبل شروعه في "تحدي" روبنز في عقر دار هذا الأخير مستنداً إلى رسومه المغربية: "جناح التاريخ الطبيعي. جمهور أيام الثلاثاء والجمعة. أفيال. خرتيتات. وحيدو القرن. حيوانات غريبة! لقد عرف روبنز كيف يرسم هذا كله إلى حدود الإعجاز!".

كأننا في زمن شاعر الإغريق!

صحيح أن ديلاكروا لم يذكر الأسود ولا الأحصنة العربية هنا لكنه سيضيف: "كم كل هذا رائع! كأننا نعيش في زمن هوميروس" ولسوف يتضح أن استخدام التوصيف الهوميري هنا لم يكن صدفة، حتى وإن كان بعض المؤرخين قد حرصوا على تذكيرنا بأن ديلاكروا قد استخدم التوصيف نفسه حتى في حديثه عن لوحته "نساء الجزائر في دارهن" على سبيل المثال، فالهوميرية تتعلق بالنسبة إليه بكل ما هو بطولي وفريد في الحياة. أما الصراع فذروتها التي كان على الجمهور أن ينتظر بعض الوقت أيضاً ريثما يكون الرسام "الاستشراقي" الرومانطيقي المتمترس الآن خلف هوميروس كما خلف روبنز، قد استكمل عدته الفنية كي يتمكن خلال عقد تال من تحقيق تلك اللوحات التي أوصل فيها إلى الذروة التعبيرية تلك الأقانيم الثلاثة التي كان لا بد له من أن يضمها أخيراً في بوتقة فنية واحدة. بوتقة فن متحرك يمتزج فيه الجسد الإنساني بالجسد الحيواني بجسد الطبيعة ودائماً في انطلاق مما هو عربي: فارس عربي، حصان عربي، بيئة عربية... ويقيناً أن هذا الجانب الاستعرابي في فن ديلاكروا، ولو تأخر بعض الشيء مخلياً المكان لاستشراقية مفتعلة غارقة في رومانطيقية ستمحوها الواقعية الطبيعية الشرسة، وعلى الأقل في الأفضل بين تلك اللوحات السبع التي نتناولها هنا، يقيناً أن هذا الجانب - الذي نفضل وصفه بـ"الاستعرابي" لطغيان هذا الجانب كما أشرنا على الجانب "الاستشراقي" - يأتي هنا في هذه اللوحات ليعطي لهذه المرحلة من فن ديلاكروا نكهة تختلف كلياً عن النكهة الاستشراقية، ما يفتح المجال واسعاً للسجال من حول استخدام المفاهيم والمصطلحات في الفنون والآداب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعيداً مما هو نمطيّ

فبعد كل شيء بات لا بد من البحث عن حلول أفضل من الجمع في بوتقة نظرية واحدة بين سكونية الفنون الاستشراقية ودينامية الفنون الاستعرابية. ويقيناً أن ريشة ديلاكروا وألوانه التقت مع الإيقاع المتجلي في خطوطه، وهو إيقاع لا ريب أنه كان يخطر في بال الفنان وهو يأتي على ذكر هوميروس ومفهوم الصراع لديه، فيما هو يتحدث عن تلك اللوحات التي من المؤسف أنها نادراً ما ربطت باستلهامات ديلاكروا العربية لدى باحثين توقفوا عند ما هو عادي ونمطي في علاقة هذا الفنان الملهم بالشرق وسكتوا عما هو دينامي وعصري لا شك أن خليفة روبنز كان يعرف من خلاله ماذا يريد أن يقول... بل أن يرسم!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة