لسنوات عدة احتضنت البرلس، تلك المدينة الصغيرة الواقعة في محافظة كفر الشيخ شمال دلتا مصر، ملتقى دولياً يقام بشكل سنوي للرسم على القوارب الخشبية البسيطة المصنوعة محلياً، وتعد إحدى علامات المدينة وأيقوناتها البصرية، إضافة إلى رسم جداريات على المباني الواقعة على الشريط الساحلي مستلهمة من مفردات البيئة الغنية التي تتميز بها البرلس، بمشاركة عشرات الفنانين التشكيليين المصريين ونظرائهم من دول العالم في تظاهرة فنية، أهم ما يميزها حالة التفاعل بين بسطاء الناس من أهل المدينة، والانطلاق بالفن التشكيلي من القاعات المغلقة إلى بيئات طبيعية مفتوحة ليكون جزءاً من المكان، خصوصاً أنه يرتكز على تيمة أساسية للمدينة وهو القارب الخشبي، لتشهد البرلس خلال فترة الملتقى سيمفونية فنية بلمسات من كل أنحاء العالم.
جائحة كورونا ألقت بظلها الثقيل على الملتقى في دورته السابعة هذا العام، ولم تتسن إقامته منعاً للتجمعات، إضافة إلى عدم قدرة كثير من الفنانين من خارج مصر على الحضور، ليقرر القائمون عليه إقامته بشكل افتراضي تحت شعار "مسافات آمنة"، بمشاركة 100 فنان من 20 دولة، لتبحر مراكب البرلس افتراضياً هذا العام بسبب الوباء.
تجربة جديدة
إقامة الملتقى افتراضياً للمرة الأولى شكل تجربة مختلفة عن الدورات السابقة، فكيف نفذت، وما مدى المشاركة من فناني مصر والعالم؟ تقول إيمان عزت قوميسير عام الملتقى لـ"اندبندنت عربية"، "بالطبع الوضع مختلف في كل نواحي الحياة، ومن هنا قررنا الحدث افتراضياً بدلا من إلغائه وشارك فيه 100 فنان من 20 دولة، حيث نفذوا تصميماتهم على المراكب التي عرضت افتراضياً، بينما أعمال الفنانين المصريين جمعت وعرضت في معرض فني في القاهرة، وأشارت إلى أن هناك فنانين من بعض الدول، كانت لهم مشاركات مميزة، إذ أقاموا فعاليات مصغرة للملتقى في بلادهم مثل السعودية والهند، وصنعوا القوارب بشكل ومواصفات مراكب البرلس نفسها ونفذوا التصميمات عليها".
القارب أيقونة المدينة
مثل هذه الفعاليات التي تقام في بيئات طبيعية وسط بسطاء الناس، بلا شك إحدى أهم وسائل التنمية، كما أنها وسيلة لنشر مفاهيم الفن والجمال وخلق ثقافة بصرية عند أهالي المنطقة. تذكر قوميسير الملتقى، نعمل بشكل أساس على فكرة التنمية بالفن، فمثل هذه الفعاليات تنعكس على المجتمع بصورة غير مباشرة من خلال ورش العمل التي تقام خلال فترة الملتقى لأهالي المدينة، إضافة إلى نشر مفهوم الجمال من خلال الرسوم على الحوائط والمراكب. ومن الأمور المهمة أيضاً التفاعل القائم بين الفنانين من مصر وخارجها وأهالي المنطقة حال إقامته في الظروف الاعتيادية.
تضيف، قوارب المدينة الصغيرة أيقونة الرزق عند أهالي البرلس، فالمنطقة تعتمد بشكل رئيس على الصيد وصناعة القوارب، ومن ضمن أهداف الملتقى فتح باب رزق لأهالي البرلس بشراء هذه القوارب التي يُرسم عليها، وتوفير فرص عمل لأن هذه المنطقة على جانب آخر تعاني أزمة الهجرة غير الشرعية بصورة كبيرة، ولا بد من السعي وتكاتف المؤسسات المختلفة لمواجهتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مدارس فنية مختلفة
يميز مثل هذه الفعاليات أيضاً الجمع بين فنانين من أجيال مختلفة ومدارس فنية متنوعة حول تيمة واحدة مستوحاة من ثقافة المدينة الساحلية الصغيرة، ما يكون له كبير الأثر على الفنانين أنفسهم باطلاعهم على رؤى متنوعة لموضوع واحد إضافة إلى إضفاء بعد جمالي على المكان.
تقول الفنانة المصرية سالي الزيني، إحدى المشاركات في الملتقى، إنها سبق وشاركت فيه، وأشارت إلى أن رسم جدارية على منازل المدينة ومبانيها يجعلها أشبه بالمتحف المفتوح، الذي يعكس ثقافة المكان ومفرداته الأساسية التي يستلهم منها الفنانون، ويمثل الأمر أيضاً تجربة ثرية للفنان بأن يرسم أمام جمهور بسيط يقيّم الفن بالفطرة، وبالطبع افتقدنا هذه الأجواء هذا العام بسبب ظروف الجائحة.
توضح، "الفن لا بد أن يكون له دور في المجتمع، والفنان جزء من المكان الذي يعيش فيه، لا بد أن يوظف فنه لتنمية ونهوض مجتمعه ودعم بسطاء الناس، حتى ولو بنشر الجمال وإثراء ثقافتهم البصرية، بأعمال فنية ترقى بالحس الفني، وهذا ما نسعى إليه من خلال فعاليات الملتقى".
اجتماع فني على فكرة إنسانية
وبشأن مشاركتها هذا العام تقول، إن عملي مستوحى من الموتيفات الشعبية العربية، التي تعد المحور الرئيس لمشروعي الفني بشكل عام، واستخدمت وحدة السمكة التي تعد رمزاً للخصوبة والنماء في ثقافات عدة، ورمزاً للرزق في البرلس التي يعتمد معظم أهلها على كسب الرزق من خلال الصيد، إضافة إلى تزيين القارب بالزهور والطاووس الذي يمثل إحدى مفردات الثقافة العربية".
وفي ظل كورونا وإقامة الملتقى الدولي افتراضياً هذا العام نظم فنانون من دول مختلفة ورش عمل مصغرة للرسم على القوارب ذاتها المعروفة في البرلس، كان أبرزها ورشة العمل التي عقدت في السعودية، وعنها تقول الفنانة عفاف الجشي، عملنا كفريق سعودي من خمسة فنانين في ورشة مصغرة في استديو الفنانة التشكيلية مهدية الطالب لخمس ليالٍ متصلة، تبادلنا فيها خبراتنا، وحققت الهدف المرجو لإثراء الملتقى بإبداعات كل منا، حتى ولو كنا بعيدين عن الموقع الحقيقي في مدينة البرلس إلا أننا تماشينا مع هذه الظروف بحسب الإمكانات المتاحة قدر ما نستطيع".
تضيف، "ملتقى البرلس من أهم الملتقيات الدولية، لما يحمله من قيمة إنسانية هادفة وغير ربحية، تتيح المجال لنا كفنانين سعوديين لإظهار مكنوناتنا الإبداعية بشكل وأسلوب يعكس العمق والمخزون الثقافي والهوية المحلية، برؤية فنية عالمية ويسلط الضوء على رؤيتنا الإنسانية المشتركة".
تجارب إنسانية
يعكس العمل الذي يقدمه كل فنان جزءاً أصيلاً من تكوينه وثقافته وتراثه، ويكون الأمر أكثر ثراء عندما يكون هذا العمل وسط نخبة من الإبداعات الفنية، التي تعكس ملامح متنوعة من الثقافات المختلفة والخبرات الإنسانية المتنوعة، وعن عملها المشارك في الملتقى تقول الجشي، إنها "استخدمت المركب ليحكي تجربة شخصية امتزجت بأحاسيس ومشاعر تدفقت على سطحه برمزية فنية بصرية من خلال الألوان والخطوط والأشكال، لتعكس رؤيتي ورسالتي المتماشية مع هدف الملتقى التي أحببت أن أوصلها كمحاكاة جسدت الجوهر التكويني المجتمعي للإنسان ووحدة النسيج البشري، وتحديداً قوة المرأة الأم والعائلة في عالمنا العربي".