تجتمع جملة وقائع لتؤكد أن الشتاء المقبل سيكون قاسياً على اللبنانيين. فبعد أزمة شح المازوت، ها هي ذي أزمة جديدة تطل برأسها، ألا وهي "أزمة الغاز المنزلي". تمس هذه الأزمة صلب حياة المواطن، فهي وصلت إلى عقر داره، لتهدد استقرار عمليتي الطهي والتدفئة، إضافة إلى انعكاساتها على مجمل عمليات الإنتاج والنقل. وتترافق هذه الأزمات التي تعصف بقطاع الطاقة، بأزمات متفرعة عنها لا تقل خطورة، إذ بدأ انقطاع الإنترنت والاتصال عن كثير من المناطق اللبنانية بسبب تقنين الكهرباء وفقدان مادة المازوت.
وبات لبنان يشهد مظاهر غير مسبوقة أمام محطات تعبئة الغاز، وهي طوابير من المواطنين عبارة عن نسخة جديدة من الطوابير أمام محطات الوقود.
تأتي سلسلة الأزمات هذه، فيما تنأى السلطة السياسية بنفسها عن الخوض أو التعليق على ما يجري على الأرض. وفي المقابل، بدأت الفئات التي تستغل الأزمة بالاتساع والظهور عند كل مفترق، لجني الأرباح، لأن الفارق بين ثمن القارورة أو الصفيحة في السوق الرسمية والسوق الموازية أكبر بكثير من الأجرة اليومية للأجراء في المهن الدنيا.
طابور الغاز
ما إن اشتم اللبنانيون رائحة أزمة غاز تلوح بالأفق، حتى أضافوا إلى محطاتهم اليومية "طابور الغاز". فقد شهدت محطات تعبئة الغاز ازدحاماً، إذ حمل الناس عبواتهم واصطفوا في خطوط طويلة في انتظار أدوارهم. ويُقر كثيرون منهم بالعجز عن تغيير مسار الأزمة التي أصبحت شديدة الوطأة. وقصد هؤلاء المحطات، بعدما سمعوا بأن مخزون لبنان من الغاز لا يكفي لأكثر من أسبوع. كما أن محطات عديدة بدأت بتقنين بيع المازوت، أو حتى لجوء بعض المحال في مناطق الأطراف لبيع أنبوبة الغاز بمئة ألف ليرة، أي بضعف السعر الرسمي المعلن.
ويؤكد كثيرون من المواطنين أنهم لم يبدؤوا البحث عن الغاز بسبب انتهاء عبوات الغاز، وإنما من باب ملء عبوة احتياط تؤمن لهم بعض الحاجات الأساسية في فصل الشتاء. فبالنسبة إليهم، فإن الغاز هو ضرورة، ولا يمكن الاستغناء عنه من أجل التدفئة والطبخ، وكذلك من أجل المحال ومطاعم الوجبات السريعة. وكان ينظر بعض المواطنين إلى الغاز كمتنفس أخير في ظل أزمة شح مادة المازوت، أما اليوم فوجدوا أنفسهم أمام انقطاع الخيارات كلها، وربما لن يكون أمامهم إلا تأمين الحطب للطهي والتدفئة بعد أن تخلت أكثرية المواطنين عن هذا الأسلوب منذ أمد بعيد.
تقنين الغاز
حتى أسابيع قليلة ماضية، كانت سوق الغاز في لبنان تعيش حالة من الاستقرار النسبي، مقارنة بباقي السلع وموارد الطاقة. فمادة الغاز يصعب تخزينها مقارنة بالبنزين والمازوت، وبالتالي فإن تهريبها أكثر صعوبة وكلفة. ويؤكد حسن أكومي، صاحب شركة للغاز منذ ستينيات القرن الماضي، أن "الكميات التي تصل إلى شركات التوزيع قليلة وغير كافية لحاجات السوق، ولكن ما أسعف الشركات أن الطقس ما زال دافئاً، الأمر الذي ينعكس على انخفاض استهلاك الغاز المنزلي لأن وقت طهي الطعام قصير".
ويلفت أكومي إلى أن "الكمية التي تصل الآن إلى الشركات من المستوردين غير كافية للاستهلاك في فصل الصيف حتى"، مقارناً بين الفترة السابقة وحالياً، ففي السابق "كانت شركته تستهلك يومياً بين 20 و30 طناً من الغاز المسال، أما اليوم فلا يُزود بأكثر من 40 طناً أسبوعياً"، فقد تدنت الكمية التي تصل إلى الموردين المحليين إلى مستوى قياسي، لذلك بدأ أصحاب الشركات بالتقنين و"الموزع الذي كان يمنح 20 قارورة، يُعطى سبع قوارير من أجل استمرار السوق". ويشير أكومي إلى أن "انتهاء الأزمة مقرون باستيراد كميات إضافية من الخارج، وتأمين دولارات واعتمادات لذلك".
ويحاول أصحاب الشركات إعطاء الأولوية لشريحة من الزبائن، كالمستشفيات والمؤسسات السياحية والسجون، إضافة إلى المنازل. ويحذر أكومي من خطورة تخزين قوارير الغاز، وكذلك غالونات المازوت والبنزين في المنازل والأبنية، لأن "سلامة المنزل والعائلة أهم من تخزين ثلاث قوارير أو أكثر في المطبخ والبلكون"، "في بعض الأبنية هناك قنابل موقوتة بسبب وجود نحو 200 غالون بنزين ومازوت مخزنة بين المنازل". ويقول "ما إن يسمع المواطن بأزمة في سلعة معينة، إلا ويتهافت الناس عليها". فالمواطنون الخائفون يشترون بعض السلع أكثر من حاجتهم، لأنه "لا يوجد من يحمي المواطن، ويؤمن له حاجاته الأساسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير أكومي إلى تداول سعر القارورة الفارغة "بالدولار الفريش"، إذ يبلغ سعر العبوة الواحدة 27 دولاراً أميركياً على سعر صرف السوق. وعلى الرغم من ذلك، فهناك من يتحمل هذه الكلفة العالية بسبب الاستجابة للشائعات والأحاديث عن أزمة حقيقية في الشارع. ويتوقع "ألا تستمر أزمة الغاز لأن لدينا شركات كبيرة، والحاجات مضبوطة"، إلا أنه "يتخوّف من ظاهرة الشبيحة التي تحاول الحصول على السلع بالقوة والتهديد".
ويتحدث أكومي عن سياسات ترشيد الدعم لحماية الاقتصاد ومنع التهريب، إذ يجب تحديد حاجات المواطنين، وإعطاء عدد معين من قوارير الغاز، أو صفائح البنزين والمازوت، فيما يتحمل الشاري عبء الحاجات الإضافية التي تتجاوز الحد المعقول، جازماً بأن قوارير الغاز آمنة بحد ذاتها، بسبب تبديلها بصورة مستمرة.
من جهة أخرى، طمأن جان حاتم، أمين سر نقابة موزعي الغاز، أن "لا أزمة غاز في لبنان، وأن الكميات المطلوبة للسوق المحلية متوافرة"، معلناً عن "انتظار النقابة وصول باخرة محملة بالغاز في غضون أيام". وأشار إلى أن المستفيد الأكبر من الدعاية هي شركات الغاز التي استغلت الفرصة لتصريف إنتاجها، خصوصاً في ظل قلة الطلب في موسم الصيف.
الغاز للنقل
خلال السنوات القليلة الماضية ظهر ميدان جديد لاستهلاك الغاز من خلال تعديل محركات السيارات من أجل السير على هذه المادة، بعد أن راج المازوت لفترة من الفترات. وينظر إلى الغاز كمادة أولية منخفضة الكلفة، وتحديداً خلال أشهر الصيف بسبب تمدده تحت وطأة الحرارة. وعلى الرغم من أن عدم تشريع استخدام السيارات الغاز، فإن ذلك رائج في أوساط مناطق الأطراف وسائقي التاكسي. ويلفت أكومي إلى أن "الحاجة أم الاختراع، واللبناني لا يصعب عليه شيء". ويعتقد أن "الضائقة المعيشية تدفع المواطن إلى البحث عن مواد أقل كلفة".
في المحصلة، يستمر تدحرج أحجار دومينو الأزمة في لبنان، وفي كل يوم تظهر أزمة مستجدة في ظل شح الدولارات وصعوبة تأمين الاعتمادات للسلع الحياتية المستوردة من الخارج. إلا أن المشكلة الكبرى هي التي تتصل بالسلع الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها.