في عالم تحكمه ثلاثية "المجازفة والمخاطرة والمفاجأة"، ارتبط تهريب السلع والبضائع عبر ما يُسمى شعبياً "الحْدَادة" التي تَعني المناطق الحدودية بين الجزائر وتونس، بالرجال دون غيرهم. وذلك على اعتبار أن النشاطات "الخَفية الممنوعة قانوناً" تتم عبر مسالك وعرة، تكون فيها حياة المهرب تحت رحمة قوات أمن الحدود من جيش وشرطة وعناصر الجمارك. لكن المعطى المستجد، برز مع إعلان قوات الأمن التونسية، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تفكيك عصابة مختصة في تهريب الأدوية من تونس إلى الجزائر، مؤلفة من 6 أفراد، 5 منهم نساء.
وجاء في بيان أصدرته فرقة الأبحاث والتفتيش في الحرس التونسي أن إحدى دورياتها تمكنت من ضبط شبكة مختصة في تهريب الأدوية إلى الجزائر مكونة من عدد 6 أفراد من بينهم 5 فتيات تونسيات، تمارس إحداهن مهنة "محضر صيدلي".
وأوضح البيان أنه تم "حجز 1563 قرصاً مخدراً لديهم، مقدرة قيمتها بحوالي 8 آلاف دينار تونسي (2957 دولار أميركي)، وقطعة من مخدر يُعرف بالتمرة، ومبلغ مالي من العملة التونسية متحصل من تجارة الأدوية، وسيارة كانوا يستغلونها في التنقلات".
التهريب الناعم
وجاءت هذه الحادثة الموثقة لتؤكد أن ما كان متداولاً عن نشاط نساء في مجال التهريب عبر المعابر الحدودية بين الجزائر وتونس ليس مجرد حكايات من نسج الخيال، إنما واقع معاش، يعرفه عن قرب من يقطنون بتلك المناطق. ويقول أحد سكان ولاية تبسة شرق الجزائر، التي تربطها حدود مع تونس إن "لجوء النساء إلى تهريب السلع يعرف رواجاً كبيراً ولم يعد سراً، بعد ما كان في سنوات سابقة من المحظورات".
على الجهة المقابلة، يوضح أحد سكان بلدية "الحدادة" بولاية سوق أهراس الجزائرية، التي لا تبعد إلا نحو عشرات الأمتار عن مدينة ساقية سيدي يوسف التونسية، أن "غياب المشاريع التنموية والبرامج الإقتصادية والمرافق الرياضية، يقود الشباب إلى التهريب"، مضيفاً "نعيش وضعاً اجتماعياً ضاغطاً، ظروف المعيشة صعبة للغاية هنا، لا يمكن تحصيل القوت من دون اللجوء إلى التهريب، هي مصدر رزقنا الوحيد".
وتحدث الشاب فاتح (35 عاماً) عن قصص النساء في مجال التهريب قائلاً، إن "هذا الكلام صحيح، هُن يحرصن على عدم المغامرة مثل الرجال. ويرتكز نشاطهن على تهريب سلع نسائية على غرار مستحضرات التجميل والعطور والملابس النسائية، بعضهن يعلن عائلات ودفعتهن الحاجة إلى النشاط غير القانوني". ويعمل الرجال في تهريب الوقود والمواد الغذائية والأدوية وحتى السجائر والمخدرات، وكلها ممارسات تكلف صاحبها عقوبة الإيقاف والسجن، في حال الوقوع بين أيدي قوات أمن الحدود.
دواعي الحاجة
ولم يعد الأزواج يعارضون عمل زوجاتهم في التهريب، ما دُمن يقاسمنهن مشقة الحياة ويسهمن في دخل الأسرة بما يضمن تعليم الأولاد على سبيل المثال. إذ إنه على الرغم من مخاطرها العديدة، تُدر عمليات التهريب أرباحاً كبيرة، لا يمكن أن توفرها الوظيفة المحكومة براتب شهري أو الأعمال اليومية، لا سيما في بيئة تعاني نقصاً حاداً في فرص العمل، وعوزاً اجتماعياً.
ولا يتوقف التهريب لدى النساء، عند شراء السلع وقيادة السيارة لنقلها إلى المناطق الحدودية، إنما يتعين عليهن أيضاً البحث عن زبائن لبَضائعهن المهربة، سواء من خلال تسويقها مباشرةً، ما قد يتطلب وقتاً طويلاً، أو عن طريق ربط شبكة علاقات مع وسطاء يقومون بشراء السلع بالجملة ليتكفلوا هم ببيعها فيما بعد.
ولأن هذا الأمر مدفوع بغريزة البقاء، لا يعتبر سكان المناطق الحدودية، أنفسهم خارجين عن القانون، بقدر ما يرون أنهم يوفرون فرصاً اقتصادية لأنفسهم، لم تضمنها لهم الحكومة التي أهملت مناطقهم وفق الاعتقاد السائد، إذ أُجبروا على ممارسة "المهنة" المتوارثة عن الأجداد لسد رمق العيش مع تزايد الأعباء المالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتجاجات ضد التضييق؟
وتربط بين الجزائر وتونس معابر عدة، رسمية وغير رسمية، يتنقل عبرها ملايين الأشخاص من الطرفين، فضلاً عن كثير من السلع. ومن أهم تلك المعابر، "أم الطبول" و"بوشبكة" و"حيدرة" و"حزوة" و"تمغزة" و"ببوش" و"غار الدماء" و"ملولة".
وتشهد المناطق الحدودية من فترة إلى أخرى، موجة احتجاجات، خصوصاً بعد التشديدات التي تفرضها قوات الأمن ضد المهربين. وحاولت، أخيراً، بعض العائلات التونسية التابعة لولاية القصرين الحدودية مع الجزائر، اقتحام الأراضي الجزائرية عبر الشريط الحدودي في "بوشبكة" التابعة لبلدية الحويجبات، بولاية تبسة شرق الجزائر. إلا أن قوات الأمن الجزائرية منعت المحتجين من اجتياز الشريط الحدودي، حيث انتشرت وحدات من حرس الحدود على كامل الشريط الحدودي في بلدية الحويجبات والمقدر بنحو 15 كيلومتراً، وتحاورت مع التونسيين وأقنعتهم بضرورة العودة إلى ما وراء الحدود.
وجاء هذا الحادث للتعبير عن حجم المعاناة الاجتماعية التي يعيشها سكان المنطقة، في أعقاب إغلاق الحدود البرية بين البلدين، بسبب تداعيات أزمة كورونا، إذ شددت السلطات الجزائرية الخناق على المهربين مما خلق معاناة كبيرة للمواطنين من الجانبين، ذلك بعد انتعاش التهريب خلال الأشهر الأولى من تفشي الفيروس، إذ شكلت الجائحة العالمية فرصةً لسكان المناطق الحدودية لتهريب السلع التي زاد عليها الطلب عقب الإعلان عن الدخول في فترة الحجر الصحي، لا سيما المواد الغذائية الأساسية المدعومة من طرف الحكومة الجزائرية (السكر، الزيت، القمح).
وعادة ما تُنقل السِلع المهربة عبر المسالك الجبلية والطرق غير المحروسة على مستوى الحدود التي يتسلل منها المهربون، وطرق غير معبدة عبر مدن أهمها، الكاف والقصرين وسط غرب تونس، مروراً بمسالك غير رسمية على امتداد الحدود المشتركة البالغ طولها 1034 كيلومتراً، وصولاً إلى الجزائر.
من جهة أخرى، وإضافة إلى السيارات، تُستخدم الحمير في عمليات التهريب، فهي مُدربة على السير في طرقات المناطق الوعرة، إضافة إلى قُدرتها على قطع مسافات طويلة حتى وإن كانت محملة بالبضائع.
وتعِد الحكومتان الجزائرية والتونسية منذ سنوات، بالتكفل بانشغالات سكان المناطق الحدودية، من خلال برنامج تأهيلي لتنمية تلك المناطق وإعادة بعث الحركية الاقتصادية، إلا أن عدم تجسيد هذه الوعود قابلها ارتفاع في أعداد المهربين في المناطق المهملة، من سنة إلى أخرى، ذلك أن أرباح التهريب غير محدودة.
ولا يزال سكان المناطق الحدودية يطالبون بحقهم في تحسين وضعهم المعيشي وتأمين حقوقهم بالسكن والتربية والتعليم والتكوين والصحة والتشغيل والطاقة والتزود بالمياه الصالحة للشرب والتطهير وشق الطرق، إضافة إلى إنعاش الحركة التنموية ودفعها وترقية جاذبية هذه الأقاليم.
قمع يؤدي إلى الحرمان
في المقابل، يعني "قمع التهريب"، على خطوط التماس الحدودي، بشَكل مُبالغ فيه، حرمان عائلات بأكملها من شريان الحياة الاقتصادية وعامل لاندلاع الاحتجاجات، ما يدفع عناصر الجمارك من الجانبين، إلى استخدام الليونة أحياناً مع المهربين، ما داموا لا يتاجرون بالمخدرات والأسلحة، وإن كانوا يستنزفون اقتصادَي البلدين. وتشير تقديرات غير رسمية إلى خسائر مالية بقيمة مليار دولار أميركي سنوياً في الجزائر وحدها.
وعادةً يكون المهربون مصدراً للمعلومات الأمنية بحكم العلاقات التي نسجوها من خلال عملهم، بالتالي يسهمون في حماية الحدود بين الجزائر وتونس، فيعملون كعيون وآذان للمسؤولين الحدوديين الذين تقع على عاتقهم مسؤوليات كبيرة، أبرزها منع تسلل الجماعات الإرهابية ومروجي المخدرات، في ظل تردي الوضع الأمني على الحدود بين البلدين.