Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الروسي المنبوذ"... هل يسقط العالم صريع الكراهية المجانية؟

أنتجت بعض الدول "ذهنية التعصب" ضد كل ما يمت لموسكو بصلة حتى لو تبرأ مواطنوها من سياسة بلادهم

يتحرك الروس مترقبين في أنحاء العالم بعد العداء العالمي تجاههم بسبب أوكرانيا (أ ف ب)

حتى أسابيع قليلة مضت، كان البحث عن أفضل المطاعم أو أحسن المشروبات الروسية أو أشهر مسرح يقدم عروضاً فنية تدور في رحى ثقافة موسكو، تجري في دول عدة توجد فيها جاليات أو أشخاص ذوو أصول روسية، من دون الشعور بالذنب أو استشعار للحرج.

وبينما القوات الروسية في أوكرانيا ودول عدة بالعالم، لا سيما الغرب، تندد يومياً وتتوعد على مدار الساعة بالتضييق والتأديب والتأزيم على المنتجات الروسية لردع الهجوم وكبح التوغل وتهدئة التغول، يجد الروس أنفسهم في أرجاء الأرض "المتعاطفة مع أوكرانيا"، موضع تنمّر وتشكك ومجافاة.

التنمر في المدارس

قصص لا حصر لها تُروى في الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية عدة عن انصراف الأطفال عن زميل لهم في الفصل الدراسي لأنه روسي "وقد يقتلهم"، أو شبح إفلاس يحيط بمقهى صاحبه روسي وربما زوجته أوكرانية، لأن "قائمة الطعام" روسية، أو مقاطعة شعبية لسوبرماركت صغير متخصص في بيع منتجات موسكو من قبل سكان الحي. حتى الـ"ماتريوشكا" (العروس الخشبية التقليدية) التي كانت تقف مزهوة بنفسها في واجهة المحال الروسية في لندن وباريس ونيويورك وأمستردام احتجبت لحين مرور عواصف العواطف، التي لا تقل وطأة وحدّة عن الأرتال البرية والدبابات العتية والطائرات المسيّرة وقرارات العمليات العسكرية.

قرارات الاتحاد الأوروبي وأميركا وكندا وبريطانيا مقاطعة منتجات روسية وفرض عقوبات تتراوح بين تعليق استيراد النفط والغاز ووقف شراء الألماس والكافيار ليست الأفدح أو الأعمق أثراً، بل إن وضعية "المنبوذ" هي ما استيقظ عليها ملايين الروس في دول عدة بالعالم ليجدوا أنفسهم قيدها.

الروسي المنبوذ

الروسي المنبوذ في أميركا أو بريطانيا أو فرنسا أو إسبانيا أو ألمانيا أو غيرها من الدول التي "تتمنى" وقف التحركات العسكرية في أوكرانيا واقع في حيرة كبيرة. تقارير صحافية تتحدث عن الروسية الأميركية الصغيرة التي عادت من المدرسة باكية لأن زميلات الفصل رفضن وجودها معهن "خوفاً من أن تقتلهن كما يفعل أهلها في أوكرانيا". وعلى الرغم من أن الصغيرة ولدت في أميركا، فإن عواصف العواطف المتصلة بالحرب وما تعرضه الشاشات وما يقوله الأهل عن "العدوان الروسي" كفيل بوضع الصغيرة في خانة المنبوذين.

 

 

الصغيرة وأقرانها من الروس أو من أصول روسية بالمدارس والجامعات في دول عدة حول العالم ليسوا وحدهم من يعانون منذ حطّت الحرب أوزارها. وزر الحرب على الأبرياء يقابله ذنب النبذ لمن لا ناقة له ولا جمل، لكنه يحمل "وصمة" الانتماء لمن بادر بالعدوان. مطعم روسي في سان دييغو الأميركية يمتلكه زوجان، الزوجة روسية والزوج أرميني لكن أقام في موسكو قبل هجرتهما إلى أميركا، خفّض ساعات العمل والإضاءة وقائمة الطعام المقدم. فمنذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا وهاتف المطعم يتلقّى مكالمات من أشخاص يتوعدون ويسبون ويهددون الزوجين "وكأنهما مندوبا بوتين" في سان دييغو، حسبما أوردت مجلة "تايم" الأميركية.

"تشيكن كييف"

على هامش العقوبات والمقاطعات الرسمية لروسيا، فإن جهوداً شعبية يبذلها البعض إما بصفة مؤسسية غير رسمية أو فردية بحتة باعتبارها تأديباً في متناول اليد لروسيا: إلغاء العروض الفنية والثقافية ومقاطعة الأشجار والقطط والفودكا والألماس والكافيار الروسي والشطب على "سلاد روس" من قائمة السلطات و"بيف ستروغونوف" من قائمة اللحوم وتعديل هجاء "دجاج كييف" من  Chicken Kiev إلى Chicken Kyiv، وهو الهجاء المعتمد حالياً للعاصمة الأوكرانية وغيرها من الخطوات التي تعبّر عن عاطفة جياشة لدى مؤسسات وشركات معضدة لأوكرانيا في وجه "الاعتداء" الروسي، خطوات يجري اتخاذها على هامش الحرب، ويراها كثيرون مؤثرة، أو على الأقل معبّرة عن توجهات المؤسسات والهيئات الثقافية والمتصلة بالترفيه والطعام المؤيدة للجانب المعتدى عليه. الطريف أن مقاطعة الفودكا "الروسية" الشهيرة لم تؤتِ ثمارها، بل ربما أتت بثمار عكسية. فبعد أيام قليلة من رفعها من أرفف السوبرماركت ومحال بيع الخمور في دول غربية عدة، اتضح أن غالبية زجاجاتها تأتي من لاتفيا منذ عام 2002 وأن مقر الشركة الأم في لوكسمبورغ، ما يعني وقوع خطر النبذ الأكبر على غير الروس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هامش العواطف الشعبية

لكن هامش العواطف الشعبية التي تميل إلى الإبقاء على الروس في بلدانهم بخانة "المنبوذين" سلاح ذو حدين وربما ثلاثة. فمن كنيسة أرثوذكسية في كندا جرى تلطيخ جدرانها الخارجية بطلاء أحمر، إلى مطاعم ومقاهٍ روسية تُكتب على واجهاتها شتائم وعبارات عنصرية عدائية في أميركا وبريطانيا وفرنسا، إلى شاحنة اصطدمت عن عمد ببوابة السفارة الروسية في دبلن، تتنامى مشاعر عداء يترجمها البعض إلى نبذ للجاليات الروسية في هذه الدول أو المواطنين من أصولها.

تصرفات وتصريحات ربما تحت وطأة الصدمة الأولى جراء الاعتداء أو التعاطف الجارف مع المعتدى عليه تصبح بمثابة بطاقة دعوة إلى مزيد من النبذ لكباش الفداء. عضو الكونغرس الأميركي إريك سوالول انجرف في مشاعره أثناء لقاء أجرته معه قناة "سي إن إن"، فاقترح "طرد كل الطلاب الروس من الولايات المتحدة الأميركية كوسيلة لردع بوتين". وكذلك انجرف نائب مجلس العموم البريطاني المحافظ السير روجر غايل، الذي اقترح "أن ترسل بريطانيا كل روسي مقيم على أرضها إلى بلده وإلغاء كل التأشيرات الصادرة لهم"، معتبراً ذلك "وسيلة جيدة لإرسال رسالة عنيفة إلى بوتين". وبسؤاله إن كان مقترحه يسري كذلك على الأطفال الروس الملتحقين بمدارس خاصة في بريطانيا، قال، "هذا قاسٍ، لكن الجميع عليه أن يذهب".

وعلى الرغم من أن مثل هذه الدعوات المدفوعة بـ"مشاعر جياشة"، تلقى انتقادات عنيفة داخل تلك الدول، فإن بين القواعد الشعبية كثيرين ممن ينجرفون فيها على مستوى الأفراد أيضاً، وهذه وتلك تتمحور حول نبذ الروس.

الروسي المنبوذ متضرر، وربما تضرره أكبر بحكم الموقف الصعب الذي يجد نفسه فيه. كثيرون من المقيمين خارج أراضي موسكو أو ممن تعود جذورهم إليها، عبّروا علانية أو بطرق غير مباشرة، خوفاً من ملاحقة بلادهم وأجهزتها لهم، عن معارضتهم لما يجري حالياً. البعض يتعقل، لكن الآخر يمتثل لمشاعره؛ مشاعر الغاضبين في برايتون بيتش الأميركية، حيث أحد أكبر تجمعات المهاجرين واللاجئين من الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا لاحقاً في العالم، أجبرت أصحاب مطاعم ومحال على إخفاء اسم روسيا وعلمها من الواجهات. وبحسب صحيفة "غارديان" البريطانية، "فإن عدداً من واجهات المحال الروسية في برايتون بيتش الأميركية اتشحت باللونين الأصفر والأزرق (لوْنَا علم أوكرانيا) مع عدد من نشرات التبرعات لصالح شعب الأخيرة".

رسوم الجدران في الشوارع المعروفة بـ"الغرافيتي" يطغى على كثير منها هذه الآونة اللونان ذاتهما، كما أن تضامن فناني الشارع مع أوكرانيا في محنتها يأتي محمّلاً بقلوب صفراء وزرقاء، ووجوه فتيات يتحدين الحرب، وكلاب ترحل مع أصحابها اتقاء لشرور المعارك، في وقت تعبّر رسوم الجدران أيضاً في خضم طوفان مشاعر الغضب عن قدر مزعج من العنف والكراهية للروس في دول عدة، من دون التفرقة بين روسي يدعم الحرب، فيستحق النبذ الشعبي، وآخر يعارضها.

إحياء الـ"روسوفوبيا"

إعادة إحياء مصطلح الـ"روسوفوبيا" أو كراهية كل ما هو روسي، وهي "الفوبيا" التي تملّكت كثيرين في دول عدة وقعوا فريسة لتسييس الرأي العام وتوجيه بروباغندا تفاقمت إبان الحرب العالمية الثانية، لم تنتهِ بانتهاء الحرب، أو بموت وزير الدعاية في ألمانيا النازية جوزيف غوبلز. الصورة والانطباع الذهنيين لدى البعض في دول عدة حول العالم بشأن "الروسي" ليست منزهة عن السلبية أو استدعاء قوالب العداء التاريخي المتوارثة.

