Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة إلى وليد إخلاصي الكاتب الدرامي ومسرحياته

راهن الكاتب السوري على رمزية شخصياته لنقد الواقع المأزوم ومرافقة التحولات السياسية

من مسرحية "إبراهيم وصفية" لوليد إخلاصي (صفحة الكاتب - فيسبوك)

كان الأديب السوري وليد إخلاصي الذي رحل قبل شهر، قد كتب قرابة خمسين مسرحية منذ عام 1966 مفتتحاً مساره الدرامي الحافل بمسرحية "طبول الإعدام العشرة" التي نشرها في مجلة "حوار" التي كانت تصدر في بيروت ويرأس تحريرها الشاعر توفيق الصايغ، ثم عكف بعدها على كتابة الأدب المسرحي بغزارة جعلته يتصدر الأسماء الأولى في الكتابة المسرحية السورية. وجعلت منه منذ ستينيات القرن الفائت ضيفاً شبه دائم على المهرجانات المسرحية، السورية والعربية. لكن هذا الحضور كنجم ثقافي لم يوازه حضور في تجسيد نصوصه المسرحية على الخشبة، التي بقي الكثير منها طي الأدراج وعلى رفوف المكتبات، فلم تستفز المخرجين لتحقيقها، أو تسهم في تزويد المشهد المسرحي السوري أو العربي بمقترحات فنية جديدة.

وأبرز تلك الأسباب التي وقفت خلف إحجام العديد من المخرجين عن تجسيد نصوص إخلاصي كانت في عدم خبرة الكاتب الكافية في الشرط الفني أو التقني المسرحي، وعدم قدرته على التفريق بين الكتابة للقصة والرواية وبين الكتابة للخشبة. وهذه من سمات العديد من أبناء جيله من أمثال حسيب كيالي، وعلي كنعان، وعلي عقلة عرسان، الذين قدموا نصوصاً أدبية صرفة في معظمها، تصلح للقراءة وليس لتجسد على المسرح. فمعظم ما كتبوه يميل إلى المسرحية الشعرية، وإلى مواكبة مناسبات قومية ووطنية عبر نصوص وجدانية جاءت وقتها كرد على الهزائم العربية المتلاحقة منذ يونيو (حزيران) 1967، أو كمحاولة للتغني بالانتصار على العدوّ.

نصوص مسرحية

وعلى الرغم من النوايا الطيبة لهؤلاء في محاولة إغناء المكتبة العربية بنصوص مسرحية تعبّر عن الواقعين السياسي والاجتماعي لبلادهم، فهم ظلوا يصدّرون كتابات تميل إلى تصوير الواقع بشكل خارجي، وتقدم شخصيات تحاكي ظرفها السياسي والاجتماعي من الخارج، من دون العمل على عوالمها الداخلية، وعبر نبرة خطابية يملؤها الإنشاء والحوارات المطوّلة، والانتقالات السريعة بين الأزمنة والأمكنة، بلا دراية كافية باللعبة الدرامية، وإيجاد معادل فني للقصة التي غالباً ما تنتهي بشكلٍ رمزي مفاجئ، بعد تقديمها ضمن إطار واقعي صرف.

وليد إخلاصي هو أحد تلك الأمثلة الساطعة عن الكتابة المسرحية التي لم تجد القصص الملائمة لمسرحياتها، ومع أنه أسهم في تأسيس "مسرح الشعب" في حلب عام 1968 كرد على المسارح التجارية التي كانت سائدة في تلك الأيام، إلا أن نصوصه المسرحية في معظمها تخلو من الإحالات الإخراجية، ومن أي إرشادات للإضاءة أو تصور للديكورات والأزياء والحركة، بل اقتصرت على مقدمات سردية، وحواريات ثنائية كما في مسرحيته "الليلة نلعب"، وفيها يدور الحوار على لسان رجل وامرأة على امتداد فصلين وستة عشر مشهداً. وعبرها ينتقل الكاتب قافزاً من العصر البدائي إلى عصور ملاّكي الأراضي، مروراً بأزمنة الآلة، وأزمة الاستغلال الرأسمالي، ووصولاً إلى جنون العظمة عند الأنظمة الفاشية.

تطغى على نصوص إخلاصي المسرحية تلك الرغبة في تشريح الفساد الوظيفي، والخلل الإداري في بنية المؤسسات الرسمية. فأبطاله معظمهم من الموظفين الحكوميين، وأساتذة الجامعات، والمدرّسين، والباحثين الأكاديميين، والمزارعين الناقمين على سلطة الإقطاعي. وهذا ربما يعود إلى كون الكاتب موظفاً حكومياً لسنوات طويلة في مديرية الاقتصاد في حلب، وقد تخرج في كلية الزراعة في جامعة الإسكندرية، ويتجلى شغفه باختصاصه هذا في نصوصه كما في مسرحية "كيف تصعد دون أن تقع"، وهي المسرحية التي يصوّر فيها شخصية "منتصر" الموظف الانتهازي الفاسد الذي يتدرج في المناصب الوظيفية حتى يصبح وزيراً، على رغم كل الدلائل التي تثبت عدم كفاءته وفساده. وهذا ما يتكرر في نصوص عدة لوليد إخلاصي كما في نصوص "أيها الحضور الكريم" و"الليلة العلمية" و"طفولة جثة"، حيث تحضر شخصيات تعاني من القهر الإنساني، ومن تغوّل السلطة، ولكن ضمن إطار فني مباشر لا يلبث أن ينتهي نهايات سريالية، وبالتغني بالأخلاق الحميدة للخلاص من سيطرة الفساد والمفسدين.

فصل واحد أو فصلان

وبرز إخلاصي في كتابة المسرحية ذات الفصل الواحد أو الفصلين، وعالج عبر هذه النصوص قسوة السلطة، وغياب العدالة، وكان أبطاله جلهم شخصيات منعزلة من موظفين متوسطي الحال، لم تنفعهم استقامتهم للبقاء في مواقعهم. وفيما عوّل الكاتب الراحل على كتابة القصة بذريعة المسرحية، حاول الإفادة من قراءاته لمسرحيات تشيخوف وهنريك إبسن وتوفيق الحكيم وآرثر ميلر وسوفوكليس، وذلك بدا واضحاً في مسرحيته "حدث في يوم المسرح" التي تعتمد على حوار الممثل الوحيد على المسرح مع بغماليون كرثاء لفن المسرح في يومه العالمي.

استلهم وليد إخلاصي أيضاً مسرحية سوفوكليس "أوديب ملكاً" تحت عنوان "أوديب" وفيها وزع الأدوار بين باحثين صديقين يجريان تجاربهما العلمية على عقل إلكتروني يخبرهما بتنبؤ أشبه بتنبؤ العرّاف تيريزياس. فبدل أن يقتل الابن أباه ويتزوج أمه، تحمَلُ الفتاة من أبيها، وهي سكرتيرة أحد الصديقين، والابنة غير الشرعية للآخر. وبعد اكتشاف الواقعة يقرر الأب المفجوع الانتحار، لكن بدلاً من أن يتجرع السم، يتناوله ولده عن طريق الخطأ ليتحقق التنبؤ. وفي هذا النص نلاحظ الارتجال في الاقتباس، وتصوير الأحداث بشكلٍ كاريكاتوري من أجل إقحام التراجيديا على شخصيات من الزمن الراهن، ولكن من غير معرفة وافية بالنص الأصلي، وسبر أعماقه النفسية والتاريخية.

كتب إخلاصي المسرحية الطويلة ذات الفصول والمشاهد المتعددة، واستخدم في ذلك أسلوباً تجريبياً في معالجة أحداثها، وتصوير عوالم شخصياتها، مطوّعاً بعض المفردات باللهجة العامية. ولعل أبرز تلك النصوص مسرحيتاه الطويلتان "الجنون متأخراً" (2002) و"العشاء الأخير" (2004)، وفيهما عالج إخلاصي حالات التوقيف التعسفية، وظروف الاعتقال، مُنقّباً بجرأة في عالم السجون السورية، وثنائية الضحية والجلاد. ويؤخذ على هاتين المسرحيتين أيضاً غلبة السردي على الدرامي، وحاجتهما إلى جهود إعداد فنية كبيرة لتكونا صالحتين للعرض على خشبة المسرح.

