يعود تاريخ إنشاء سوق البركة إلى عام 1612، في عهد يوسف داي، حيث كانت قبل ذلك سوقاً لبيع العبيد. ويعود أصل التسمية، حسب بعض المؤرخين، إلى الجمال التي تأتي حاملة العبيد لبيعها، فتبرك في ساحة السوق لإنزالهم، وكانت تتوسط الساحة مصطبة من الخشب، يعرض عليها العبيد أمام أعين المارة، ثم تبدأ عملية البيع بالمزاد العلني وفق طقوس معينة.
وأصدر أحمد باي الأول في 6 سبتمبر (أيلول) 1841، أمراً يقضي بمنع الاتجار بالرقيق، كما أمر بهدم الدكاكين الموجودة في سوق البركة، والتي كانت معدة لبيع العبيد في تلك الفترة، لتتحول إلى سوق للحرير، ثم إلى سوق لبيع الذهب والمجوهرات.
عبق التاريخ في ثنايا السوق
في السوق، تشعر بعبق التاريخ الكامن في محيطها، هي المحافظة على خصوصياتها المعمارية، والتي تسحر الناظرين بواجهاتها البلورية المبهرة، وحليها ومجوهراتها الثمينة.
ويعود تاريخ الحلي التونسية إلى فجر العهد البونيقي، الذي استقت منه عدة علامات ورموز في الحلي، لا تزال موجودة إلى اليوم.
وتم إثراء هذه الحرفة (صناعة الحلي)، بفضل إضافات الرومانيين والبزنطيين والعرب والأتراك والأندلسيين، الذين طوعوا حلي المرأة في أشكال متنوعة تستجيب لعصرهم.
بين تاريخ السوق وواقعها اليوم، مسافة زمنية طويلة، شهد فيها المجتمع التونسي تحولات عديدة، وأزمات أثرت في قطاع الصاغة وفاقمت وضعه جائحة كورونا، التي أزمت قطاع المعدن النفيس وضيقت على قوت تجاره.
السوق على غير عادتها خالية من المارة، أو يكاد، وأمام كل دكان يقف مساعد، أو ما يسمى في تونس "صانع"، ينثر الابتسامة في وجه كل من يقف أمام الدكان للاطلاع.
المطالبة بتحرير سوق الذهب
الحبيب بن رجب، تاجر مصوغ، ينتصب متجره في مدخل السوق يميناً. رجل ثمانيني، أنيق، يختزل تاريخ السوق، فهو يمارس هذه المهنة، منذ ما يزيد على 60 عاماً.
من دون تردد، يحمل بن رجب، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، مسؤولية ما آل إليه القطاع إلى الدولة مباشرة، فهي التي أسهمت في تأزيم القطاع ونشر الفساد فيه وتفشي ظواهر الغش وتضارب المصالح فيه.
ونوه بن رجب إلى أن الدولة لم توافق على سياسة تحرير القطاع، وتتمسك ببيع حصص الذهب من قبل البنك المركزي للصناعيين، بينما يفوت أغلبهم حصته في عمليات البيع، وهو ما أسهم في غلاء سعر الذهب على التجار والمستهلك.
فساد وتدليس وغش
واتهم جهات في مؤسسات الدولة بأنها سنت القانون المنظم للقطاع عام 2005، على مقاس لوبيات فاسدة، ما أدخل الفوضى إلى قطاع حساس وحيوي للاقتصاد الوطني.
ولفت إلى ظاهرة تزييف "طابع العرف" (يوجد في تونس ثلاثة طوابع: وهي طابع العرف، الذي يحدد هوية الحرفي صانع القطعة، وطابع العيار وطابع المطابقة) التي باتت تؤرق أهل المهنة، مشدداً على أن طابع الدولة لم تعد له أي قيمة في ظل انتشار الطوابع الموازية والتي تضر بالمستهلك والدولة التونسية.
وضع كارثي ينذر بالإفلاس
من جهته، شدد حاتم بن يوسف، رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ في حديث خاص، على أن وضع القطاع كارثي، وغير مسبوق في تاريخ تونس، لافتاً إلى أن أكثر من 15 ألف عامل في هذا القطاع مهددون بالإفلاس.
وعن تذمر عدد من المواطنين الذين التقتهم "اندبندنت عربية" في السوق، من غلاء أسعار الذهب، أكد ابن يوسف أن معدل تكلفة غرام الذهب في تونس اليوم 125 ديناراً (42 دولاراً)، وهو سعر أقل من سعر التكلفة الحقيقية، مشيراً إلى أن جائحة كورونا دمرت القطاع.
وتحدث عن قانون عام 2005، معتبراً أنه جائر ولا يوفر آليات لحماية القطاع من التحايل والغش، في صنع الطابع والتهريب وتبييض الأموال أيضاً.
ولفت إلى وجود كميات كبيرة من الذهب، لا تحمل طابع العرف، ولا تدخل في الدورة الاقتصادية، داعياً إلى دمجها في الاقتصاد الوطني.
ويتقاسم محمد السقا، ناطق رسمي باسم المجمع المهني للمصوغ، وتاجر، الهواجس نفسها، داعياً الدولة إلى الاستثمار فعلياً في القطاع وقطع الطريق أمام المهربين والفاسدين من خلال تنظيمه.
وأشار إلى أن لجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي، تحدثت في تقاريرها الدورية عن تجاوزات خطيرة في القطاع، قائلاً إن "هناك لوبيات تتحكم في القطاع، الذي نخره التهريب والفساد والغش المتمثل بعمليات خلط الذهب بالنحاس والحديد ومعادن أخرى".
وعن الأسعار، أكد السقا أنها في المتناول، لكن التونسي اليوم في أزمة اقتصادية خانقة بسبب كورونا، إلا أنه لم يتخلَ عن العادات في اقتناء الذهب للعروس في الزفاف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تهريب 19 طناً من الذهب
كانت اللجنة التونسية للتحاليل المالية، التابعة للبنك المركزي التونسي، قد أشارت في تقرير لها بعنوان "التقييم الوطني لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب"، إلى أن أكثر من 19 طناً من الذهب تم تهريبها من تركيا إلى تونس، بين عامي 2012 و2014، وأكثر من 29 مليون دينار (نحو 10 مليون دولار) هي قيمة الذهب الذي حجزته الديوانة التونسية بين عامي 2016 و2017، وهي أرقام تكشف عن حجم التهريب في قطاع.
ونبهت اللجنة إلى "المستوى المرتفع لمخاطر وتهديدات استغلال قطاع الذهب في غسل الأموال، خصوصاً في ظل الوضع الجغراسياسي الذي تمر به منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتفشي التهريب وعبور كميات هائلة من الذهب مقارنة بمستوى احتياطي الدولة التونسية منه".
وفاقت كميات الذهب التي يتصرف بها المهربون في تونس منذ 2011 إلى اليوم، كمية احتياطي الدولة من هذا المعدن النفيس المودعة في البنك المركزي، التي يقدرها مجلس الذهب العالمي (World Gold Council) بنحو 6 أطنان و800 كيلوغرام.
وسبق لغرفة تجار المصوغ أن تقدمت بمقترحات إلى وزارة المالية والبرلمان، من أجل تنظيم القطاع، إلا أن الإدارة العامة للأداءات، التي اعترفت بوجود إشكال في طابع المطابقة، ذكرت بعقوبة تزييفه التي تصل إلى السجن عشر سنوات وغرامة مالية بقيمة 50 ألف دينار (16.6 ألف دولار).
وأكدت أنها تأخذ بالاعتبار مقترحات المهنيين من دون إغفال المحافظة على ضمان الجودة وحماية حقوق المستهلك.