 

 

عام 2019، أجرت مؤسسة "بيو" لبحوث الرأي العام استطلاع رأي في 33 دولة حول صورة روسيا والروس، وأشارت النتائج إلى "أن النسبة الأكبر، لا سيما في أميركا الشمالية وغرب أوروبا، لا تنظر إلى موسكو أو الروس بطريقة جيدة أو إيجابية، بخاصة في ما يتعلق بقدرة بوتين على إدارة علاقات بلاده مع العالم. فمثلاً، 18 في المئة في أميركا، وثلاثة بين كل عشرة في كندا، ونحو 31 في المئة من شعوب غرب أوروبا تنظر إلى أهل موسكو من منظور إيجابي. وعلى الرغم من أن الجاليات الروسية كبيرة العدد في هذه الدول، فإن تنامي النظرة السلبية في ضوء الحرب الأوكرانية يبدو منطقياً ومفهوماً وليس بالضرورة مقبولاً، لا سيما حين يتعلق الأمر بتنمّر أو سوء معاملة أو إلحاق الضرر بأشخاص.

"غوبلز" يعود و"تيندر" يدفع الثمن

تشبيه مدير الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين التقنيات الإعلامية الغربية التي وصفها بـ"اللجوء إلى أنصاف الحقائق" بالأساليب التي كان يتبعها غوبلز، لم يغيّر الوضع كثيراً على الأرض، حتى أرضية "تيندر" (تطبيق المواعدة) نالت من الروس بسبب الحرب الدائرة، إذ إن تقارير صحافية أشارت في أيام الحرب الأولى إلى تواتر بحث جنود روس عن لقاءات "عاطفية" مع نساء وشابات أوكرانيات، بعد عبورهم الحدود الأوكرانية وإتاحة وجودهم على تطبيق الهواتف المحمولة.

وبينما تبقى استجابة الأوكرانيات لـ"إعجاب" وطلبات المواعدة الآتية من الجنود الروس مسألة شخصية، فإن دعوات عدة تجوب منصات التواصل الاجتماعي لتناشد الأوكرانيات مقاطعة "العواطف" الروسية، التي تتزامن وإجراءات حظر "إنستغرام" في موسكو، رداً لا على "نبذ الروسي"، بل السماح بالدعوة إلى ممارسة العنف ضده. ففي خطوة برّدت قلوباً ملتاعة مما يجري في أوكرانيا وأثارت علامات استفهام وتعجب مكتومة جراء السماح بالترويج للعنف ضد الروس، على الرغم من قواعد منصات التواصل الاجتماعي المانعة والحاجبة والمعاقبة للكراهية، أعلن رئيس الشؤون العالمية في شركة "ميتا بلاتفورمز" (منصات) التي تملك "إنستغرام" نيك كليغ أنه "سيسمح للمستخدمين في بعض الدول بالدعوة إلى العنف ضد الرئيس الروسي والجنود الروس". وجاء في بيان لـ"إنستغرام"، أنه "سيُسمح مؤقتاً ببعض المنشورات العنيفة مثل ’الموت للغزاة الروس‘ التي تُعدّ انتهاكاً لقواعد التطبيق المعلنة والمعمول بها، لكنها لن تسمح بالدعوات إلى العنف ضد المدنيين الروس".

تصاعد الحرب الكلامية على خلفية السماح بالعنف، فتهديد روسي بملاحقة ومقاضاة "ميتا"، والمطالبة بتصنيف "إنستغرام" ضمن قوائم المتطرفين، ما وصفه البعض بـ"التفاف" عملاق التواصل الاجتماعي على مناهضة العنف بعمل استثناءات للترويج له، قوبل بما يشبه الصمت العالمي.

المفوضة السامية لحقوق الإنسان إليزابيث ثروسيل استثنت نفسها ومفوضيتها من ذلك، وأعربت عن تخوّفها من "الموضوع المعقد والإعلان الغامض" اللذين يحيطان بموقف "ميتا"، وقالت، "إن ما يجري من سماح بالدعوة إلى العنف يسهم في تأكيد خطاب الكراهية الموجه إلى الروس عموماً".

جدلية صمام الأمان التي تتيح للأوكرانيين حق التعبير عن غضبهم جراء تعرّض بلدهم لهجوم عسكري وتدمير وخراب، في مقابل دعوات عنكبوتية تؤجج الكراهية والتنمر وإلحاق الضرر ومقاطعة ونبذ الروس المدنيين تقف عاجزة عن التشبث بمنطق أو التزام قواعد أو تعميم للقيم، لكن يبقى الروسي منبوذاً في أنحاء عدة، حتى لو بدّل علم بلاده بعلم أوكرانيا أو أشهر تبرّؤه من سياسة بلاده أو جاهر بأن الفودكا لم تعُد روسية مئة في المئة.

المزيد من تحقيقات ومطولات