Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل الإنسان حر؟ (الجزء 12)

يقترب سبونفيل من عدمية سارتر بشكل ملحوظ مع أنه يتراصف مع كانت وبرجسون

يقول أندريه كونت سبونفيل إن "الحرية سر أشبه ما يكون بمشكلة" (غيتي)

في الحلقة الماضية، عرضنا فلسفة جان بول سارتر في الحرية الإنسانية، فهو رفض التصورات الحتمية والإرادية في تفسير مفهوم الحرية، ورأى أن الحرية هي جوهر الإنسان وماهيته في هذا الوجود، وليس بمقدوره أن يكون حراً أو غير حر، لأنه هو الحرية ذاتها، وبالقدر الذي تعطي الحرية صفة الوجود الإنساني، فإنها قوام هذا الوجود أيضاً.

سبونفيل

يتناول الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كونت سبونفيل (1952) مشكلة الحرية من منظور منفتح على آراء وتصورات الفلاسفة الغربيين، خصوصاً الحديثين. وبحسب تصوره، فإن الحرية ليست لغزاً وحسب، بل هي غاية ومثال أيضاً. لذلك، مهما عجز السر عن الانكشاف كلياً، فإنه لا يمنع المثال من إضاءتنا، ومهما عجزنا من بلوغ الغاية بالكامل، لا يمنعنا من التشوق إلى الحرية والاقتراب منها، فالأمر يتطلب أن نتعلم كيف نتحرر، ولعل هذه الحرية ليست إلا اسماً ثانياً إلى الحكمة.

وفي مصنفه "كتاب الفلسفة الصغير" (2000)، يسرد (الترجمة الإنجليزية) بشكل موجز مواضيع خطيرة، منها مشكلة الحرية. وكذلك في مقالته الموسومة "في الحرية" (الترجمة العربية)، إذ يعرض رأيه في مفهوم الحرية، فالإنسان أن يكون حراً يعني أن يفعل ما يشاء، ولكن هذا الأمر يمكننا استيعابه على أوجه عدة، فهو بداية يعني حرية التصرف، أي حرية الأفعال المتعارضة مع الإكراه والعائق والاستبعاد، فإنني حر في تصرفاتي بهذا المعنى، كلما انعدم ما من شأنه أن يمنعني من ذلك، سواء كان شخصاً أو شيئاً. إن هذه الحرية لا تكون مطلقة، إذ هناك عراقيل دائماً، مثلما أنها نادراً ما تكون منعدمة.

وعلى طريقة سارتر بمثال السجين، يشير سبونفيل إلى أنه حتى المعتقل بوسعه أن يبقى كالعادة في زنزانته جالساً أو واقفاً، كما يمكنه أن يتكلم أو أن يصمت، أن يخطط للهرب أو أن يستميل حراسه... إلخ.

مع ذلك، لا يمكن لأي مواطن في أي دولة كان أن يفعل ما يشاء، فالقوانين والآخرون ينتصبون بوجهه كإكراهات لا يستطيع التحرر منها دونما مخاطرة ومجازفات، ولكن الدولة التي تحد من حريتك، تحد من حرية الآخرين أيضاً، فمن دون القوانين لن يكون إلا العنف والرعب.

ويكرر سبونفيل هذا القول إن "يكون الإنسان حراً يعني يفعل ما يشاء"، والحرية هنا تفيد حرية التصرف قدر ما تفيد الحرية بمعانيها المتعددة سياسياً وجسدياً ونسبياً. ويسأل هل نحن أحرار في أن نريد ما نشاء؟ إنه المعنى الثاني لكلمة الحرية، أي حرية الإرادة، والحرية بمعناها الماورائي، أي الحرية المطلقة، وهو المعنى الأكثر إشكالاً والأهم فلسفياً.

ويسأل سبونفيل هل تقوم بما تُريد أن تقوم به؟ أكيد، لكن لماذا تُريد ذلك؟ إن إرادتك جزء لا يتجزأ من الواقع، إنها تخضع كباقي الأشياء لمبدأ العلة الكافية (لا شيء يوجد من دون سبب، لكل شيء تفسير)، كما تخضع لمبدأ العلية (لا شيء يولد من عدم، لكل شيء سبب)، بل تخضع أخيراً للحتمية العامة التي تشمل الكائنات كلها وحتى المجهرية، التي فيها نوع من اللاحتمية القصوى، فأنت لن تكون أقل حتمية على المستوى الأعصاب الحيوية جراء الذرات التي تتألف منها، إذ من المستحيل أن تبقى هذه الذرات خاضعة لإرادتك إذا ما كانت حركتها اعتباطية. لعل إرادتك هي التي تخضع بالأحرى للذرات، وإذا كانت المصادفة غير حرة، فكيف للإرادة الاعتباطية بذلك؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتوغل سبونفيل في مشكلة الحرية، فإذا كنت لم أختر الذات التي تختار "أنا" فستكون كل الاختيارات التي قمتُ بها محددة بما أكونه، أي بما لم أختره. وتبعاً لذلك لن تكون هذه الاختيارات اختيارات حرة. ولكن، كيف لي أن اختار هذا الذي أنا إياه، ما دام أن كل اختيار من اختياراتي يتوقف عليه، وما دمت لا أستطيع أن أباشر بأي اختيار إلا إذا كنت بشكل مسبق إنساناً أو شيئاً ما؟ ويرفض سبونفيل قول بعض الفلاسفة الذين يرون أنه لا وجود لحرية الإرادة، وأنها مجرد وهم، ويوافق على تسميتها بعفوية الإرادة. إنها الحرية بالمعنى الذي يفرد لها كثير من الفلاسفة، من أرسطو وأبيقور إلى لايبنتز وبرجسون. إنها حرية الإرادة أو بالأحرى أنها الإرادة ذاتها من حيث هي ما لا يتوقف سوى علي أنا (حتى عندما تصبح هذه الأنا مشروطة)، إنني حر في أن أريد ما أشاء، ولذلك أنا حر بالتأكيد.

بعبارة أخرى، إن "عفوية الإرادة" سواء تكون مشروطة ومحددة بغيرها لا يمنع في شيء أن تكون شارطة ومحددة لغيرها، فهي ليست بمقدورها أن تكون محددة لغيرها، إلا لأنها محددة بغيرها. إني لا أريد أي شيء كان، بل أريد ما أريد، وبذلك فأنا حر في أن أريد ما أريد. فعفوية الإرادة تعني أن اختار ما أريد وحسب، وهي حرية الاختيار.

وبعد هذا الاستنتاج الذي يصل إليه سبونفيل، يسأل هل يتحكم في دماغي؟ فليكن، لكن إن كنت أهتدي بهدي دماغي، فذلك يعني أنني أنا الذي أتحكم في ذاتي، فأن أكون مشروطاً بما أنا عليه، معناه أن حريتي ليست مطلقة، مما يؤكد على أنها غير موجودة. إن الحرية بهذا المعنى ليست شيئاً عدا كونها القدرة المشروطة بتحديد نفسها بنفسها، على أساس أن الدماغ، وفق تأكيد علماء الأحياء العصبية المعاصرين، "نظام منفتح للتدبير الذاتي". أما أن أكون مرتبطاً به، فهو أمو حقيقي، لكن الارتباط بما نحن إياه (لا بشيء آخر) هو التحديد ذاته الذي نعطيه للاستقلالية. هكذا يحق لنا الحديث عن إرادة مشروطة، تأكيداً منا على أن هذه الإرادة ليست خاضعة ولا هشة، إنها ليست نقيض الحرية، بل هي الحرية بالفعل.

وبالنسبة إلى سبونفيل، لا يكترث إن كان الأمر يتعلق بالدماغ كمادة أو بالروح اللامادية، فكل ما يهمه ويعنيه أن يكون المرء حراً، إذ في كلتا الحالين يتوقف الأمر دوماً على ما يكونه لا غير. فحرية العقل أو حرية الفكر تستعيد مشكلة الفعل، لأن الفكر بدوره بمثابة فعل، فأن نفعل ما نشاء هو قد يفيد أيضاً أن نفكر في ما نشاء. وأن حرية الفكر (وكل ما تقوم عليه من حريات: حرية الأعلام وحرية التعبير وحرية النقاش... إلخ) جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان وشرط من شروط الديموقراطية.

عليه، فإن "حرية الفكر هي حرية العقل"، وبحسب سبونفيل، لا يتعلق الأمر هنا بحرية الاختيار، وإنما يتعلق بحرية الضرورة، أنها حرية الحقيقي أو الحقيقة كحرية. وبوسع كل شخص من الأشخاص أن يختار من بين المعاني الآتية: حرية الفعل وعفوية الإرادة وحرية الاختيار وحرية العقل. فأي منها لا يقصي الآخر، الذي يرى أنها الأهم والأصح. فهل سيكون هذا الاختيار حراً؟ لا يمكننا الجواب، ما دام أنه لا معرفة تسعفنا على ذلك، لأن كل جواب يفترض بدوره اختياراً ويتوقف عليه. ويصل سبونفيل إلى القول "إن الحرية سر أشبه ما يكون، في الأقل، بمشكلة إذ يستحيل علينا أبداً أن نثبتها، ولا حتى أن نستوعبها بالكامل. إن هذا السر هو قوام وجودنا، ولذلك فكل واحد منا هو بمثابة سر أيضاً تجاه نفسه". وهنا، يقترب سبونفيل من عدمية سارتر بشكل ملحوظ، مع أنه يتراصف مع كانت وبرجسون وغيرهما.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء