Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل الإنسان حر؟ (الجزء التاسع)

طرح هنري برغسون رؤية مغايرة في مفهوم الحرية

الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (أ ف ب)

عرضنا في الحلقة الماضية فلسفة هيغل في الحرية الإنسانية، إذ يرى أن الفكر حر، وهو صلب الحقيقة ومقياسها الوحيد، وأن كل شيء موجود يكون مرده إلى الوعي بالذات الذي يقوم به الفكر وحده، ومع أن تجربة الحرية هي التي تحرر الفكر في ذاته، لكنه يبقى حراً دوماً، فالفكر وحدة عضوية مترابطة الأجزاء، وهو بذلك "وحدة بين أضداد". 

برغسون (1859-1941)

طرح هنري برغسون رؤية مغايرة في مفهوم الحرية. فوفق اعتقاده، فإن النظريات والأفكار التي تناولت مشكلة الحرية في زمنه، لم تقدم الوصف الدقيق لها، بل زادت من الالتباسات لكل من الديمومة مع الامتداد، والتتابع مع التزامن، والكيف مع الكم، وبمجرد إزالة هذا الاضطراب ستطوى تلك الاعتراضات تجاه الحرية. إذ ليس صحيحاً أن الحرية والفرض الخارجي لا يلتقيان، بل إن القرار الحر ينبع من الروح بأكملها، وأن الفعل الحر ثمرة تقدم داخلي تلقائي يقترن بالأنا الأساسي، وهو أصل تشكيل المجموع التاريخي في حياة الشخص، وبذلك فإن الحرية هي مجموع تاريخ الشخص وذاكرته، فهي تعبير لأفعاله التي تتماهى مع الأنا فحسب. 

وهذا يعني، أن فهم الحرية يرتكز على قرار ذاتي يرتبط بالماضي، وأن الحياة الداخلية منفصلة عن الحياة الخارجية، فالشخصية الإنسانية ذاتها تعد اتصالاً حقيقياً حياً، يقضي بأن يكون الزمن الماضي مفيداً في الزمن الحاضر، وبموجب فاعلية هذا الاتصال في الشخصية يصدر الفعل الحر من الشخصية أو الروح بأكملها، ما يجعلنا أن نكون أحراراً وفق ما تنبعث أفعالنا من شخصيتنا بأكملها.  

لذلك، يجادل برغسون في كتابه "الزمن والإرادة الحرة"، بأن المفهوم التقليدي للإرادة الحرة هو مجرد ارتباك بين الفلاسفة الناجم عن ترجمة غير صحيحة لما هو ليس ممتداً إلى ممتد، و"عندما تنتسب ترجمة غير صحيحة من اللا امتداد إلى الامتداد، من النوعية إلى الكمية، في حدوث تناقض داخلي، يجب أن تتكرر بالطبع في الإجابة". (طبعة إنجليزية).  إذ ينقد فيه مفهوم الحرية عند كانت، التي يراها تمتد إلى عالم خارجي، في حين يؤكد برغسون على أن الفعل الحر باطني يصدر من تاريخ الشخص، فهي حريته الحقيقية المتقدمة عبر معطياته السابقة. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من أن الأفعال الحرة فريدة ونادرة الحدوث في حياتنا النفسية، لأنها خلق إبداعي وتلقائية روحية واستقلال ذاتي في آن، لكن بمقدور الشخص أن يحققها ويكشف عن الأنا العميقة في كيانه، ويؤكد فيها ذاته بما هو يريد أن يكون من دون عوامل خارجية، فالحرية هي ممارسة الحرية، وتأكيد على الوجود الذاتي للإنسان. ومن العوامل في تحقيق الأفعال الحرة، هو الصلة بين تجربة الإبداع وفعالية الجهد العملي، التي تجعل الذات والحياة والكون ممتلئ كلياً بلا فجوات وجودية أو فراغات روحية. لذلك، فالحرية تقوم على سلسلة من التطور والرقي في شخصيتنا الحرة، وأن نزعة الإنسان النفسية نحو الإبداع تتم عن طريق الحرية لأنها جوهر وعي الإنسان. 

ومن هنا، يذهب برغسون إلى القول "لا جدال في أن كل حالة نفسية، ببساطة تنتمي إلى شخص ما، تعكس كامل الشخصية. ومع ذلك، فإن كل شعور بسيط قد يحتوي فعلياً في داخله على الماضي والحاضر بالكامل للوجود الذي يمارسه، وبصورة واضحة، يمكن أن يكون جهداً للتجريد أو التحليل فقط". (مدخل إلى الماورائيات، طبعة إنجليزية).

وتلعب "الذاكرة" دوراً مهماً في خاصية الذات والحرية، إذ إن وظيفتها هي استدعاء الصور الذهنية التي مرت بنا في التجارب الماضية مقرونة بما سبقها وما تلاها، فتتمكن بذلك من الحكم في المواقف المشابهة التي تعرض لنا حكماً صادقاً. ليس هذا فحسب، فمن خلال الذاكرة نستطيع أن نستوعب الخلود بأسره في دقيقة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الضرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة. ويقترب برغسون من مفهوم المعتزلة بقوله، إن الإنسان كائن مدرِك، حر الإرادة، قادر على سلوك معين، والاختيار خلقاً وإنشاءً. 

والاختيار في الخلق والتطور عند برغسون ليس على النهج المادي للحياة، فهو يهاجم الماديين ويدحض نظرياتهم، فالحياة تسعى بكل جهدها للتغلب على الجمود المادي، وتبذل كل ما تملك من قوة من أجل أن تحرر نفسها من قوانين المادة، ففي بادئ ظهورها، كانت أشبه ما تكون بالمادة في جمودها واستقرارها، إذ كانت تتمثل في النبات الذي هو كالجماد في سكونه واستحالة سعيه وحركته، ولكنها ما لبثت أن نشدت الحرية من قيود وأغلال المادة، فاخترعت أنواع الحيوان، وزودتها بشتى الأعضاء التي تستطيع أن تحقق بها شيئاً من الحرية المنشودة، ثم ما لبثت أن عقدت آمالها في واحد من تلك الحيوانات جميعاً، وهو الإنسان. فلا وجود إلى الحرية بغير الإنسان، لأنه الكائن الوحيد الذي بمقدوره أن يتحرر من القيود ويكتسب الحرية، بينما الحيوان غير العاقل يفتقر إلى القدرة على التحرر.

معنى ذلك، أن الحياة قد سارت أثناء تطورها في ثلاث مراحل. الأولى، مرحلة النبات التي كانت أقرب ما تكون إلى سكون المادة وجمودها. الثانية، مرحلة الحيوان الغريزي (اللافقري) الذي يتحرك في حدود مرسومة وخطة معلومة. الثالثة، مرحلة الحيوان الفقري الذي أخذ يسير في طريق الفكر، وما يزال هذا الفكر ينمو ويشتد ويستقيم، فهو ذخر الحياة وأملها الذي سيحقق ما تنشده من حرية.

وهكذا، لا تنفك الحياة من أن تخلق وتغير وتبتدع، إذ تلتمس الحرية من القيود المادية، وهي الله، فالله والحياة اسمان على مسمى واحد، وفق تصور برغسون، وبذلك يعتقد أن هذه الحياة في حركة دائبة لكي تتخلص من هذه الأصفاد والأغلال، وفي نهاية المطاف ستظفر بما تريد، وتتغلب على الموت، وتحقق لنفسها الحرية والخلود.

في الواقع، إذا نظر هيغل إلى الفكر وحدة عضوية هي حقيقة الحرية الإنسانية، فإن برغسون جعل الفكر نتاج تطور الحياة التي تسعى لنيل الحرية. الأول، جمع عنوة بين السلب والإيجاب، ليوحد بين الأضداد، فلم يعط لمشكلة الحرية تعريفاً محدداً. أما الثاني، فجعل التطور الحياتي هدفه تحقيق الحرية، لكنه يقلل من شأن العقل في الإدراك وفي الحياة نفسها. 

إن برغسون الذي يعتقد بواسطة التجاوب الفكري "سيتم بناء فلسفة تقدمية، محررة من المشكلات التي تنشأ بين المدارس المختلفة، وقادرة على حل مشكلاتها بشكل طبيعي، لأنها ستتحرر من التعبير المصطنع الذي تطرح فيه مثل هذه المشكلات" (المصدر السابق). فعلى الرغم من ذلك، لم تصل مشكلة الحرية إلى رؤية جامعة واحدة، وهذه المغايرات في مفهوم الحرية هي تعبيرات عن الحرية ذاتها. على أي حال، من بين الذين قرأوا ما طرحه برغسون لكنهم لم يوافقوه هو راسل، مع أن الأخير كذلك يهتم بالفردية الشخصية إلى حد ما.

المزيد من آراء