صورة المرأة

تبرز المرأة في مسرح الكاتب الراحل مذعنةً للظرف الاجتماعي، ومصدراً للشر والفساد الأخلاقي كما في مسرحية "من يقتل الأرملة"، أو تضع اللوم على الآخرين لتعاستها وفشلها في دراسة الإخراج السينمائي كما في مسرحية "الجنون متأخراً"، أو تنصاع للعرف الاجتماعي مقدّمةً رقبتها للذبح كما في شخصية "صفيّة" في مسرحية "مقام إبراهيم وصفية". لم تسهم شخصية نسائية كتبها إخلاصي في التمرد على ظرفها الراهن، بل كانت دوماً رمزاً للضحية أو الإغواء أو شهيدة العفة، من دون أن يكون لها دور في تطوير الحدث، وتأليب الصراع الدرامي، بل كانت رمزاً للخيانة الزوجية كما في شخصية هالة في مسرحية "هذا النهر المجنون" التي تتعرض لفترة سقوط النظام الإقطاعي في سورية، وما خلّفه قانون الإصلاح الزراعي من انهدامات في بنية المجتمع السوري بعد تسلم البعث للسلطة عام 1963.

يعتبر إخلاصي من أوائل الكتّاب الذين عالجوا هزيمة يونيو 1967 في نصوصهم، ولا سيما في مسرحيته "الأيام التي ننساها"، وقد حاول عبرها إدخال الملحمية الخاصة بمسرح بريخت في معالجته الفنية للنص. وقد استخدم إخلاصي فيها الجوقة لرواية الأحداث، وسرد ماضي القصة، لكن من خلال مخاطبة الجمهور بشكلٍ مباشر، وتقمص أفراد الجوقة لشخصيات وأدوار أُخرى، واستخدام الأغنيات الشعبية كفواصل بين لوحةٍ وأُخرى، فظل دور الجوقة سلبياً، واقتصر على الإنشاد والتعليق التوضيحي على أحداث المسرحية التي تروي حكاية اليهودي الطيب وابنته صوفيا، وكيف تمكنا من خداع أهالي القرية في إسقاط على حرب حزيران بين العرب وإسرائيل. وهذا ما جعل هذه المسرحية تجنح نحو العاطفية بدلاً من العقلانية في صياغة خطابها، فلم تترك مسافة بين الدور والممثل، أو بين العرض والجمهور، فبدت "الأيام التي ننساها" عملاً تعبيرياً تقليدياً بدل أن يكون عملاً ملحمياً على الطريقة البريختية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غلب السرد على الصراع في أعمال إخلاصي، لاسيما القصيرة منها من مثل "لقمة الزقوم" و"الثعبان" و"الثرثرة" و"ليلة العمر القادم" و"من يسمع الصمت"، وفيها جميعها يحكي الكاتب قصة ثم يكملها حواراً. وغالباً ما يأتي الحوار في مسرحيات الكاتب السوري غير منسجم مع المستويين الاجتماعي والثقافي للشخصيات، مما يصعّب المهمة على أي من المخرجين الذين يحاولون نقل نصوصه إلى التجسيد على الخشبة. ومما لا شك فيه أن إخلاصي أسهم في رفد المكتبة المسرحية الأدبية، لكن اللافت للانتباه هو دور اتحاد الكتّاب العرب في تصدير مسرحيات إخلاصي عبر منشوراته، ولا سيما مجلة "الموقف الأدبي" التي نشرت له جلّ نصوصه غير الصالحة للتحقق والتجسيد على خشبة مسرح، بل عززت النظر إلى فن المسرح وفقاً للنظريات الأدبية، وبعيداً من اعتبار الكتابة للخشبة فناً يجب على مؤلفه الإلمام بالتقنيات المسرحية الأُخرى من إخراج وتصميم ديكور وتأليف موسيقي وأداء ممثل.

ومع أن العديد من المخرجين -ولا سيما من أبناء جيله- حققوا نصوصه على الخشبة، من مثل حسين إدلبي، وزيناتي قدسية، و وانيس البندك، ومحمود خضور، إلا أن تلك العروض لم تسهم في تطوير المقترحات الفنية للمسرح السوري، بل ظلت عروضاً اعتيادية ضمن تنفيذ خطة روتينية للأنشطة الفنية الرسمية، ومحاولة بائسة للانتصار لثقافة العناوين من دون الدخول، ولو مرة في متون النصوص المكتوبة، واختبار قابلية تحققها على المسرح.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة