Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شيخوخة "الساموراي" تقض مضاجع امبراطورية الشمس المشرقة

هل يختفي اليابانيون في القرن المقبل؟

28 في المئة من اليابانيين تجاوزوا الخامسة والستين (غيتي)

شاع منذ سنوات في المجتمع الياباني مصطلح لم يكن ذا أهمية تذكر "أكييا" (Akiya)، كلمة تعني باليابانية "المنزل الفارغ"، في إشارة إلى بيوت مهجورة مات عنها أصحابها ولم يعد ثمة من يسكنها أو يصونها. ويُتوقع أن تتفاقم مشكلة الـ"أكييا" مع مرور الزمن، ليس بسبب رغبة ورثة هذه البيوت في تجنب الضريبة العقارية التي تُفرض على امتلاك بيت ثان فحسب، بل لقلة اليابانيين الذين يريدون السكن في هذه المنازل أيضاً.

ووفق تقديرات "وزارة الشؤون الداخلية" اليابانية، فإن ما يقارب 14 في المئة من منازل اليابان اليوم (أي ما يتجاوز 10 ملايين منزل) تقع تحت هذه الفئة، فيما تشير الدراسات المستقبلية إلى أن هذه النسبة ستتجاوز 30 في المئة بحلول عام 2033.

 ويقول الباحثون في مجال الديموغرافيا إن ثمة حاجة يابانية ضرورية إلى إيجاد أجيال جديدة، وإلاّ فإنّ الانكماش السريع في عدد السكان سيؤدي إلى المزيد من الـ"أكييا" ومن البلدات المهجورة.

تتوزع بيوت "أكييا" في جميع ربوع اليابان، وهي مدرجة كأصول لدى مصارف يُطلق عليها "بنوك المنازل الخالية" أو "بنوك أكييا". وتتركز هذه البيوت بشكل خاص في المناطق الريفية، إذ ما فتئت الأجيال الشابة تهجر مسقط رأسها بحثاً عن الاستقرار في المدن التي توفر فرص عمل ومعيشة أفضل، وهي ظاهرة تتسبب في اختلال سكاني سريع وواسع النطاق. وتتفاقم ظاهرة البيوت المهجورة بصورة متزايدة في أرياف اليابان مع التهام شبح الموت شيئاً فشيئاً أحياء بحالها، حيث أصبح مجرد رؤية طفل مشهداً نادراً.

انخفاض معدل المواليد

وقد تنبّه رئيس وزراء اليابان شينزو آبي إلى خطورة انخفاض معدل المواليد وتسارع شيخوخة المجتمع بشكل غير مسبوق على أمن بلاده القومي، ما دعاه إلى إطلاق النداء لوضع "سياسات مؤثرة" للتصدي لهذا الخطر الداهم على الفور عن طريق سلسلة من الإصلاحات التشريعية والحكومية الهادفة إلى تعزيز قدرات العمال اليابانيين وتقليل تكلفة رعاية كبار السن والسماح بدخول 345 ألف عامل أجنبي على مدار 5 سنوات لتمكين عمالة القطاعات الإنتاجية، إثر تعرضه لضغوطات هائلة من لوبيات الأعمال المتلهّفة للاستفادة من قوى عاملة جديدة.

لكن الخبراء الاقتصاديين يرون أن هذه الإجراءات غير فعالة وغير كافية، إذ إنّ الأزمة أعمق بكثير، فعدد الوفيات فاق عدد الولادات بـ430 ألف حالة العام الماضي وحده، ويُتوقع أن يتناقص عدد سكان البلاد بواقع 900 ألف نسمة سنوياً بحلول منتصف القرن الحالي.

ويُنتظر أن يهبط إجمالي عدد سكان اليابان من 126 مليون نسمة حالياً إلى 50 مليوناً فقط خلال قرن من الآن. وتتفشى الشيخوخة في بلاد "الساموراي" بشكل متسارع، إذ إنّ 28 في المئة من اليابانيين تجاوزوا الخامسة والستين مقارنةً بـ21 في المئة في ألمانيا و15 في المئة في الولايات المتحدة.

وتخطّى عدد من تجاوز المئة عام، السبعين ألفاً بزيادة قدرها سبعة أضعاف مما كان الوضع عليه قبل عقدين فقط. وفي دلالة على خطورة الوضع الديموغرافي، تجاوزت مبيعات حفاضات البالغين نظيرتها لدى الأطفال للمرة الأولى في العقد الماضي. ونتيجة كل ما سبق، تعاني البلاد نقصاً حاداً في اليد العاملة، إذ هناك بالفعل 1.6 وظيفة لكل باحث عن وظيفة، ويُتوقع أن تنكمش القوة العاملة من 67 مليوناً عام 2018 إلى 58 مليوناً عام 2030.

الانهيار السكاني

ظاهرة الانهيار السكاني ليست وليدة الأمس، فاليابان ليست الدولة الأولى التي يغلب فيها معدّل الوفيات على معدّل الولادات، إذ تعاني روسيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية من الظاهرة ذاتها. لكن الفرق أن البلاد الأخرى تسدّ الفجوة الديموغرافية عن طريق استقدام مهاجرين جدد، يكونون في الغالب شباباً، تمتلئ قلوبهم أملاً في تأمين حياة كريمة لهم ولعائلاتهم.

 أما اليابان، فقد اعتادت إيصاد الأبواب في وجه موجات الهجرة الواسعة، بحيث تُعدُّ "امبراطورية الشمس المشرقة" اليوم إحدى أنقى الدول عرقياً على وجه الأرض.

صحيح أن طوكيو بدأت منح رخص عمل لعدد أكبر من العمال الأجانب، ولكنها أيضاً تبذل جهوداً متواضعة لمساعدتهم في التكيف، فقوانين التأشيرات تُلزِم الوافدين بتجديد تأشيراتهم بصورة مستمرة، وتمنعهم من جلب عوائلهم.

ووضع السكن بالنسبة إلى الوافدين ليس أحسن حالاً، فالتمييز أمرٌ شائعٌ جداً وقانوني تماماً، كما يتعين عليهم إتقان اللغة اليابانية. باختصار، إذا أتى المرء للعمل في اليابان، فلن يستغرق وقتاً طويلاً ليعي رسالة الحكومة اليابانية: "تعال واعمل، ولكن إعلم أنه غير مرحّب بك هنا".

وضمن هذا السياق، تُظهر الإحصاءات الرسمية أن اثنين في المئة فقط من القوى العاملة في اليابان مولود في الخارج، مقارنة بـ 17 في المئة في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الحكومة وضعت نصب عينيها خطة تهدف إلى جذب عمال لـ14 مهنة، بما في ذلك البناء وتشييد السفن ورعاية المسنين.

تحفظ

وفي انعكاس واضح للسياسة اليابانية شديدة التحفظ، يقلل شينزو آبي من خطورة استقدام العمال الوافدين الجدد، معتبراً أنهم ليسوا مهاجرين- دائمين، وإنما عمال- ضيوف. كما يصور رئيس الوزراء الياباني العمال الأجانب، كملاذ أخير لسد الثغرات في سوق العمل، بينما تحاول الحكومة الحصول على مزيد من اليابانيين.

وعلى الرغم من أن بعض السياسيين يشعرون بالقلق إزاء العمال الأجانب الذين قد يزيدون معدلات الجريمة جراء عدم تناغمهم الاجتماعي مع التقاليد الثقافية المحلية، إلاّ أنّ غالبية سكان البلاد يوافقون على خطط شينزو آبي لاستقدام المزيد منهم.

وتشكّل الضرورات الاقتصادية والمفاهيم الثقافية قطبين متنافرين في دائرة النقاش حول الهجرة، ذلك أن التظاهر بأن اليابان تستطيع أن تتدبّر نفسها من دون مهاجرين لم يعد خياراً ممكناً، ولكن الترحيب بهم بشكل حقيقي ليس أمراً ممكناً على الصعيد السياسي.

ومن ضمن الخطط المبتكرة لمواجهة أزمة شيخوخة المجتمع، يريد رئيس وزراء اليابان من مواطنيه أن "يبقوا نشيطين دون تقاعد طوال حياتهم"، إذ تعمل حكومته على رفع سن التقاعد لموظفي الخدمة المدنية من 60 إلى 65 سنة، كما أنها تشجع شركات القطاع الخاص على أن تحذو حذوها. ويخطط آبي لتعزيز هذا الاتجاه من خلال زيادة معاش التقاعد العام لأولئك الذين يوافقون على البدء في سحبه بعد تجاوزهم سن الـ65. كما يأمل رئيس الوزراء في أن تساعد الروبوتات والذكاء الاصطناعي، على المدى البعيد، في تخفيف النقص الحاصل في اليد العاملة.

ويُعتبر إقناع كبار السن بالعمل لفترة أطول أمراً مفيداً لتمويل الحكومة، لأنه يؤدي إلى زيادة الإيرادات الضرائبية ويخفض الإنفاق على المعاشات التقاعدية. ويخطط آبي لإجراء تغييرات شاملة لوضع دولة الرفاهية على قاعدة أكثر صلابة، إذ ثمة برامج حكومية تهدف إلى إصلاح شامل للضمان الاجتماعي بما في ذلك الصحة والمعاشات التقاعدية وغيرها.

وفي مواجهة خطر ديموغرافي داهم كهذا، لن يكون أمام اليابان سوى خيارين: إما التكيّف مع واقع الانكماش السكاني وتحمّل تبعاته وعواقبه الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة، أو اختيار طريق مواجهته عن طريق زيادة معدل مواليدها السنوي. وفي ما يتعلق بالخيار الأخير، تواصل الحكومة اليابانية مساعيها الرامية إلى زيادة عدد المواليد منذ أواخر القرن الماضي، ولكن من دون التوصل إلى نتائج مثمرة.

وقد كشفت استطلاعات رأي لنساء يابانيات، عن أن معظمهن يرغبن في إنجاب طفل ثان، إلاّ أنّهن يؤجلن هذه الرغبة أو يمتنعن عن تحقيقها، بسبب عدم مساعدة الأزواج لهن في الأعمال المنزلية، بما في ذلك تربية وتنشئة الأطفال.

ويُضاف إلى هذا النفور عاملٌ آخر يتمثل في الأدوار التقليدية بين الجنسين التي لم تتغيّر كثيراً منذ خمسينيات القرن الماضي. وقد أدّى كل ذلك إلى أن تصبح اليابان مكاناً منفّراً جداً، تمتنع فيه المرأة عن الإنجاب لتفاقم معدّلات المواليد المنخفضة، دوامة الموت الديموغرافي.

على الرغم من ذلك، استطاع رئيس وزراء اليابان تحقيق تقدم خجول في سبيل معالجة المشكلة الديموغرافية. فقد التحق أكثر من مليوني امرأة يابانية بالقوة العاملة خلال فترة ولايته، ما جعل معدل مشاركة الإناث في العمل تفوق نظيرتها في الولايات المتحدة.

وقد تحقق ذلك بفضل زيادة عدد دور حضانة الأطفال وجعلها مجانية. كما تلتحق اليوم أكثر من نصف اليابانيات بأماكن عملهن بعد إنجاب طفل، مقارنة بـ38 في المئة عام 2010. ويبدو أن شينزو آبي، من خلال سياسته المحافظة، يريد لبلاده أن تكون نموذجاً لمجتمعات الشيخوخة الأخرى التي باتت تتنشر في دول الرفاه الاقتصادي، كما كانت في السابق نموذجاً لدول النمور الاقتصادية منتصف القرن الماضي.

فهل تنجح اليابان من خلال ثورتها الهادئة في مواجهة شيخوختها أم تتحول جزرها إلى ما يشبه بيوت "أكييا"؟

المزيد من تحقيقات ومطولات