Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوكرانيا وبيلاروس ومولدوفا لم تستكمل انفصالها عن الاتحاد السوفياتي

في 1991، دخلت الدبابات إلى موسكو في انقلاب عسكري استمر ثلاثة أيام، لكن 30 سنة من التحولات في الاتحاد السوفياتي السابق لم تكن كافية

احتشد مئات من سكان موسكو خارج مقر البرلمان الروسي بغية الدفاع عن يلتسين ومعارضة الانقلاب (أ ف ب)

هناك سحر معين في أن تراقب الحوادث التي مررت بها وكتبت عنها، وهي تدخل التاريخ، فتظهر في الصفحات المطبوعة مع تفسيرات دقيقة عنها، فيما تستمر الحجج بشأنها مفتوحة أمام النقاش. في ذلك الإطار، يجب أن يكون زوال الاتحاد السوفياتي حالة كلاسيكية. على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، قُدّمت عشرات التفسيرات عن انهياره، بدءًا من عدم استدامة الاقتصاد المخطط، مروراً بالثمن المدفوع لقاء محاولة التوازي مع الإنفاق على الأسلحة الأميركية، والتطلعات القومية التي أُطلق العنان لها عندما خُفّفت الرقابة، وصولاً إلى الوحشية المطلقة التي عُرفت بها الشيوعية السوفياتية.

وربما ما زال الجدال مستمراً حول سبب انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن بالكاد يُسمع نقاش حول وقت انهياره. في الواقع، أُنزل العلم الأحمر صاحب المطرقة والمنجل الذي رفرف فوق الكرملين للمرّة الأخيرة مساء 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، بعد وقت قصير من إعلان الرئيس ميخائيل غورباتشوف استقالته على شاشة التلفزيون. ورُفع مكانه العلم الروسي الثلاثي الألوان، فاعتُبر ذلك في كتب التاريخ يوم نهاية الاتحاد السوفياتي.

ومع ذلك، ليس الأمر بتلك البساطة. مثلاً، تستطيع المجادلة في أن بذور الزوال السوفياتي زُرعت حالما عمدت الحكومة البلشفية إلى تشكيل الاتحاد السوفياتي في 1922، بمعنى أن بدايته كانت نهايته. أو يمكنك القول إنه انتهى فعلياً مع إدانة [الرئيس السوفياتي السابق نيكيتا] خروتشوف [سلفه] ستالين في "الخطاب السري" الشهير عام 1956 [ندد خروتشوف بديكتاتورية جوزيف ستالين في خطاب حظي لاحقاً بشهرة واسعة، ألقي في اجتماع سري للحزب الشيوعي السوفياتي، لكنه سُرّب بشكل شبه متعمد]، وفي ذلك الخطاب، الذي ألغى عدداً من المبادئ التي تحكّمت آنذاك باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. وبالمناسبة، آنذاك وُضعت شبه جزيرة القرم تحت سلطة أوكرانيا [التي شكّلت جزءًا من الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت].

وعلى نحو مماثل، يمكنك الزعم بأن الاتحاد السوفياتي كان شبه منهك عندما تولّى غورباتشوف الحكم في 1985. أو أنه حتى لو كان الاتحاد لا يزال على قيد الحياة في ذلك الوقت،  انتهى وجوده فعلياً بحلول عام 1989 حينما سقط جدار برلين، وتراجعت الشيوعية عبر أوروبا [الشرقية]، وشرعت دول البلطيق وجورجيا في السعي إلى استعادة استقلالها [بمعنى الخروج من الجمهوريات التي شكّلت الاتحاد السوفياتي].

وعلى نحو مماثل، تستطيع الجدال بأنه ربما بعد مرور عام، ساءت الأمور حينما اقترح غورباتشوف "معاهدة اتحادية" مصممة لإبقاء كل شيء متماسكاً عن طريق تحويله من اتحاد تسير السلطة فيه من أعلى إلى أسفل إلى نوع من اتحاد على طريقة الكومنولث تسري السلطة فيه من القاعدة إلى القمة. أو [ربما انتهى الاتحاد السوفياتي] في الربيع التالي [بعد اقتراح تلك المعاهدة]، حينما حصل بوريس يلتسين مباشرة بعد انتخابه رئيساً أولاً للاتحاد الروسي، على تفويض شعبي أتاح له سرقة جزء كبير من سلطة غورباتشوف.

يمكن تقديم حجة تساند أي من تلك الحوادث بأنها تمثل النهاية الحقيقية للاتحاد السوفياتي. لكنني أفضّل التركيز على الانقلاب الشيوعي المتشدد ضد غورباتشوف قبل 30 عاماً في 19 أغسطس (آب) 1991. بالكاد استمر ثلاثة أيام، لكنه غيّر كل شيء، بدءًا من ميزان القوى بأكمله. وترك يلتسين زعيماً لروسيا من دون منازع، وأسقط الشرعية القانونية عن الحزب الشيوعي السوفياتي الذي بقي يحكم شكلياً، وجعل غورباتشوف رئيساً بالاسم لاتحاد يتفكك يوماً بعد يوم. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وبطريقة موازية، عجّل ذلك التفكك [بعد الانقلاب الفاشل] باستقلال متجدد في دول البلطيق التي نالت اعترافاً فورياً باستقلالاتها من الدول الغربية التي لم تقبل يوماً بشكل رسمي الضم القسري لدول البلطيق إلى الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. وفي غضون أيام، حذت حذوها كل الجمهوريات التي يتألف منها الاتحاد السوفياتي تقريباً، معلنةً سيادتها أو استقلالها. وخلال أسابيع، صوّت عدداً منها لمصلحة الانفصال.

في خريف 1991، شكّلت تلك الاستقلالات [في مجموعة من الدول التي كانت سابقاً جزءًا من الاتحاد السوفياتي] مجرد إعلانات عن النوايا أكثر من كونها انفصالاً فعلياً، إذ لم تنَل الاعتراف الدولي الذي تتمتع به دول البلطيق حاضراً. في الواقع، لم تُخفِ الإدارة الأميركية مثلاً حقيقة أنها تعتبر دول البلطيق استثناءً، وأعربت عن أملها في إمكانية إنقاذ الاتحاد [السوفياتي] بشكل من الأشكال، إذ شكّل البديل المتمثّل في تفكك القوة النووية العظمى الثانية، مجرد احتمال هائل لا يمكن التفكير فيه.

وكذلك انتابت تلك المخاوف أيضاً أكبر دول آسيا الوسطى، كازاخستان، آخر الجمهوريات السوفياتية التي تبنّت إعلان الاستقلال، قبل أيام فحسب من استقالة غورباتشوف. في ذلك السياق، جاءت الخطوة الحاسمة حقاً مع الاستفتاء الذي جرى في الأول من ديسمبر 1991 في أوكرانيا، وأدّى إلى تصويت ساحق لمصلحة الاستقلال.

بعد أسبوع واحد فحسب، في 8 ديسمبر، التقى قادة روسيا وأوكرانيا وبيلاروس في نزل مخصص للصيادين في بيلوفيتسكايا بوشا في بيلاروس، وتخلوا عن معاهدة 1922 التي أنشأت الاتحاد السوفياتي، وأسّسوا مكانها ما أطلقوا عليه اسم "رابطة الدول المستقلة". وفي الأساس، شكّلت تلك الدول الثلاث الاتحاد السوفياتي أصلاً، الأمر الذي منحها السلطة القانونية في حلّه.

واستكمالاً، وضعت تلك الدول فكرةً للمستقبل، متمثلة في اتحاد بلدان مستقلة، مستوحاة نسبياً من المجتمع الأوروبي الذي أصبح، من مفارقات القدر، الاتحاد الأوروبي المتّسم بطابع سياسي أكبر بفضل "معاهدة ماستريخت" التي وضعها رؤساء الحكومات يومي 9 و10 ديسمبر 1991، مباشرة بعد أن عمل توقيع اتفاق بيلوفيتسكايا [عن إنشاء رابطة الدول المستقلة] على إرسال الاتحاد السوفياتي في الاتجاه المعاكس. في المقابل، لم تدخل "رابطة الدول المستقلة" حيّز التنفيذ مطلقاً، على الرغم من طموحات بيلاروس المستقلة حديثاً، وتطلّعاتها بأن تتحول عاصمتها مينسك إلى بروكسل التجمّع الجديد [بروكسل هي عاصمة الاتحاد الأوروبي]، إذ إن القوى المتباعدة التي مزّقت الاتحاد السوفياتي كانت أعظم مما ينبغي.   

استطراداً، ليس كل ما ذكرناه سوى تمهيد للدخول في صلب الموضوع. في رأيي، لا يُعتبر السبب الوحيد وراء نهاية الاتحاد السوفياتي الحقيقية هو انقلاب 19 أغسطس 1991 الذي دمّر بشكل فاعل مركز القوة السوفياتية من دون رجعة، مُسرّعاً التوجهات الانفصالية التي أطلقتها أصلاً إصلاحات غورباتشوف. بالأحرى، يضاف إلى ذلك الانقلاب ما أظهره مساره بشأن التغييرات في روسيا التي تُعدّ إلى حد بعيد، الجزء الأكبر والأكثر هيمنة في الاتحاد السوفياتي.

واستطراداً، نُفّذ الانقلاب على يد لجنة طوارئ عيّنت نفسها بنفسها، وتألّفت من متشددين شيوعيين سافروا إلى فيلا في شبه جزيرة القرم حلّت فيها عائلة غورباتشوف كي تستمتع بعطلتها الصيفية، وأجبروه على الاستقالة بسبب "اعتلال صحي" زائف، واستولوا على السلطة بذريعة "إنقاذ البلد" التقليدية.

في المقابل، فشل الانقلاب. ويقف وراء فشله أمر بالغ الأهمية، إذ لم يتمكن قادته من ممارسة السلطة التي حاولوا الاستيلاء عليها. ومع حلول 21 أغسطس 1991، انتهى كل شيء حينما أرسل يلتسين وفداً لتحرير غورباتشوف وإعادته وزوجته، رايسا، إلى موسكو. لكن موسكو التي غادرها غورباتشوف بغرض قضاء إجازته، وموسكو التي رحّبت بعودته، شكّلتا مكانين مختلفين.

مما لا شكّ فيه أن الانقلاب بدا كأنه عمل غير احترافي منذ البداية، إذ نجح المنظمون في السيطرة على وسائل الإعلام، علماً أنّ وسائل الإعلام الوحيدة آنذاك تمثّلت في تلك التي تهيمن عليها الدولة، وتصرّفت بالطريقة المعتادة في حالة الطوارئ، فجمعت القنوات كلها معاً كي تبثّ الأمر ذاته. في تلك الحالة، اتّخذ البثّ هيئة تسجيل قديم لسمفونية "بحيرة البجع" (بالأبيض والأسود)، وجرى تمرير بيان لجنة الطوارئ أثناء ذلك العرض. لكنهم لم يؤمّنوا الشوارع، حتى في وسط موسكو.

منذ حوالى الثامنة صباحاً، شاهدتُ من نافذة شقتي المطلّة على الطريق الرئيس، صفوفاً من المركبات العسكرية، بما في ذلك ناقلات الجند المدرعة، تدخل المدينة. في المقابل، استمرت ساعة الذروة في المواصلات، التي كانت شديدة، كأي يوم عادي من شهر أغسطس. وبحذر، تنقّلت حافلات وباصات كهربائية وسيارات خاصة، حول القافلة العسكرية، مع قليل من العرقلة.

وصل سائقي (حاز المراسلون الأجانب سائقين في تلك الأيام) إلى العمل كالمعتاد، فقمنا بجولة في السيارة في جميع أنحاء المدينة لنرى ما يحدث. أخذتُ جميع الوثائق الثبوتية الممكنة على أساس أننا سنلتقي نقاط تفتيش، وتوقعت تماماً العودة في غضون ساعة. لكننا تجوّلنا حول موسكو ولم نواجه أي طرق مسدودة تقريباً. بالأحرى، بدت الزحمة على بعض الطرقات، أقل من المعتاد. وواجهنا أول ازدحام مروري في مكان قريب جداً من الكرملين.

ثم شققنا طريقنا إلى "البيت الأبيض"، المبنى الذي استخدمه آنذاك برلمان الاتحاد الروسي، على نقيض البرلمان السوفياتي الذي اجتمع في الكرملين. اصطفّت الدبابات أسفل الدرج على جانب النهر المجاور للمبنى، لكن لم تُبذل أي جهود في إبعاد الناس، وتجمّعت الحشود. ومن حسن حظنا كصحافيين أننا وصلنا في الوقت المناسب كي نرى الرئيس الروسي بوريس يلتسين، يخرج من المدخل في أعلى الدرج، ويشق طريقه إلى الأسفل، محاطاً بحاشية تحاول إقناعه بعدم فعل ذلك.

ثم صعد يلتسين على سطح أقرب دبابة، أيضاً من دون أن يحاول عناصر الأمن منعه، سواء كانوا رجاله أو أي أفراد عسكريين، وألقى خطاب التحدي الذي عزّز قبضته على السلطة. أضحت تلك الصور التي بُثّت لاحقاً في جميع أنحاء العالم، لكن ليس في الاتحاد السوفياتي، الصور المحددة للانقلاب، أو بالأحرى المقاومة ضده. لكن ذلك لم يكن واضحاً آنذاك. وقبل وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى محطات البث المجانية، وُجدت طرق قليلة في نشر الأخبار، محصورة بالهاتف الأرضي (الذي يعتبر من دون المستوى المطلوب) أو التداول الشفاهي.

مع حلول الساعات الأولى من المساء، ظهر تأثير الإشاعات ونهاية يوم العمل، وبدأ حشد أكبر بكثير [من ذاك الذي ظهر مع بداية النهار] في التجمع حول "البيت الأبيض"، الذي صار يُعتبر حصناً للمقاومة. وظهرت دلائل قليلة إضافية على أن الانقلاب ربما لا يحدث بحسب ما خُطط له، إذ عمد بعض الأشخاص ممن رأوا يلتسين على الدبابة، إلى إحضار زهور ووضعوها في أبراج الدبابات المتمركزة على الحاجز الحجري المحيط بـ"البيت الأبيض"، من دون أن يعترضهم جنود يبدون في مقتبل العمر ويظهر الضعف على مظهرهم.

وشهدت فترة ما بعد الظهيرة المؤتمر الصحافي المحرج في المركز الإعلامي، الذي دُعينا إليه على ما أذكر، من خلال خدمة التلكس التابعة لوكالة الأنباء الرسمية الروسية (تاس)، وهي الطريقة المعتادة في جمع المراسلين. في ذاك المكان، حاولت لجنة الطوارئ عرض قضيتها، وهناك أصبحت يدا رئيسها المرتجفتين جينادي ياناييف، شهادة على جرأتهم، أو ثمالتهم. إنه المكان الذي صنعت فيه المراسلة السوفياتية الشابة تاتيانا مالكينا، شهرتها بعدما تجرّأت على طرح سؤال مباشر عن مدى استيعابهم أن ما فعلوه يشكّل انقلاباً.

بالنسبة إلى مدبري الانقلاب، مثّل المؤتمر الصحافي الذي بُثّ على الهواء مباشرة، خطأ كبيراً، لأسباب ليس أقلها أنهم كانوا ساذجين بما يكفي لتلقّي أسئلة عفوية من الحضور، ولأن ذلك السؤال الذي طرحته مراسلة سوفياتية وليس أجنبية، بدا جريئاً جداً وتلقّى ردوداً غير ملائمة.

إذاً بات نجاح الانقلاب في تلك اللحظة موضع شك، فإن محاولة الاستيلاء على السلطة لم تكُن انتهت بحال من الأحوال. وما حدث بعد ذلك جاء مذهلاً بمقدار مساوٍ لخطاب يلتسين على الدبابة وسؤال مالكينا في المؤتمر الصحافي، إذ احتشد المئات من سكان موسكو خارج "البيت الأبيض"، تحت المطر الغزير والظلام المخيّم، بهدف الدفاع عن يلتسين ومعارضة الانقلاب. واجتمع شبان في الطابق السفلي من المبنى لأداء يمين التطوّع للقتال ثم رشّ كهنة أرثوذكس الماء المقدس عليهم قبل أن يتّخذوا مواقعهم خارج المبنى، إذ توقعوا تماماً أنهم ربما يضطرون إلى الموت.

شرعت الدبابات في التحرك في وقت متقدم من المساء، وراحت تدور وتدور حول الطريق الدائري الداخلي في موسكو، لكنها لم تذهب إلى أي مكان، ولم تحصل إلا مواجهة واحدة، قُتل فيها ثلاثة أشخاص حاولوا إيقاف إحدى الدبابات. وتحدّى بعض موظفي التلفزيون الحكومي حالة الطوارئ، فجمعوا لقطات درامية من "البيت الأبيض" وبثّوها.

كذلك اتّضح أن الفيلم الذي صوّره الصحافيون السوفيات عن خطاب يلتسين على الدبابة نُقل بسرعة إلى المطار وعُهد به إلى أحد الركاب المتجهين إلى الشرق الأقصى الروسي، حيث بُثّ أولاً في صباح اليوم التالي. في الحقيقة، من فكّر في ذلك فهم أن الرقابة الفاعلة ربما لا تمتد إلى منطقة المحيط الهادي التابعة لروسيا، والفارق الزمني يعني إمكانية ابتداء النشرات اليومية بذاك االفيلم، وحدث ذلك بالفعل. ولكن مرّ يوم ونصف قبل أن يستسلم المتآمرون ويصبح يلتسين مسؤولاً بالكامل.

بالنسبة لي، مثّلت تلك الأيام الثلاثة نهاية الاتحاد السوفياتي. في المقابل، من الغريب أيضاً أن نقرأ الآن الأحكام الاسترجاعية التي صدرت بالإجماع عن المؤرخين، بأن فشل ذلك الانقلاب كان محتّماً. لم يكن ذلك صحيحاً. لمدة 36 ساعة، ظل مصير ذلك البلد الضخم كله متأرجحاً. ومع ذلك، تتمثّل أسباب فشله في الأسباب ذاتها التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.

لم يكُن الأمر أن مدبّري الانقلاب لم يظهروا فاعلية أو قسوة كافية في فرض إرادتهم. بالأحرى، وجد الروس زعيمهم المنشود في بوريس يلتسين الذي رفض الانقلاب علناً. وكذلك رفض عدد كافٍ من القوات الانقلاب أيضاً، حينما أداروا أبراج دباباتهم بعيداً من "البيت الأبيض"، فيما أمرهم ضباطهم بالسير ببطء حول الطريق الدائري، وألا يفعلوا أكثر من ذلك. ويضاف إلى ذلك، أن سكان موسكو من جميع الأجيال والخلفيات كانوا شجعاناً بما يكفي للخروج إلى الشوارع دفاعاً عن رئيسهم وبرلمانهم، واختار التمرّد جيل جديد من المهنيين، بمن فيهم معظم الجسم الصحافي. إن ذلك التغيير الشامل في العقلية هو الذي أنهى الاتحاد السوفياتي.

يشكّل ما سبق السبب في أنني أرفض الفرضية الشائعة بأن الاتحاد السوفياتي تطور إلى روسيا اليوم ببساطة، من دون الانهيار الكبير الذي ميّز إطاحة الشيوعية في جميع أنحاء أوروبا، فيما عمدت دولة بعد دولة إلى التخلّص من نير السوفيات. مرّت روسيا أيضاً بلحظة تألّق عندما طردت الشيوعية. ولم ترجع تلك اللحظة.

في سياق متصل، يشكّل السؤال عن مدى اكتمال التحوّل موضوعاً آخر، ما يدفع إلى إلقاء نظرة أوسع على كل ما يُعرف الآن باسم المجال السوفياتي السابق. وثمة حقيقة في أن آثار ذلك الإرث لا تزال باقية بعناد، وليس في روسيا فحسب، حتى بعد 30 عاماً على الانهيار السوفياتي.

خلال صيف وخريف وشتاء العامين 1991 و1992، انقسم ما شكّل يوماً اتحاداً واحداً، على الرغم من معاناته من خلل وظيفي متزايد، إلى 15 جزءًا. وترافق ذلك الانفصال مع حروب في جورجيا والشيشان ومولدوفا، كذلك بين أرمينيا وأذربيجان، وفي "وادي أوش" في قرغيزستان، من بين حروب أخرى،  وأعيد إشعال الخلافات القديمة. لكن، لحسن الحظ أو حتى بشكل أعجوبي، لم يحدث ذلك الاشتعال الهائل الذي توقّعه كثيرون، المتمثّل في تكرار الحرب الأهلية الروسية التي اندلعت بين عامي 1917 و1922.

قبل الحربين اللتين دُفع ثمنهما غالياً في الشيشان، حصلت أكبر خسارة في الأرواح في روسيا عام 1993، خلال المواجهة الدستورية بين يلتسين وبرلمانه، وأودت بحياة 147 شخصاً وخلّفت أكثر من 400 جريح. في المقابل، بالمقارنة مع طرق تفكك الإمبراطوريات، يمكن اعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي وما تلاه من عواقب مباشرة، من بين التفككات الأكثر سلمية واعتدالاً.

ومع ذلك، تستمر العملية، وتتخلّلها انفصالات هادئة قليلة أو حتى معدومة. واستطراداً، من المستطاع الإشارة إلى إن الأكثر هدوءاً تمثّل في انفصال دول البلطيق الثلاث، ولاقى اعترافاً دولياً مباشرةً بعد انقلاب أغسطس 1991، حتى إن موسكو نفسها اعترفت فيه بعد مرور مجرد أسابيع. ومع مرور الوقت، جرى الترحيب بإستونيا ولاتفيا وليتوانيا في "ناتو" والاتحاد الأوروبي، وانضمت [دول البلطيق تلك] إلى بولندا ودول حلف وارسو السابقة في أن وجودها لم يكن مريحاً في بعض الأحيان.

في الواقع، لم يظهر حل كامل للماضي المعقّد الذي طبعه الاحتلالان السوفياتي والنازي الألماني. في المقابل، عانت دول البلطيق أعواماً أقل من الهيمنة السوفياتية بالمقارنة مع 12 جمهورية سوفياتية أخرى. ووفقاً لما يتذكّره الناس، تمتعت تلك الدول أيضاً بالاستقلال واقتصاد السوق، وسُمح لها بقدر أكبر بقليل من الحرية الثقافية بالمقارنة مع أجزاء أخرى من الاتحاد السوفياتي. وأدّت تلك الأمور مجتمعة إلى انتقال أسهل في فترة ما بعد "الحرب الباردة". وعلى الرغم من ذلك، تظل معاملة الأقليات العرقية الروسية، خصوصاً في لاتفيا، تذكيراً صعباً بالماضي. وكذلك تؤدي مقاومة التنوع بشكل عام إلى جعلها [دول البلطيق] على خلاف مع التيار السائد في الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالمسألة الشائكة المتمثلة في إعادة توطين اللاجئين من خارج أوروبا.

في المقابل، تمتّعت جمهوريات آسيا الوسطى الخمس باستقلال مفروض عليها بشكل أو بآخر، وأُعيد استيعابها تدريجاً ضمن جوارها مع استعادتها تاريخها المتميز. وجدير بالذكر أن اللغة الروسية عموماً تشكّل اللغة المشتركة فيها، على الرغم من أن الشباب يتعلمون الآن اللغة الإنجليزية. وكذلك لا يزال واضحاً أن التوجه الاقتصادي فيها يميل نحو موسكو، لكنه بات يضعف. والأرجح أن سبب ترك تلك الجمهوريات وشأنها، يعود في جزء منه إلى انشغال روسيا والصين بأمور أخرى.

ومع ذلك، فإن تحركات بكين الأخيرة في قمع مسلمي الإيغور بمنطقة شينجيانغ الواقعة في أقصى غرب البلاد، يمكن أن تشير إلى أن عدم اهتمامها النسبي بآسيا الوسطى السوفياتية السابقة، لن يدوم. ويمكن إيراد الأمر ذاته عن موسكو، إذا بدأ المقاتلون من أفغانستان المفككة في إعادة تجميع صفوفهم عبر الحدود في طاجيكستان. بالتالي، يمكن أن تعود "اللعبة الكبيرة" مرة أخرى.

في سياق موازٍ، ربما يأتي أحد العوامل المخففة من وجود "منظمة شنغهاي للتعاون" التي أنشأتها الصين وروسيا في 2003، مع قدرتها على توفير منتدى هدفه منع الصراع في المنطقة. على الرغم من ذلك، فشلت حتى الآن في ترك بصمة مهمة. وفي المقابل، نجت كمنظمة إقليمية من التعرّض لانتقادات الغرب.  

لا يمكن إيراد الأمر ذاته بالنسبة إلى مشروع روسيا الآخر لما بعد الاتحاد السوفياتي، المتمثّل في اتحاد اقتصادي أوروآسيوي مستوحى من الاتحاد الأوروبي، بحسب وصف روسيا، إذ شجبته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، واعتبراه بمثابة محاولة ترمي إلى ربط دول الاتحاد السوفياتي السابق عبر العلاقات الاقتصادية والأمنية التي وُجدتْ أثناء الحقبة السوفياتية. من بين الجمهوريات السوفياتية الثلاث السابقة في القوقاز، جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، أرمينيا هي الوحيدة التي انضمّت إلى المشروع الأوروآسيوي.

واستطراداً، دأبت جورجيا على تتبّع مسارها الوطني الخاص حتى قبل الانهيار السوفياتي، وقادت مساراً فردياً متشنجاً، تخللته حرب أهلية، ومحاولة فاشلة حتى الآن في الانضمام إلى "ناتو"، وغزو روسي، لكنها تميزت دائماً بإحساس قوي بهويتها الفريدة. وظلت أرمينيا الأقرب إلى روسيا اقتصادياً، لكنها على غرار جورجيا، تستفيد من جذورها القديمة وثقافتها الفريدة والدعم الذي تتلقّاه من الشتات العالمي، ما يسمح لها بإبقاء بعض المسافة بينها وموسكو. في المقابل، استفادت أذربيجان من عائداتها النفطية، وتقرّبت من تركيا. لطالما تمتّعت تلك الدول الثلاثة بحياة وثقافة مختلفتين عن الشيوعية السوفياتية، بالتالي حظيت بأمور كثيرة استطاعت أن تعتمد عليها حينما انهارت الشيوعية والاتحاد السوفياتي.

واستكمالاً لتلك المشهدية، وجدت أوكرانيا وبيلاروس ومولدوفا، باعتبارها من الجمهوريات السابقة، صعوبة في ترسيخ نفسها كدول مستقلة ولم تستكمل انفصالها بعد، إذ انتقلت مولدوفا تدريجاً من المدار الروسي إلى المدار الروماني، تاركة أراضي ترانسنيستريا الانفصالية عالقة في صراع مجمّد بينهما.

في سياق موازٍ، نجحت أوكرانيا إلى حد كبير في العمل كدولة مستقلة، مرة أخرى بفضل الإحساس بالهوية، المدعوم من الشتات المخلّص. في المقابل، تجد أوكرانيا أنها ما زالت مرتبطة بروسيا من خلال خطوط أنابيب الغاز التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، وما تبقّى من التجارة والتصنيع الدفاعي، وبشكل مؤلم أكثر، من خلال منطقتين حدوديتين تتحدثان الروسية شعرتا أن هويتهما معرّضة للخطر من قبل كييف الأكثر حزماً في الأوكرانية، ما أدى إلى اندلاع صراع عسكري وحرب بالوكالة بين أوكرانيا وروسيا. واستطراداً، ربما يصبح رابط الغاز غير ضروري قريباً مع استكمال الربط المباشر بين روسيا وألمانيا، [عبر خط الأنابيب] "نوردستريم 2"، لكن اتجاه أوكرانيا المتزايد نحو الغرب لا يزال محل خلاف داخل أوكرانيا، وبالطبع في روسيا.

بالنسبة إلى البريطانيين، يحمل الأمر شيئاً من صفات معضلة إيرلندا الشمالية. ويُقصد بذلك أن قوة كبيرة، على الرغم من اعترافها رسمياً بأن الدولة الأصغر أضحت خارج وصايتها، لكنها لا تزال غير قادرة على القبول، في أعماقها، بأن تلك الدولة الصغيرة صارت قائمة بحد ذاتها، وقادرة على الوقوف على قدميها. وبانتظار أن تتقبّل القوة العظمى خسارتها للإمبراطورية، ويتوقف البلد الأصغر أيضاً عن تحديد صورته من خلال معارضته أخيه الأكبر المزعوم، فلن يكتمل الانفصال.  

في ملمح متصل، إذا بقيت أوكرانيا ومولدوفا مرتبطتين بروسيا، حتى لو اقتصر ذلك على النزاع وحده، فإن انفصال بيلاروس بدأ للتو. وتكمن المفارقة في أن بيلاروس، مع أنها بقيت الأقرب إلى روسيا من جميع النواحي بعد الانهيار السوفياتي، كانت من بين أول دول تبنّت زخارف الاستقلال والرموز الوطنية والعملة الوطنية وإشارات الطرق المكتوبة بلغتها الخاصة. وعلى الرغم من ذلك، خلال معظم الثلاثين عاماً، لم تتحرّك أوكرانيا إلا بالكاد نحو قطع العلاقات الاقتصادية، وراودتها آمال في أن تصبح عاصمتها نقطة التقاء في "رابطة الدول المستقلة" التي لم تتحقق مطلقاً، واعتمدت على روسيا من أجل أمنها. أبعد من ذلك، برز حديث من وقت لآخر عن اندماج واتحاد مع روسيا. والآن، بعد انتفاضة شعبية الصيف الماضي في أعقاب ما نُظر إليه على نطاق واسع بوصفه انتخابات مزورة، يتمحور الحديث الجديد حول "ضمّ سلس" لبيلاروس من قبل روسيا.

وفي زاوية مغايرة، من الصعب حدوث ذلك، إذ إن النزعات كلها تذهب في الاتجاه المعاكس. على الصعيد الدولي، لا تجد أي بلد تقريباً يتخلّى عن استقلاله بعد أن يناله. ولا يشكّل الانهيار السوفياتي حالةً مختلفة. في الحقيقة، لم تخطُ أيٌّ من الجمهوريات السوفياتية السابقة أدنى خطوة في السير على عكس هذا الوضع، ولم تتّخذ روسيا أي خطوة في ذلك الاتجاه على الرغم من الادعاءات بأن فلاديمير بوتين لا يريد شيئاً أكثر من استعادة الاتحاد السوفياتي. ممارسة النفوذ، نعم؛ تقييد السيادة، ربما. ولكن إعادة دمج أي من الجمهوريات التأسيسية السابقة في اتحاد جديد؟ لا دليل على ذلك.  

وعلى الرغم من ذلك، ثمة ما لا يمكن إنكاره، يتمثّل في أن ظل الاتحاد السوفياتي لا يزال مخيّماً بدرجات متفاوتة على جمهورياته السابقة. ولا تزال روابط الاقتصاد والنقل المتبقيّة منه، تشهد على إمبراطورية حُكمت من موسكو، وأن تلك الجمهوريات السوفياتية الأقرب إلى روسيا في الجغرافيا والثقافة شكّلت آخر من بدأ الخروج الحقيقي [من الإمبراطورية السوفياتية]، الذي لا يزال أقل اكتمالاً.

وكخلاصة، أُسدلت ستارة التاريخ على الاتحاد السوفياتي بين عشية وضحاها تقريباً، بالأحرى بين 19 و21 أغسطس 1991. وجرى التخلي عن المعاهدة التأسيسية له في ديسمبر من ذلك العام. قبل نهاية ذلك الشهر، حُلّ برلمان الاتحاد السوفياتي واستقال رئيسه وأُنزل علمه. وفي المقابل، اتضح أن ذلك كله لم يكُن سوى الجزء السهل. ومن الخطأ توقع ظهور 15 دولة مستقلة تعمل بكامل طاقتها بكل سهولة. استغرق تفكك الاتحاد السوفياتي 30 عاماً، وعلى الرغم من كل التحولات التي حدثت على طول الطريق، ما زال أمامنا الكثير.

© The Independent

المزيد من تقارير