Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا لا تصمد نظريات المؤامرة بشأن تحور كورونا؟

السلالة الجديدة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة وطفرات الفيروسات أمر شائع ومستمر

أدى الإعلان عن اكتشاف سلالة جديدة من فيروس كوورنا  في بريطانيا إلى انتشار نظريات المؤامرة والتفسيرات غير العلمية خلال الآونة الأخيرة ( غيتي )

أدى رد الفعل العالمي، السريع والقوي، على إعلان الكشف عن سلالة جديدة من فيروس كورونا (كوفيد-19) وانتشارها أكثر في بريطانيا إلى زيادة كبيرة في انتشار نظريات المؤامرة والتفسيرات غير العلمية التي انتقلت من مجال مواقع التواصل عبر الإنترنت إلى تصريحات بعض السياسيين المتطرفين ومقالات وتحليلات كتاب وصحفيين.

انتشرت نظريات المؤامرة والخرافات غير العلمية في بداية ظهور فيروس كورونا مطلع العام بسبب قلة المعلومات المتاحة على نطاق واسع حول فيروس جديد احتاج العلماء والباحثون لوقت قبل معرفة تركيبه وطريقة انتشاره وآلية عمله داخل الجسم، وبالتالي ما يسببه من أمراض وأعراض. لكن عودة تلك النظريات والتفسيرات غير العلمية الآن ربما سببه رغبة البعض في الإثارة لأغراض مختلفة. لذا ربما لا تصمد تلك الشائعات والتلفيقات كثيراً في ظل توفر كم هائل الآن من الحقائق العلمية في البحوث والدراسات المحكمة المنشورة على نطاق واسع.

وكما بدأ رد الفعل على السلالة الجديدة من قبل السلطات في دول العالم يستقر، ستبدأ تلك التلفيقات في الخفوت بشكل ربما أسرع من تراجع نظريات المؤامرة والتفسيرات التي تقترب من الدجل والخرافة التي صاحبت بداية وباء كورونا مطلع العام.

وعلى الرغم من أن السلالة الجديدة من فيروس كورونا اكتُشفت في أكثر من مكان آخر حول العالم قبل بريطانيا، وعُزلت ربما منذ مايو (أيار) الماضي، فإن الشائعات تركزت على ما أعلن في بريطانيا قبل أسبوع من موسم عطلات أعياد الميلاد ورأس السنة. وربما ذلك ما عزز الانتشار السريع للشائعات، وكأنها أقرب لطريقة انتشار السلالة الجديدة التي يحدد العلماء سرعة انتشارها بأنها أكبر بنسبة تصل إلى 70 في المئة من السلالات الأخرى المعروفة حتى الآن من فيروس كورونا.

أنواع الشائعات

ويمكن تقسيم تلك التفسيرات التآمرية والخرافات غير العلمية إلى ثلاثة أصناف: الأول ضمن الدعاية السياسية الفجة لليمين المتطرف، مثل ما كتبه زعيم حزب بريكست البريطاني نايجل فاراج على حسابه في "تويتر" الأسبوع الماضي متهماً الأوروبيين بأنهم "بلطجية" لإعلانهم حظر سفر مؤقت على بريطانيا للحد من انتشار السلالة الجديدة من الفيروس، وأن غرضهم الضغط على بريطانيا للقبول باتفاق بريكست. وغالباً ما تجد السياسيين من اليمين واليمين المتطرف من رئيس أكبر دولة في العالم (أميركا) إلى رئيس البرازيل يستخدمون نظريات المؤامرة لأغراض سياسية، لكنها في النهاية تثير بلبلة الرأي العام بشأن حقيقة الوباء والفيروس العلمية.

الثاني، تلفيق شبه علمي يروجه كتّاب ومعلقون يخلطون بين بعض الحقائق العلمية وتفسيرات تآمرية تتسم بالإثارة. وهذا ربما كان أخطر من الترويج الشعبوي للدعاية ذات الأغراض السياسية، لأنه يلقى قبولا لدى قطاعات من الرأي العام، وربما يضر بإجراءات الدول والسلطات الصحية للحد من انتشار الوباء وحماية الصحة العامة وأرواح المواطنين. وفي الأيام الأخيرة كثرت في الصحف ووسائل الإعلام العربية المقالات والتعليقات التي تروج لتلك التفسيرات. فبعضها يقول إن السلالة الجديدة ضمن "حرب بيولوجية خرجت عن السيطرة" (باستعارة تصريح وزير الصحة البريطاني مات هانكوك بأن انتشار السلالة الجديدة خرج عن السيطرة، وهو تصريح سياسي موجه للداخل البريطاني كان غرضه تبرير إجراءات الحكومة للحد من التنقل والتجمع في موسم الأعياد). وهناك من اعتبر الإعلان عن سلالة جديدة من الفيروس مع بدء طرح اللقاحات "حيلة تجارية لتسويق لقاحات جديدة لنوع جديد". وهناك أيضاً مقالات وتعليقات تضمنت خرافات مما يبث عبر مواقع التواصل.

الصنف الثالث من نظريات المؤامرة، هو في الأغلب ما ينتشر عبر الإنترنت وتحديداً مواقع التواصل ويروج له من يوصفون بأنهم "مؤثرون" أو من الساعين للشهرة الإلكترونية وما تدره من عائد لأصحاب الحسابات والمواقع الأكثر انتشاراً. وغالباً تكون تلك مجرد شائعات مضللة وخرافات لا علاقة لها بالعلم ولا حتى بالتلفيق السياسي أو التجاري.

أساسيات علمية

يعرف كل من درس فايرولوجي (علم الفيروسات) أن الفيروسات ليست كائناً حياً، إنما هي جماد عبارة عن تكوين كيماوي حتى تدخل إلى خلية حية فتستولي على الحمض النووي في داخل نواة الخلية، وتبدأ في الانقسام (التوالد الذاتي). يتكون كل فيروس من شريط واحد من الصبغات الوراثية (حمض نووي ريبوزي RNA)، مثل ما في النباتات وليس كخلايا البشر والحيوانات التي تحتوي نواياها على شريطين (حمض نووي دايوكسي ريبوزي DNA).

تشهد كل الفيروسات تحورات باستمرار، وهي عبارة عن طفرات تتم في تركيبة الصبغات الجينية على شريط الحمض النووي للفيروس. وتتركز أغلب الطفرات التي تؤدي إلى سلالات جديدة من الفيروس في الصبغات الوراثية المسؤولة عما تسمى "النتوءات البروتينية" (Spikes) التي يستخدمها الفيروس للالتحام بجدار الخلية الحية وتذويبه في ذلك الموقع ودخول الخلية لمهاجمة نواتها. وهناك مئات الآلاف من التركيبات المختلفة لتلك النتوءات، لكن العلماء يجمعونها في حزم تتشابه كل حزمة في التركيب إلى حد كبير، وذلك بغرض الدراسة. ويعتمد تطوير الأدوية المضادة للفيروسات على تعطيل ما يقابل تلك النتوءات على جدار الخلية الحية للعائل وتسمى "مستقبلات" (Receptors).

وهناك عائلات من الفيروسات تشهد طفرات سنوية تؤدي إلى تحور السلالات المعروفة إلى سلالات جديدة. على سبيل المثال، يُطعم البشر بلقاح الإنفلونزا كل عام وليس لمرة واحدة كما يحدث مع فيروسات أخرى. ذلك أنه لا يمكن حصر عدد سلالات فيروس الإنفلونزا الموجودة في العالم، والتي تتحور كل موسم تقريباً.

مثلاً، يقسم مركز مراقبة الأمراض الأميركي (https://www.cdc.gov) فيروسات الإنفلونزا إلى أربع مجموعات: A, B, C, D، وأغلب ما تشيع المعرفة العامة به هو من المجموعة A التي تضم مجموعات فرعية منها مجموعة A2 التي تنقسم بدورها إلى مجموعات فرعية منها فيروس إنفلونزا الطيور (H1N1). وترمز H إلى تقسيم يعتمد على نوع الهيماتوغلوتنين الذي يتحور باستمرار. وفي تلك المجموعة الفرعية هناك نحو 30 سلالة معروفة وشائعة.

ينطبق الأمر نفسه على فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، الذي يشتهر منه في منطقتنا النوع C (فيروس سي)، لكنه مقسم إلى مجموعات مختلفة A, B, C, D, E، وحتى المجموعة الفرعية لفيروس "سي" تضم تحورات مقسمة إلى أكثر من 6 مجموعات. وهكذا، يوجد من كل فيروس العشرات، وربما المئات من السلالات الناجمة عن طفرات مستمرة تؤدي إلى تحول في الفيروس. لكن يظل التقسيم الرئيس للفيروسات بحسب ما تسببه من أوبئة وأمراض للبشر أو الحيوانات أو الطيور (أو لهم جميعاً) على أساس: فيروسات تنفسية، فيروسات كبدية... الخ.

السلالة الجديدة

حين كشف عن فيروس كورونا الجديد في الصين، وهو "Sars-Cov-2" واصطلح تسميته "كوفيد-19" لتمييزه عن بقية فيروسات العائلة التاجية المسببة للأمراض التنفسية مثل إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير وغيرهما، كان هناك بالفعل أكثر من نصف دستة من السلالات المختلفة في غضون أسابيع. تلك بالطبع التي عزلت وفككت تركيبتها الوراثية.

ومن السلالات التي نتجت عن طفرة في وقت مبكر من انتشار الوباء في الربيع، الطفرة التي سماها العلماء "D614G" التي اعتبرت مسؤولة عن سرعة انتشار فيروس كورونا حول العالم في الموجة الأولى. ثم، أخيراً، هناك الطفرة التي تسمى علمياً "Y453F" التي ظهرت في حيوانات المنك في الدنمارك لكنها كانت محدودة الانتشار. وما بينهما، وقبلهما وبعدهما عشرات الطفرات التي تؤدي إلى سلالات جديدة.

 ومنذ ذلك الحين، وبحسب أحدث دراسة علمية موثقة تعتمدها اللجنة العلمية والتي تنصح الحكومة البريطانية فهناك 17 سلالة معروف تركيبها الجيني حتى الآن. وبالطبع، قد يكون هناك عدد مماثل أو أكثر تحور وانتشر ولم يُعزل أو تُقرأ خريطته الوراثية بعد.

لا تكشف الفحوص والتحليلات (PCR) عن التركيب الجيني للفيروس، إنما تحدد وجود الحمض النووي الفردي وعدده. أما معرفة الطفرات والتحورات ووجود السلالات الجديدة، فيكون عبر قراءة التركيبة الجينية الكاملة للفيروس. وتشتهر بريطانيا والدنمارك بأنهما في مقدمة بلدان العالم من حيث قدرة العلماء وتوفر الإمكانيات البحثية لتفصيل الخريطة الوراثية للفيروسات.

يضم شريط الحمض النووي الريبوزي لفيروس كوفيد-19 ما يصل إلى 30 ألف صبغة وراثية. وبحسب ما صرح به كبير المستشارين العلميين في بريطانيا سير باتريك فالانس، فإن السلالة الجديدة ناتجة عن نحو 23 تغيراً جينياً. والاسم العلمي لتلك السلالة B.1.1.7 وهي تحور (عبر طفرة أيضاً) لسلالة ظهرت في جنوب أفريقيا أطلق عليها علمياً "501.V2"، بحسب ما ذكر البروفيسور سليم عبد الكريم المسؤول عن برنامج كوفيد-19 في بريطانيا.

وعلى الرغم من أن أكثر من جهة علمية موثوقة في العالم أعلنت أن اللقاحات المتوفرة حالياً التي يجري تطويرها يمكنها الوقاية من السلالة الجديدة، فإن البعض ما زال يشكك في ذلك. ومع توفر المعلومات واكتمال الأبحاث والدراسات، سيترسخ لدى الجمهور العام ما يكفي من العلم الذي يدحض الشائعات والخرافات.

يكاد يجمع العلماء والباحثون والأطباء حول العالم على أن فيروس كورونا هذا لن ينتهي تماماً، حتى مع اكتمال حملات التطعيم لأغلب سكان الأرض. وإنما سيكون على البشرية التعايش معه بإجراءات الصحة العامة البسيطة كغسل اليدين بالصابون وأساليب الوقاية الأخرى. إنما ما يسعى إليه العالم الآن، ويكرس له أغلب موارده وجهده هو السيطرة على الفيروس. وقد يأخذ ذلك بعض الوقت، لكنه آت بالتأكيد في ظل تطور العلم والبحث.

وفي خلال فترة السيطرة على الوباء، يتحور الفيروس عبر طفرات جينية، وتظهر سلالات جديدة. وقد لا يتوقف ذلك تماماً مثلما هو الحال مع فيروسات الإنفلونزا الأخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات