Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دانتي وفرجيل" كما رسمهما ديلاكروا في لوحة أثارت جدلا صاخبا

عمل تحول إلى قمة في الرسم المعبر عن أعمال أدبية

مقطع من لوحة "مركب دانتي" لديلاكروا (متحف اللوفر)

كان الرسام الفرنسي أوجين ديلاكروا بالكاد قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره حين اتخذ قراراً حاسماً في حياته: لن يرضخ ولا مرة واحدة في هذه الحياة لضغوط الجوائز والتكريمات المادية، بل سيكتفي بأن يمارس فنه كما يرتئيه، وليفعل الآخرون تجاه ذلك الفن ما يشاؤون. وهكذا، في ذلك العام بالذات، امتنع ديلاكروا عن التوجه إلى روما ليشارك في مبارايات فنية ضخمة تتعلق بجائزتها الشهيرة، وذلك على الرغم من أن اللوحة التي كان يعكف على إنجازها في ذلك الحين تتناول موضوعاً كان من شأنه أن يرضي محكمي الجائزة الإيطالية الكبرى ويجعله في مقدمة المرجحين للفوز: كان يرسم لوحة تمثل مشهداً استوحاه من أحد فصول "الكوميديا الإلهية" لشاعر الإيطاليين الأكبر دانتي. وكان ديلاكروا يعرف كم أن كل شيء مستوحى من دانتي يمكنه أن يثير حماسة ذلك الشعب الذي كان يعاني ما يعاني "صلف الفرنسيين"، ويتصيد بفرح أية إشارة إيجابية من جانبهم ليستقبلها مرحباً.

مجازفة

غير أن ذلك لم يشكل أي إغراء للفنان الشاب الذي لفرط حبه لوحته وإعجابه الشخصي باختياره الموفق، لم يستغرقه العمل على اللوحة أكثر من شهرين ونصف الشهر كي يعرضها في "الصالون الباريسي" في عام 1822 مجازفاً بأن لا تلقى القبول العام الذي كان يمكن أن يكون من نصيبها لو عرضت في روما. والحقيقة أن ديلاكروا كان يجازف بالفعل بالنظر إلى أن اللوحة الضخمة التي يبلغ عرضها 246 سم، وارتفاعها 189 سم، والمعلقة الآن في متحف اللوفر، لم تلقَ إجماعاً حين عرضت، حتى وإن كانت تعد اليوم من أهم مقتنيات ذلك المتحف الكبير. وتحمل اللوحة الآن عنوان "مركب دانتي"، وإن كانت قد عرفت في البداية باسم شخصيتيها الرئيسيتين "دانتي وفرجيل". وهي تنتمي بالتأكيد إلى تلك السلسلة من لوحات ديلاكروا التي اجتهد فيها هذا الفنان، في مراحل متفرقة من مساره الفني الرائع، في مجال التعبير عن مواضيع أدبية مستقاة من أمهات الكتب لكبار الأدباء، من دانتي إلى شكسبير وغوته وغيرهم بالطبع.

تساؤلات محيرة

الحقيقة أن متأمل لوحة "مركب دانتي" سيظل يتساءل بحيرة عما دفع عدداً لا بأس به من أهل الفن والفكر في فرنسا الربع الأول من القرن التاسع عشر إلى مهاجمة هذه اللوحة حين عرضت في الصالون المذكور. ففي نهاية الأمر لدينا هنا عمل فني كبير قد يكون "استوحى" لوحة جيريكو "طوف الميدوزا" التي كان هذا الفنان الفرنسي الذي كان، على أية حال، صديقاً لديلاكروا وأستاذاً له، قد أنجزها ونالت إعجاباً عاماً، قبل ظهور "مركب دانتي" بعامين، أو ثلاثة، لكن الإنصاف يقتضي منّا، وكان يقتضي من نقاد تلك المرحلة، الإقرار بأن لوحة ديلاكروا تفوق في قوتها التعبيرية لوحة جيريكو. وهو ما اعترف به هذا الأخير حين رد بنفسه على منتقدي ديلاكروا المتهمين إياه بـ"السرقة" الفنية، إذ قالوا إن ديلاكروا ما كان من شأنه أن يرسم مثل هذه اللوحة لولا أنه كان قد شاهد لوحة "الميدوزا"، فكان رد جيريكو الحاسم: "قد يكون هذا صحيحاً، لكن "مركب دانتي" لوحة كان ليسرني أن أوقعها بنفسي"، لكن جيريكو لم يكن الوحيد الذي دافع عن لوحة ديلاكروا تلك، بل كان هناك كثر، ولا سيما في صفوف الكلاسيكيين الجدد الذين كان معظمهم من مهاجمي اللوحة معتبرينها شاذة عن معايير فنية وضعوها ويطالبون ديلاكروا بالتقيد بها.

موقف لافت من سياسي المستقبل

ولا بد أن نذكر هنا أن من بين المدافعين بشدة عن لوحة ديلاكروا يومها كان هناك محامٍ شاب وصل العام الماضي من مدينة إيكس آن بروفانس ساعياً وراء مسار سياسي سيقوده لاحقاً لأن يصبح وزيراً وواحداً من كبار ساسة فرنسا، وهو تيير الذي كتب في صحيفة "الدستوري" مقالاً صاخباً أعلن فيه، وهو المحب عادة للفنون أن "لوحة ديلاكروا هذه حدث فني كبير". ولقد كان التعبير عن هذا الرأي بداية صداقة بين الفنان والمحامي امتدت عقوداً، وجعلت تيير ما إن صارت السلطة في يده، يكلف ديلاكروا بأشغال فنية كبيرة لحساب الحكومة، ناهيك بأن تلك الصداقة قربت ديلاكروا حينها من سياسي فرنسي كبير آخر هو تاليران، ما فاقم من حدة الهجومات التي راحت تنصب على رأس الفنان الشاب، زاعمة أنه لولا تلك العلاقة مع تاليران ما كان يمكنه أن يحظى بالمكانة التي حظي بها. مهما يكن فإن عرض "مركب دانتي" في المعرض الباريسي يومها لم ينتهِ إلا والحكومة الفرنسية قد اشترتها مقابل مبلغ 2400 فرنك، ما كان يعد مبلغاً ضخماً يدفع لفنان على قيد الحياة – كي تعلق في متحف اللوكسمبورغ لتنقل بعدها إلى اللوفر، حيث تقبع اليوم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عاشت اللوحة بعد نسيان مناوئيها

إذا عاشت لوحة ديلاكروا، ولا تزال حية حتى اليوم، قيماً نسي صخب منتقديها ومهاجمي رسامها... وهي تعد اليوم من أهم اللوحات العالمية التي عبرت عن بعض أجواء "الكوميديا الإلهية"، وتمثل تحديداً ذلك المشهد الدانتيسكي الرائع الذي يصف فيه الشاعر الإيطالي كيف توجه فليجياس قائد المركب براكبيه دانتي وفرجيل على متن المركب الملعون إلى مدينة "ديتي" في الجحيم، وقد تعلق بالمركب عدد من الموتى والملعونين الخطاة. والحقيقة أن ديلاكروا لم يخف أبداً أنه منذ شاهد لوحة جيريكو اتخذ قراره بأن يرسم ما يدنو منها. وفي البداية، كانت الفكرة أن يصور مجموعة من الغرقى وهم يتخبطون في الماء دون أن يكون ثمة خلفية تاريخية أو أدبية للحدث الذي يصوره، لكنه بالتدريج بدلاً من وجهته وراح يقرأ صفحات عديدة في كتاب دانتي حتى وقع على النشيد الثامن من "الجحيم"، حيث يتحدث الشاعر بإسهاب عن "كل أولئك الذين عاشوا حياتهم في غرور وغضب وكبرياء". وهكذا، قرر الرسام الشاب الذي كان مولعاً بالأدب والشعر ولعه بالرسم أنه وجد موضوعه، خاصة أنه أمضى ردحاً من الزمن في تلك الأيام وهو يتأمل أو يستعيد في ذاكرته لوحات ومنحوتات لمايكل أنغلو وروبنز وجيريكو بالطبع حتى يتلمس السبل الأفضل للتعبير عن الملعونين من سكان الجحيم، ولكن أيضاً وكما سيقول بنفسه، "بحثاً من موسقة جديدة للألوان لم يكن لي بها عهد من قبل". وعلى هذا النحو ولدت تلك اللوحة التي لن يلبث ديلاكروا أن يستعيد في مبدعه الكبير الآخر "الحرية تقود الشعب" (1930 – 1031) بعضاً من عناصرها الرئيسة لتعد اللوحتان إلى حد ما نوعاً من "ثنائي" تصويري يقف على حدة، ليس في المسار الفني لديلاكروا وحده، بل حتى في الفن النيوكلاسيكي الفرنسي الذي أوصله ديلاكروا نفسه إلى ذرروته خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما فعل بالنسبة إلى الفن الرومانطيقي الذي تبدّى واحداً من سادته الكبار. ولعل ما يزيد في "لعبة التقارب بين اللوحتين" كونهما معلقتين الآن قريبتين من بعضهما البعض في "متحف اللوفر" الذي يعدهما من درره النادرة في تكامل موضوعي ينظر إلى "مركب دانتي" بوصفها قمة من قمم الرسم المرتبط بالأدب، وإلى "الحرية تقود الشعب" بوصفها قمة في الرسم السياسي.

لحظة مفصلية في تاريخ الفن الفرنسي

والحقيقة أن هاتين اللوحتين، على أهميتهما وجمالهما وعمق النظرة التي يلقيها أوجين ديلاكروا (1798 – 1863)، على العالم وشؤونه من خلالهما، ليستا القمتين الوحيدتين في مساره الفني، فهو أبدع لوحات تاريخية واستشراقية وأبدع بورتريهات، بحيث كان سيد الرسم في زمنه ومرجعاً في تطوير التيارات الفنية التي راحت تولد على يديه فيجد متابعين له بشكل كون مرحلة زمنية وصل فيها الفن الفرنسي إلى ذرى كانت هي ما مهد لفنون الأزمان التالية بدءاً من الانطباعية، وصولاً إلى فورات القرن العشرين التي بوّأت فرنسا مكانة غير محدودة في مسار الفن العالمي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة