انتفضت موسكو بعد طول صمت لتعترف بواقع طالما حاولت "التستر" عليه، وعدم الاعتراف به، ويتعلق بتفاقم ظاهرة العداء للروس في الكثير من الجمهوريات السوفياتية السابقة. وكانت السلطات الروسية كشفت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، عن أن عدد أبناء القومية الروسية ممن يعيشون خارج حدود الدولة الروسية يبلغ ما يزيد على 25 مليوناً، فيما يشكل بعضهم، الغالبية من سكان عدد من الجمهوريات ومنها كازاخستان في آسيا الوسطى. وكانت كازاخستان أولى الجمهوريات السوفياتية التي شهدت أول انفجارات المشكلة القومية في 1986، حين خرجت جموع الطلبة والشباب إلى شوارع ألمآتا العاصمة القديمة، احتجاجاً على إقالة دين محمد كونايف الأمين الأول للحزب الشيوعي في كازاخستان، وتعيين جينادى كولبين الروسي القومية بديلاً له في المنصب نفسه، الذي كان يعني لصاحبه آنذاك السلطة المطلقة بوصفه الحاكم الأول إدارياً وحزبياً. وعلى الرغم من سرعة توصل الكرملين في موسكو إلى احتواء الأزمة، فإن "الجن كان خرج من القمقم"، ولم يعد بوسع أي كائن من كان، أن يعيده إلى سابق مكانه. بل سرعان ما تحولت أحداث كازاخستان إلى نموذج تكررت مفرداته وإن اختلفت المقدمات، في مختلف الجمهوريات السوفياتية السابقة. أما عن النتائج فسرعان ما أسهمت كلها في انهيار الاتحاد السوفياتي، على اعتبار أن المشكلة القومية كانت في صدارة أسباب الانهيار.
وها هي ذي المشكلة تعود من جديد، لتفرض نفسها على خريطة أحداث الحاضر، ما اضطرت معه موسكو إلى الاعتراف بوجودها وفشل كل المحاولات التي استهدفت التستر عليها منذ تسعينيات القرن الماضي.
ونذكر أن ألكسندر سولجينتسين، الكاتب الروسي الحائز على جائزة نوبل للأدب، كان أول من أثار هذه المشكلة بعد رجوعه من منفاه في الولايات المتحدة عام 1994، حين عاتب الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين على تفريط روسيا في أراضيها التاريخية، وخص بالذكر الأراضي الشاسعة في شمال كازاخستان التي كانت انتقلت إدارياً إلى كازاخستان التي ظهرت على خريطة المنطقة في عام 1937 للمرة الأولى في التاريخ كجمهورية فيدرالية. وثمة مَن يقول إن الجدل الذي احتدم في مطلع تسعينيات القرن الماضي حول ضرورة نقل العاصمة من ألمآتا والبحث عن مكان واسم جديدين لهذه العاصمة، كان يستهدف ضمناً الخروج من مأزق "التاريخ والجغرافيا" الذي أضحت به هذه الجمهورية التي طالما كانت تعتبر الثالثة من حيث المساحة والتعداد السكاني في الاتحاد السوفياتي السابق بعد روسيا الاتحادية وأوكرانيا التي كانت توسعت أيضاً جغرافياً، على حساب أراض روسية "التاريخ والجغرافيا". ونذكر وكنا آنذاك في ألمآتا، في انتظار حديث تلفزيوني مع الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، جرى نشره في "الشرق الأوسط"، وبثه على شاشة "أم بي سي" قبيل أول زيارة يقوم بها إلى السعودية، أن الجدل احتدم داخل الأوساط البرلمانية حول اسم العاصمة الجديدة. وكان الخيار بين اسمين "اقمولا" وتعني "المقبرة البيضاء"، و"نور سلطان" الذي اقترحه البعض تمجيداً لرئيس الدولة واعترافاً بدوره التاريخي في استقلال الجمهورية، وتهنئة له في ذكرى عيد ميلاده. لكن الخيار استقر بعد ذلك إلى إعلان اسم "الأستانا" وتعني "العاصمة" باللغة التركية، الذي عادوا إلى تغييره ثانية إلى "نور سلطان" تكريماً له، بعد إعلانه عن تنحيه عن السلطة لصالح وزير خارجيته "قاسم جومارت توقايف" في مارس (آذار) 2019. أما عن أسباب اختيار هذا المكان الذي كان في السابق موقعاً لمدينة "تسلينوغراد"، وقبلها "اقمولينسك" الروسية الأصول، فتعود إلى الابتعاد بالعاصمة من جانب عن الحدود الجنوبية القريبة من الصين، إلى الشمال استباقاً وتحسباً من جانب آخر لأي محاولات على غرار ما يجري حالياً حول العودة إلى تاريخ تبعيتها السابقة للإمبراطورية الروسية.
ومن هنا، يمكن الإشارة إلى أسباب الحادثة الأخيرة التي أعادت إلى الأذهان المشكلة القومية وما يتعلق منها بالعداء إلى القومية الروسية في كازاخستان، وكان في صدارة "انتفاضة موسكو" ضد إهانة سيدة روسية في كازاخستان وإرغامها على الاعتذار أمام الكاميرات التلفزيونية وعلى الملأ، عما قالته إن مدينة "اقتاو" في كازاخستان شيدها من الصفر أبناء روسيا. وتلك حقيقة أعادها إلى الأذهان قسطنطين زاتولين النائب الأول لرئيس لجنة شؤون بلدان الكومنولث (بلدان الاتحاد السوفياتي السابق) بمجلس الدوما الذي قال في معرض تناوله هذه المشكلة، إن ما قالته المرأة الروسية لابنها حول أن "اقتاو" وكان اسمها إبان سنوات الحكم السوفياتي "شيفتشينكو" تكريماً لاسم الشاعر الأوكراني الراحل، صحيح تماماً. فالمدينة جرى بناؤها في إطار الخطة السوفياتية لبناء "المدن الشابة الجديدة"، وتولى القيام بهذه المهمة المتطوعون والمتخصصون من لينينغراد وغيرها من المدن السوفياتية، بموجب تصميمات معهد العمارة في لينينغراد.
وكان زاتولين توقف عند ما يظل أيضاً محور نقاش وجدل يحتدم بين الأوساط السياسية حول تفاقم ظاهرة العداء للروس في عدد آخر من جمهوريات آسيا الوسطى، وتجاوز مسألة العرقية والإثنية إلى العقيدة الأرثوذكسية، الأمر الذي استدعى تدخل بطريرك الكنيسة الروسية. وتتلخص هذه القضية في قصة شاب روسي من المقيمين في قيرغيزستان، توجه بالشكوى إلى قسم الشرطة هناك، من تعرضه للضرب والإيذاء البدني في أحد المعسكرات الرياضية، لا لشيء، إلا لأنه روسي يدين بالمسيحية. ولم تسفر الشكوى عن اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تتناسب مع مدى الجُرم الذي ارتُكِب بحقه، إذ اقتصر "العقاب" على اعتذار شفوي اضطر الشاب الروسي إلى قبوله. وتقول المصادر الروسية إن بطريرك موسكو وعموم روسيا دعا الشاب الروسي إلى موسكو ليرى ولأول مرة الوطن الأم، المدعو وحسب المصادر الروسية إلى الدفاع عنه، ويؤكد له أنه ينتمي إلى بلد "هو الوطن التاريخي الذي يكفل له ألا يخاف من أن يكون روسياً"، حسب وصف صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" التي نشرت هذه القصة. وبهذه المناسبة أيضاً نشرت الصحيفة عدداً من نماذج الإهانات التي يتعرض لها الروس في مختلف الجمهوريات السوفياتية، ومنها ما يتعلق بمدى ما يمكن أن يلحق بالمواطن الروسي من إيذاء لفظي، بل وبدني أحياناً، لا لشيء إلا لأنه يتحدث الروسية. ونذكر أننا أشرنا في مقال نشرته "اندبندنت عربية" إلى ذلك القانون الذي أقرته السلطات الأوكرانية الجديدة حول حظر استخدام اللغة الروسية في المؤسسات الرسمية، بل وبلغ الأمر بهذه السلطات حظرها أيضاً كلغة تخاطب في البنوك والمتاجر والمؤسسات العامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشارت "كومسومولسكايا برافدا" إلى حادثة "اعتداء رجل يتمتع بصحة جيدة على بائعة في مركز تجاري لأنها لم تتحدث معه باللغة القرغيزية". وقالت إنه جرى اقتياد المعتدي، والمعتدَى عليها في هذه المشاجرة إلى الشرطة، التي سرعان ما أطلقت سراح المعتدي، الذي خرج من قسم الشرطة وهو يواصل إطلاق الشتائم في حق البائعة الروسية القومية. كما أوردت الصحيفة الكثير من النماذج التي قالت إنها منتشرة على قنوات "يوتيوب" وتتعلق بما يتعرض له الروس، ولغتهم الروسية من إهانات من جانب أبناء "رفاق الأمس" من ممثلي الجمهوريات السوفياتية السابقة. بل وبلغ الأمر بسفير أذربيجاني سابق حد الوقوع في شرك مثل هذه التجاوزات، ما دعا الخارجية الروسية إلى الاحتجاج لدى وزارة الخارجية الأذربيجانية، التي "اكتفت بإنكار تبعية المواطن الأذربيجاني للوزارة، وتأكيد أنه لم يعد له أية صفة رسمية".
وكانت جمهوريات البلطيق أول من انتهج مثل هذا النهج مع أبناء القومية الروسية وكل ما يبدو على اتصال بالتاريخ والثقافة الروسية، حين استهلت "صراعها" مع الماضي السوفياتي بمنع استخدام اللغة الروسية وإغلاق المدارس ورياض الأطفال الروسية، وبلغت الحد الذي راحت فيه تزيل وتحطم كل التماثيل والنصب التذكارية ذات العلاقة بالتاريخ المشترك، الذي طالما ربط بين هذه البلدان والاتحاد السوفياتي السابق. ولم يمض من الزمن الكثير حتى انضمت أوكرانيا إلى التوجه ذاته، الذي نجد من يباركه بالصمت والإنكار، من جانب عدد من جمهوريات آسيا الوسطى. وإذا كانت جمهوريات طاجكستان وقيرغيزستان وأوزباكستان "تتحرج" في الكشف عن "مباركتها" غير المعلنة مثل هذه التصرفات لأسباب اقتصادية، منها ما يتعلق بهجرة الكثير من أبنائها للعمل في روسيا تحت وطأة ما تعانيه من تدهور اقتصادي وفقر وبطالة، فإن كازاخستان تبدو على نحو مغاير، يستند إلى ما تملكه هذه الجمهورية من موارد اقتصادية ونفط وغاز يقيها شرور الوقوع في مثل ما وقعت فيه جاراتها من جمهوريات آسيا الوسطى.
لكن ماذا عن الموقف الرسمي للرئيس فلاديمير بوتين والمؤسسات المعنية في روسيا الاتحادية؟
يذكر المراقبون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان من أوائل الشخصيات الرسمية التي أعربت عن مواقف تأتي على وفاق واتفاق مع ما قاله الأديب الروسي ألكسندر سولجينتسين، حول تفريط روسيا في الكثير من أراضيها التاريخية. وكان بوتين سبق وأشار إلى أن "الرئيس (السابق) نور سلطان نزارباييف وضع كازاخستان على خريطة العالم"، في إشارة إلى عدم وجود هذه الجمهورية في السابق على الخريطة السياسية للعالم، وهو ما احتجت عليه كازاخستان، وما اضطر الكرملين معه إلى التراجع على نحو دبلوماسي يعيد الاعتبار إلى البلدين. لكنه عاد، ولم يكن مضى من الوقت الكثير، ليعلن صراحة وفي أحد مؤتمراته الصحافية السنوية أن روسيا قدمت الكثير من الهدايا والأراضي إلى شقيقاتها من الجمهوريات السوفياتية السابقة. وأضاف أنه كان من المنطقي والمعقول أن تعيد هذه الجمهوريات هذه الهدايا، لدى خروجها من الاتحاد السوفياتي السابق، وأن تنفصل في ذات الإطار الجغرافي الذي انضمت به إلى الاتحاد السوفياتي. وعلى الرغم من أن ما قاله بوتين كان في سياق تقديراته للعلاقة مع أوكرانيا، فإنه ينسحب على بقية الجمهوريات، وإن لم يشر إلى ذلك صراحة.
ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيراً لما تحول الكثيرون من رجالات الدولة والمسؤولين في روسيا إلى التصريح به في محاولة للدفاع عن "الكرامة الوطنية" للدولة الروسية. ونقلت الصحف الروسية وأجهزة الإعلام في موسكو ما صدر من تصريحات بهذا الشأن. ومنها ما قاله فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما حول "ضرورة فرض حظر دخول أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بمثل هذه الهجمات". أما يفغيني بريماكوف رئيس إدارة التعاون الدولي في وزارة الخارجية الروسية، وهو حفيد يفغيني بريماكوف رئيس الحكومة الروسية الأسبق، فقد أشار إلى "أن أياً من المتورطين في إهانة الروس واللغة الروسية لن يتمكن من الدراسة في إطار البرامج التفضيلية لقسمه في الجامعات الروسية".
على أن ذلك كله لا ينفي جوهر المشكلة القائمة التي تتلخص في "العداء التاريخي" بين أبناء الكثير من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وروسيا بوصفها الوريث الشرعي لكل من الاتحاد السوفياتي وقبله الإمبراطورية الروسية التي طالما ظهر من يتهمها باستعباد هذه الشعوب. وبغض النظر عن مدى الإجحاف في مثل هذه الأحكام، وعدم مشروعية إنكار ما قدمته "السلطة السوفياتية" لهذه الجمهوريات، فإن هناك من الأسباب الذي لا يمكن أيضاً نفيها، وتتعلق بالإدارة السيئة، وأساليب التعامل الفوقية المفعمة بالغطرسة، التي تقف ضمن أسباب انفراط عقد الاتحاد السوفياتي وانصراف أشقاء الأمس عن موسكو. وذلك ما تعمل الدوائر الغربية على تغذيته في إطار مخططات "الثورات الملونة"، والتلويح بهدايا الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي. وإذا كانت روسيا الاتحادية تعاملت برفق وتسامح مع رموز البلدان السلافية وفي مقدمتها جورجيا وأوكرانيا اللتان جاء منهما ستالين، وخروشوف وبريجنيف إلى سدة السلطة في الكرملين، فإنها لم تكن كذلك مع بقية الجمهوريات ولا سيما الآسيوية منها. لكن هذه الجمهوريات أيضاً لم تكن لتبلغ من التطور الاقتصادي مثل ذلك المستوى الذي حققته طيلة وجودها المشترك مع روسيا السوفياتية، وإن كانت هذه المسألة تظل في إطار القضايا الخلافية. وثمة من يقول وربما عن حق، أن هناك من المسؤولين في موسكو من يبدو "أستاذاً" في غرس مشاعر الكراهية والنفور تجاه "روسيا" في نفوس الأصدقاء الطبيعيين لهذا البلد المضياف، الكريم، وأهله الطيبين، وإن لم يتفق مع بعض مفرداته وسياساته وأيديولوجيته. وذلك على عكس ممثلي العالم الغربي ممن برعوا في خداع الآخرين وسرقة ثرواتهم ونهب بلدانهم، في الوقت نفسه الذي لا تغيب فيه الابتسامة عن شفاههم، والارتياح على ملامح وجوههم! وتلك مشكلة روسيا، قبل أن تكون مشكلة الآخرين من ممثلي بلدان الجوارين، القريب والبعيد على حد سواء. هكذا يقولون!