Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التهريب يرهق الاقتصاد التونسي في غياب الحلول

3 جماعات مصالح تدير شبكات الأسواق السوداء وتسيطر على 10 في المئة من الواردات

صورة من الأرشيف لمعبر رأس جدير الحدودي بين تونس وليبيا (أ ف ب)

عانت تونس في السنوات العشر الأخيرة من استفحال ظاهرة التهريب التي ظلت تنخر الاقتصاد بشهادة البنك المركزي التونسي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الذين لطالما أشاروا إلى شبه عجز الدولة في مواجهة هذه الآفة. وصعبت السيطرة على تدفق السلع المهربة من القطرين المجاورين الجزائر وليبيا بحكم امتداد الحدود المترامية وصعوبة السيطرة عليها. وتمتد الحدود البرية بين تونس وليبيا على طول 461 كيلومتراً، فيما يزيد طول الحدود البرية مع الجزائر على 1034 كيلومتراً. وغذى التوتر الحاصل في العاصمة الليبية مناخ التهريب بسبب غياب الحضور الأمني من الجهة الليبية للحدود في بعض الأحيان أو سيطرة ميليشيات عليها. كما يصعب إحكام القبضة الأمنية على الحدود الغابية المتشعبة والممتدة مع الجزائر. وتزدهر حركة تهريب المحروقات والسجائر والهواتف والأجهزة الإلكترونية والمخدرات على الحدود التونسية مع البلدين، في حين يتم تهريب الأدوية والمواد المخدرة بأنواعها من حبوب وقنب هندي وخمور فاخرة من تونس باتجاه البلدين.

خسائر

وتستقطب التجارة الموازية 75 في المئة من الشباب في المدن الحدودية الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة. وكشفت دراسة للبنك الدولي أن حجم التهريب يمثل أكثر من نصف المعاملات التجارية لتونس مع ليبيا، ولا يبتعد مستوى التجارة غير الرسمية مع الجزائر عن هذه النسبة. ويتأتى 25 في المئة من البنزين المستهلك في تونس من الواردات غير الرسمية من الجزائر. ويمثل تهريب السجائر 40 في المئة من رقم المعاملات التجارية في إطار التجارة الموازية.وكبد تهريب السجائر الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد (حكومية) خسائر ضخمة، مما أدى إلى تراجع في عائدات مداخيل الدولة بـ 500 مليون دينار (178.5 مليون دولار) سنوياً، وفق وزارة أملاك الدولة.وذكرت وزارة التجارة أن السلطات التابعة لها ترصد ما معدله 25 مليون علبة سجائر مهربة شهرياً، أي ما يقارب 300 مليون علبة سنوياً.كما يزدهر تهريب العجلات المطاطية من القطر الجزائري. وذكرت الجمعية التونسية للوقاية من حوادث الطرقات أن 68 في المئة من العجلات المطاطية في تونس مهربة، وهي لا تستجيب لشروط السلامة. في حين كشف معز شقشوق، وزير النقل، أن 70 في المئة من العجلات المستعملة في تونس مجهولة المصدر.

وأعلن محافظ البنك المركزي مروان العباسي في فبراير (شباط) 2021 عن انطلاق عمل منصة "حنبعل" الإلكترونية الخاصة بمتابعة النقل المادي للنقد بالعملة الصعبة.وصرح كاتب عام لجنة التحاليل المالية في البنك المركزي، لطفي حشيشة، أن 42 في المئة من العملة الصعبة التي تدخل تونس عبر المعابر البرية والجوية والبحرية لا أثر لها في المنظومة البنكية الوطنية. لكن محافظ البنك المركزي أكد أن معظم السيولة النقدية في تونس، والمقدرة حالياً بنحو 15 مليار دينار (5.35 مليار دولار)، يقع تداولها في المسالك المنظمة.كما قدر المبالغ النقدية المتداولة في المسالك غير الرسمية، مثل التهريب وتبييض الأموال، بحوالى 4 مليارات دينار (1.42 مليار دولار). وقال إن نصفها موجود في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر. واستبعد إمكانية سن عفو جبائي على الأشخاص العاملين في القطاع غير الرسمي، مما يتيح إرجاع المبالغ النقدية إلى المسالك البنكية، على غرار الجزائر. وقال المحافظ إن مجموعة العمل المالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينافتف) هي من يحسم في ذلك.

وقال العباسي "على الرغم من أن تونس تمكنت من الخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (غافي) التي تضم البلدان الأكثر عرضة لعمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إلا أن ذلك لا يعفيها من الخضوع إلى الضوابط نفسها". وأشار إلى أهمية مناقشة القرار مع مجموعة العمل المالي التي اعتبرت الجزائر بلداً معرضاً لمخاطر تبييض الأموال عندما أقرت العفو الجبائي.

إجراءات وقائية

وقد تم اتخاذ جملة من الإجراءات الدفاعية لمقاومة السلع المهربة من قبل الوزارات ذات العلاقة، حيث أطلقت وزارة تكنولوجيّات الاتصال في يناير (كانون الثاني) 2021 المنظومة الوطنية لتسجيل الأجهزة الجوالة "سجّلني"، بهدف التصدي لظاهرة بيع الهواتف الجوالة المهربة والمزيفة في السوق. وكشفت الوزارة أن 60 في المئة من الهواتف الجوالة المتداولة في السوق مهربة، وأن 3 ملايين هاتف جوال جديد مستورد سنوياً، من مجموع 7 ملايين هاتف، يمر عبر المسالك القانونية. وتفوت عمليّة إدخال الهواتف الجوّالة عبر المسالك غير القانونية على الدولة تحصيل الأداء على القيمة المضافة بقيمة تفوق 120 مليون دينار (42.85 مليون دولار).

تراجع

وذكر المتخصص في الشأن الليبي محمد أبو القاسم حزين، في تعليقه لـ"اندبندنت عربية"، أن حركة التهريب على الحدود الليبية تراجعت نسبياً في الفترة الأخيرة بسبب تداعيات الأزمة الصحية. كما شهدت الحدود التونسية- الليبية حراسة مشددة منذ ثلاث سنوات أدت إلى القبض على المئات من المهربين وتقديمهم للعدالة.

كما أدى حفر خندق على الحدود الليبية- التونسية لمنع مرور شاحنات التهريب إلى تراجع نشاط المهربين. وقد سجل نقص كبير في تهريب المحروقات من الوجهة الليبية. وانحصرت السلع المهربة حالياً على التجهيزات الكهرومنزلية والإلكترونية والسجائر والحبوب المخدرة من الجهة الليبية، والأدوية من تونس والعملة الصعبة من الجهتين.

 أزمات التهريب

وكانت دراسة بحثية حديثة قد كشفت  أن هناك ثلاث جماعات تقف وراء تزايد أزمة التهريب في تونس، مما تسبب في مضاعفة الأزمات التي يواجهها الاقتصاد، وأصبحت ظاهرة الشبكات غير الرسمية ملمحاً في الاقتصاد التونسي منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، تغذيها حاضنة سياسية وأمنية واجتماعية نمت خلال عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وخلال العقد الأخير شهدت تونس تغييرات سياسية وحكومات متعاقبة، لم تنجح أي منها في التصدي لمكافحة اقتصادات التهريب، التي شهدت توسعاً غير مسبوق، لا سيما مع تصاعد المخاطر الأمنية والجيوسياسية في الدول المجاورة، ومع الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التونسي بتعليق عمل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، فإن شبكات التهريب وجماعات المصالح المرتبطة بها تبحث عن فرص تُمكنها من الحفاظ على مكتسباتها المكتنزة منذ عشرات السنوات.

وأوضحت الدراسة التي أعدها "مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" أن عمل شبكات الاقتصاد غير الرسمي أو ما يُعرف بحسب بعض الأدبيات بـ "اقتصاد الظل" يتركز حول تهريب البضائع والسلع والأفراد، وقد يمتد نشاطها إلى عمليات الإنتاج غير الخاضعة للضرائب أو غير المسجلة رسمياً، وفي تونس فإنها تنصب بالأساس على التجارة غير الرسمية، وتُعرف المؤسسات الدولية، "التجارة غير الرسمية" بأنها "تدفق البضائع التي لم يتم الإبلاغ عنها أو الإبلاغ عنها بشكل غير صحيح من قبل سلطات الجمارك في الدولة".

أزمة المنافذ البرية الحدودية

وعلى الرغم من صعوبة الحصول على إحصاءات دقيقة وحديثة عن حجم اقتصاد التهريب أو التجارة غير الرسمية في تونس، فإن بعض الدراسات الأكاديمية تشير إلى أن هذا النوع من التجارة شكل قرابة 10 في المئة من إجمالي الواردات التونسية خلال الفترة من 2011 إلى 2015، لكن من اللافت أنها تمثل أكثر من نصف التجارة الثنائية بين تونس وليبيا، كما أن ما يقرب من 25 في المئة من الوقود المستهلك في تونس مهرب من الجزائر.

وكما هو شائع دولياً يتسع نطاق "اقتصاد الظل" القائم على تهريب السلع والأفراد في المناطق الحدودية في تونس، حيث تسهم المنافذ البرية الحدودية في تمرير من 15 إلى 20 في المئة من التجارة غير الرسمية، أما النسبة الباقية فتمر من خلال المنافذ البحرية عبر الموانئ التونسية الرئيسة وذلك وفقاً لتقديرات الحكومة التونسية في عام 2015.

ويتسع "الاقتصاد الموازي" ليضم العديد من الفاعلين، وفي هذا الصدد قدرت دراسة استقصائية أجريت عام 2017 أن سوق الوقود غير المشروع يشكل 30 في المئة من مبيعات الوقود في تونس، ويشارك فيه حوالى 20 ألف جهة فاعلة، بما في ذلك المهربون عبر الحدود، والناقلون المحليون والملاك والعاملون في نقاط التخزين غير القانونية والبائعون والمشترون.

اتساع رقعة التجارة غير الرسمية والتهريب

وذكرت الدراسة أن هناك عدداً من العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية تمثل دوافع لتكوين واتساع رقعة التجارة غير الرسمية والتهريب عبر الحدود التونسية خلال السنوات الماضية يتصدرها تهميش المدن الحدودية، فالمدن الحدودية تمثل بيئة مثالية لنشوء ظاهرة التجارة غير الرسمية في تونس، إذ يعاني سكانها غالباً الفقر والمشكلات المعيشية وضعف فرص التنمية، وهو ما أدى إلى اعتماد العديد من سكان هذه المدن في تلبية حاجاتهم الاستهلاكية على المزج بين التجارة الرسمية وغير الرسمية، كما أدى غياب فرص التنمية وصعوبة بيئة ممارسة الأعمال وضعف كفاءة مؤسسات التمويل هناك إلى اتجاه الأفراد للعمل في نقل وتجارة السلع غير الرسمية والتهريب وانخراطهم في شبكات التهريب.

ووفق دراسات متخصصة فإن المدن الحدودية في تونس تعاني "التهميش المركب"، والذي يشمل ثلاثة أبعاد، الأول هو التباعد الإقليمي بين مدن المركز ومدن الهوامش الحدودية، والثاني هو التباعد الاقتصادي والإنمائي الذي يعوق القدرة على الإنتاج وخلق الوظائف، والثالث هو التباعد الإنساني الذي ينفصل فيه الأشخاص عن الثروة الوطنية وعن عدالة التوزيع والانتماء.

أيضاً ترتفع كثير من أسعار السلع الأساسية المتداولة بالأسواق الرسمية في تونس مقارنة بدول الجوار على غرار ليبيا والجزائر، سواء السلع المحلية أو المستوردة، ويرجع هذا الارتفاع إلى سببين، الأول هو تقديم دول الجوار دعماً أعلى للسلع الأساسية مثل الوقود، والثاني اختلاف مستوى الجباية حيث تعد تونس من أعلى الدول الأفريقية في هذا الشأن، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر الوقود في الجزائر حوالي عُشر سعره في تونس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويسهم التهريب في تجنب التجارة تكلفة الرسوم الجمركية والتحصيل الضريبي لا سيما ضريبة القيمة المضافة، ومن ثم يعود بالنفع أيضاً على المستهلك بالحصول على السلع بأسعار أقل من السوق الرسمية، وبذلك يظل الطلب على السلع المهربة نشطاً ومتزايداً.

وأشارت الدراسة إلى تصاعد قوة جماعات المصالح واشتباكها مع السكان، فقد انتظم المهربون في تونس داخل شبكات عمل قوية تجمع بين السكان المحليين والجماعات المتورطة في أنشطة التهريب في دول الجوار في ليبيا والجزائر، حتى عُرفت بما يُسمى بــ "أباطرة التهريب"، وتركز نشاطها في المدن الحدودية، ومع تصاعد الانفلات الأمني في ليبيا وتعاقب الحكومات والتغييرات السياسية في الداخل التونسي أسهم ذلك في اتخاذ شبكات التهريب في تونس شكلاً تنظيمياً وأصبحت ذات قدرة تنظيمية وتمويلية وإدارية أعلى، بحيث تتعامل بمرونة وكفاءة مع كل المستجدات السياسية والأمنية والاقتصادية على الحدود.

3 جماعات مصالح وراء الأزمة

فيما تشترك مجموعات متنوعة من اللاعبين سواء المحليين أو الإقليميين في أنشطة الاقتصاد غير الرسمي في تونس، حيث يعتبر السكان المحليون بالمدن الحدودية التونسية السلع المهربة إحدى السمات المميزة لمناطقهم، إذ اعتادوا شراءها وتداولها والعمل بأنشطتها، بمعنى أن التجارة غير الرسمية والتهريب يجدان قبولاً مجتمعياً من قِبل السكان المحليين على الحدود التونسية وأسهما في تنميتها، نظراً لعدم وجود البديل التنموي الرسمي، وقد تطور عمل بعضهم بمرور السنوات من بائعين متجولين إلى شبكات تهريب محترفة ترتبط بعلاقات تنسيقية قوية مع مسؤولين في تونس ودول الجوار.

أما الجماعة الثانية فتتمثل في جماعات المصالح الحاكمة في تونس، وعلى الرغم من التحولات السياسية المتعاقبة في تونس خلال العقد الأخير، فإن جماعات المصالح الداعمة لأنشطة التهريب دائماً ما أجادت التشبيك والاتصال مع المسؤولين المتورطين في قضايا فساد، ففيما سبق استفادت بعض جماعات المصالح المكونة من رجال أعمال ونخب اقتصادية مقربة من نظام ابن علي من الحصول على دعم سياسي، ساعد في ازدهار أنشطة التهريب الحدودية، لا سيما عبر معبر رأس أجدير الحدودي مع ليبيا.

وبعد اندلاع الثورة التونسية ثم حصول "حزب النهضة" على الأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة، فإنه اتهم بالارتباط بمصالح سياسية مع جماعات مسلحة في ليبيا ترتبط بشبكات التهريب، وبذلك استمرت الحاضنة السياسية للتهريب في تونس.

ثالث هذه الجهات تتمثل في الجماعات المسلحة في ليبيا، حيث استلغت الجماعات المسلحة وغير القانونية هناك الأوضاع الأمنية والجيوسياسية غير المستقرة بها للتجارة في تهريب السلع والبضائع والأفراد عبر الحدود مع تونس، لا سيما أنها وجدت في السوق الموازية غير الرسمية في تونس فرصاً مغرية لتحقيق الأرباح وتعزيز قدراتها المالية.

وبحسب مركز برشلونة للشؤون الدولية فإن حوالى 3 ملايين تونسي يعتمدون على ليبيا إما لتحويلات العمال التونسيين أو أنشطة السوق السوداء في المنطقة الحدودية، وبشكل عام يُقدر البنك الدولي أن الأزمة الليبية تسببت في تآكل النمو الاقتصادي في تونس بنسبة 24 في المئة خلال الفترة 2011-2015، وهذا يعادل اثنين في المئة تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً.