في ميدان مخيّم دير البلح، الذي يُعدّ أصغر مخيّمات اللاجئين في قطاع غزّة، وأكثر منطقة حيويّة في المحافظات الوسطى للقطاع، بدأ الناس بالتجمّع، وقبل الوقت المحدّد للخروج في تظاهرة ثانية ضدّ الغلاء المعيشي في غزّة، وسط انتشار كبير لعناصر الأمن التابعة لأجهزة الشرطة في الحكومة الموازية التي تديرها حركة "حماس"، الموجودين في شكل أساس في معظم الميادين العامة.
التظاهرة الأولى كانت مساء 14 مارس (آذار) الحالي، في منطقة مخيم جباليا شمال قطاع غزّة، وسط مشاركة شعبية وصفت بالكبيرة، دارت فيها أحداث قمعٍ وضربٍ واعتقالٍ ومصادرة الهواتف المحمولة، من قِبَلِ أجهزة الأمن في غزّة، ضدّ المشاركين في المسيرة التي دعت في شكل أساس إلى رفض الغلاء المعيشي.
تظاهرات واعتداء
بعد انطلاق شرارة الخروج إلى الشارع، في تجمع سلميّ، رفضاً للواقع المعيشي في القطاع ورفض فرض الضرائب على المواد التموينية، بدأ المواطنون في مختلف محافظات غزّة بالنزول إلى الميادين العامة للمطالبة بحقوقهم المكفولة، وسط تخوفات كبيرة بدت واضحة على ملامحهم.
نصف ساعة مضت على نزول الناس إلى الشوارع، حاملين بعض أدوات المطبخ، وبعضهم الآخر حمل لافتات خُطّ عليها شعار "بدنا نعيش"، وهو اسم الحراك الشعبي الذي دعا اليه رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض الفرق الشبابية التي لا تحمل لوناً سياسياً أو فصائلياً، ما أزعج حركة "حماس"، الحاكم الفعلي لقطاع غزّة، منذ فوزها في الانتخابات التشريعية المبرمة في العام 2006، وسيطرتها بقوّة السلاح على غزّة.
تزايدت أعداد الناس المشاركين في التظاهرات السلمية تدريجاً، بالتزامن مع تزايد عدد عناصر الأمن الوافدة إلى المكان، بعضهم بزيّه المدني والآخر بزيّ الشرطة، وفق ما قال محمد، أحد المشاركين في الحراك.
يقول محمد "كنا نهتف بصوت موحّد برفض الغلاء المعيشي وفرض مزيد من الضرائب، ثم بدأ الأمن بالاعتداء علينا بالضرب". وفعلياً، كان عناصر الشرطة الموجودون في المكان والمتخصصون في تفريق المتظاهرين والتعامل مع حالات الشغب، على حدّ وصف الشرطة، يحملون العصي الخشبية والمطاطية (الهراوات)، فضلاً عن السلاح الذي بحوزتهم.
ويكفل القانون الأساس الفلسطيني للعام 2003، في مادته 26/5، حق التظاهر والتجمعات السلمية، وحماية المتظاهرين من قبل الأجهزة الأمنية، مع ضمان حرية التعبير والرأي.
استمر القائمون على الحراك بدعوة الناس إلى النزول إلى الشارع في تظاهرات سلمية، خصوصاً بعدما فرضت الحكومة الموازية في غزّة ضرائب إضافية على بعض السلع التموينية الأساس مثل الخبز والبقوليات والخضروات والدخان وغيرها.
وهو ما دفع الشباب إلى تسمية الحراك بـ "بدنا نعيش" أو بـ "ضدّ الغلاء"، ورفع المتظاهرون لافتات تنادي بحياة أفضل، وأنّ خروجهم إلى الشارع هدفه شخصي وغير مسيس، وأنّهم ليسوا ضدّ حركتي "حماس" و"فتح"، وأنّ المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام وسلاحها، خطّ أحمر وليس للحراك أيّ مطالب بخصوص ذلك.
قمع الحراك
لكن الأجهزة الأمنية والشرطة الفلسطينية التابعة للحكومة الموازية في غزّة استنفرت كلّ قوّاتها الأمنية والاستخباراتية لمراقبة الوضع، وتعاملت مع نزول المواطنين إلى الشارع بالقمع والضرب. وعلمت "اندبندنت عربية" من مصادر ثقة أنّ "حماس" طلبت من عناصرها النزول إلى الشارع في مسيرات ضدّ الحراك، والمواجهة مع الشبان وتحريك عناصر "حماس" الإعلامية لمواجهة الحراك عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ووفق شهود عيان، فإنّ الأجهزة الأمنية صادرت عدداً كبيراً من هواتف المشاركين ومسحت محتوياته، في حين تلقى عدد آخر بلاغات عدّة للحضور إلى مراكز توقيف أجهزة الأمن، وعدد منهم اعتُدِيَ عليه مباشرة، سواءً في الشارع أو في منازلهم ودخولها من دون إذنٍ قانوني، بالضرب المبرح بالعصي الخشبية والمطاطية، وإطلاق النار بالهواء. ووفق الشهود، فإنّ عدداً من عناصر الأمن أطلق النار باتجاه المشاركين مباشرة.
وكان من المتوقع أن يرافق حراك "بدنا نعيش" تغطية إعلامية، لكن في الواقع غابت عنه عدسات التوثيق مرغمة في ظلّ الانتشار الأمني الكبير. ووثّق بعض الأشخاص عبر هواتفهم المحمولة بعض لحظات مشاركة الشباب والاعتداء عليهم، في حين التقط بعضهم صوراً من أسطح المنازل، فضلاً عن تصوير عناصر الأمن للمشاركين.
ولم يقتصر الاعتداء على المشاركين، بل تعدى ذلك بالاعتداء على جهات التوثيق، فاعتدت عناصر "حماس" بالضرب على مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، وضربوا واعتقلوا عدداً من الصحافيين وصادروا معداتهم ومسحوا محتواها. وهو ما أدانته المؤسسات الحقوقية والصحافية واعتبرته تقييداً للعمل الإعلامي والحقوقي، وانتهاكاً صارخاً لحرية العمل والرأي. ومؤخراً، بعد تدخل عدد من الفصائل لدى أجهزة الشرطة قرّرت الإفراج عن الصحافيين المعتقلين.
ورافق تظاهرة مخيمَي جباليا ودير البلح، مسيرات مساندة في مناطق أخرى من القطاع، مثل محافظة رفح ومدينة غزّة. وأشعل المشاركون الإطارات المطاطية كإحدى أدوات العصيان المدني المتعارف عليه عند الشعب الفلسطيني في مواجهة الجيش الإسرائيلي وأستُخدم في الانتفاضتين الأولى والثانية.
تبريرات واتهامات
برّرت الشرطة الفلسطينية على لسان الناطق باسمها في غزّة أيمن البطنيجي تفريق المتظاهرين بعدم حصولهم على إذن مسبق لتنظيم مسيرة أو حراك شبابي ضدّ الغلاء. وبرّرت الاعتقالات بأنّها مجرد استدعاءات للتحقيق في شأن طبيعة المشاركة في الحراك للتوصل إلى معلومات عن القائمين عليه.
ونُقِل عن مصادر من "حماس" أنّ القائم على الحراك هو شخص من قطاع غزّة، انتقل إلى الضفة الغربية، وأثناء وجوده في القطاع ألقي القبض عليه أكثر من مرة على خلفية تنظيم أحداث عنف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى مراقبون أنّ ذلك إشارة إلى تسييس الحراك واتهام مباشر لأجهزة السلطة في الضفة بالوقوف مع الحراك ودعم التظاهرات الشبابية. وهو ما يتوافق بعض الشيء مع حديث أحد الناطقين باسم حركة "فتح" في الضفة الغربية عن دعم الحركة الحراك الشبابي.
تبريرات حماس تتنافى مع بيان الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، الذي أظهر أنّ اعتقال الشباب جاء على خلفية إطلاقهم حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية. وأكّدت الهيئة أنّ ما رصدته من وقائع لها علاقة بحوادث اعتقال تشكّل مخالفة واضحة لمعايير الاحتجاز والتوقيف المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001.
وكانت "حماس" دعت عناصرها إلى الخروج في تظاهرات مناهضة للحراك، وفعلياً خرجت مسيرات في الشوارع المجاورة لمناطق الحراك. وحمل مناصرو "حماس" لافتات كتب عليها "عباس لا يمثلني"، في خطوة وصفها المراقبون بـ "الالتفافية" وبأنّها "استغلال سياسي".
دعوة للاستجابة
على النقيض، قال القيادي في "حماس" أحمد يوسف إن "الحراك لا يعني أن الشارع ضد حماس؛ الحراك رسالة إلى ثلاث جهات: الاحتلال والمنطقة والمجتمع الدولي". وكذلك دعا النائب في المجلس التشريعي عن "حماس" حركته إلى الخروج في مؤتمر صحافي لتعلن استجابتها واستعدادها تلبية رغبة الجماهير في التنحي عن إدارة الشأن العام وإعطاء مهلة شهر لتحقيق ذلك، وعلى الفصائل وقوى المجتمع المدني والشخصيات الوطنية في المقابل أن تحدد الطريقة المناسبة لتسلمها الإدارات الحكومية.
ولم تتوانَ بعض الفصائل في الدفاع عن حقوق المتظاهرين، واستنكار ما قامت به أجهزة حماس الأمنية، وخرجت في بيانٍ موحد جاء فيه دعمها ووقوفها مع مطالب الشعب في رفض الغلاء المعيشي وتحسين أوضاع الناس الاقتصادية.