ملخص
من المتحف المصري الكبير إلى العاصمة الإدارية الجديدة إلى مشاريع أخرى تحمل مجرد أرقام، يتساءل البعض عمن يتولى ملف "التسمية" للمشروعات الرسمية في مصر، إذ تبدو الأسماء وكأنها تصف المشروع بأبسط عباراته الوظيفية، في حين لا يوجد اسم متفرد يعبر عن الهويات المتنوعة العامرة، إذ يبدو كل مشروع وكأنه مهمة أو ملف تعريفي لا أكثر
على مدار قرون طويلة خلّدت أسماء الشوارع والمدن والمشروعات في مصر وقائع وسيراً وحكايات مهمة في التاريخ، حتى الكباري والقناطر كانت تحمل أسماء ذات دلالة، بعضها متعلق بإنجازات عسكرية، وأخرى تمثل تكريماً لشخصية مؤثرة في المجتمع أو السياسة، والبعض كذلك كانت أسماؤه تعبّر عن هوية البلاد، سواء كانت بُعداً فرعونياً أو إسلامياً أو رومانياً، فأسماء الشوارع والمدن بمثابة نوع من الثقافة الشفهية التي تحمل تاريخاً مؤثراً، تجعل من الطبيعي أن يبحث المتعامل معها عن أصل التسمية، ليدرك الأهمية والمعنى، بالتالي يزيد من الارتباط بالروح القومية، وبالمجتمع أيضاً، سواء كان قرية أو مدينة، أو حتى مجرد شارع.
ولهذا رَسَخت في الذاكرة تعبيرات مثل "6 أكتوبر ـ العاشر من رمضان ـ مدينة نصر ـ العبور ـ السادات - المنتزه ـ سيدي بشر ـ 15 مايو ـ العصافرة ـ محطة الرمل"، وغيرها، لكن في السنوات الأخيرة تبدو كثير من أسماء المدن والمشروعات التي تنشأ حديثاً وكأنها أسماء ملفات تعريفية لا أكثر، أو أسماء وظيفية لا تحمل بعداً ثقافياً أو تاريخياً محدداً، وهدفها فقط أن تخاطب عقلية المستثمر أو المستهلك، الذي ما إن يعلم أن هذا المشروع العقاري مجرد امتداد "جديد" لمدينة جذب قائمة بالفعل سوف يلهث للشراء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا، تحوّلت غالبية المشروعات إلى نسخ من الأحياء المعروفة سلفاً مع إضافة كلمة "جديدة"، علاوة على قسم آخر جرى الاكتفاء بتسميته برقم ما، وهو أمر شديد الغرابة، فهل هذا كسل في اختيار الأسماء أو هو توجه ما؟ وما الفلسفة المتبعة في اختيار هذه الأسماء؟ لا سيما حينما تكون المشروعات ذات صبغة رسمية، فيما على الجانب الآخر تبدو المشروعات التجارية الضخمة والتجمعات السكانية التابعة لشركات خاصة وكأنها أصبحت جميعها ذات لكنة وألفاظ أجنبية تماماً، وكأن المخاطب أيضاً مستهلك يعيش في وطن آخر.
أرقام بدلاً من المعاني
قبل سنوات كان المصريون يتندرون بقوة على منطقة المعادي العريقة والراقية المنشأة مطلع القرن العشرين، وذلك لأن كثيراً من شوارعها يحمل أرقاماً مجرد أرقام، مثل "9 ـ 105 ـ 10"، إذ كانت تمثل لهم عقبة، لأن لا شيء مميزاً في الأرقام ولا تعلق في الذاكرة، إضافة إلى تشابه تخطيطها، لكن مع ذلك كانت هناك عديد من الشوارع الأخرى تحمل هوية سمعية أكثر تحديداً مثل "النصر ـ فلسطين ـ أحمد زكي ـ النهضة".
المفاجأة أن عدوى الأرقام الصماء غامضة الدلالة انتقلت إلى كثير من المشروعات العمرانية والأحياء السكنية الأكثر حداثة، فالشارع الأبرز في قلب التجمع الخامس اسمه شارع التسعين نسبة إلى عرضه البالغ تسعون متراً، فلم يُبذل أي مجهود في التسمية، في حين أن المنطقة بكاملها تابعة لإدارة القاهرة الجديدة، إذ إن "الجديدة" تتكرر بغزارة في كثير من الأماكن التي تعتبر جغرافياً امتداداً لأخرى قديمة تقع في نفس حيزها الإداري، ولهذا بات هناك المنصورة الجديدة ودمياط الجديدة والمنيا الجديدة وأكتوبر الجديدة، وغيرها من الجديدة.
في حين أن بعض تلك المناطق شديدة البعد بمقدار عشرات الكيلومترات، وهي وفقاً للمتخصصين كان من الأفضل أن تكون مستقلة إدارياً، لتخفيف الأعباء الإجرائية، بالتالي تكون لها هُويتها حتى في الاسم الذي يطلق عليها، لكن ما يغفله أصحاب هذا الرأي هو الجانب التسويقي المهم، وذلك وفقاً للمهندس أحمد شاهين، أستاذ تخطيط المدن، إذ يرى أن الأسماء من هذه النوعية، لها غرض محدد، وهي أنها "تستهدف بشكل مباشر وواضح المشتري الباحث عن أقرب مكان لمحافظة ما، لكنه يحمل مواصفات معينة قد تكون من بينها المساحة الأكبر، وسهولة السداد، ومستوى التنفيذ، وغيرها من المميزات، وهنا يأتي دور مسؤولية مشروعات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التي نفذت عديداً من المشروعات العمرانية المفترض أن تمثل امتداداً جغرافياً لمناطق مكتظة بالسكان".
ويتابع المهندس أحمد شاهين، "لهذا كان أسهل طريق هو أن يظل اسمها مرتبطاً بالمناطق الراسخة في الأذهان، التي تشهد إقبالاً كبيراً، لكنها لم تعد تستوعب، فما كان مهماً سوى إضافة كلمة جديدة لجذب الباحثين عن سكن، فهي مجرد مسميات وظيفية تحقق المرجو منها، ولا تعتمد على فلسفة ثقافية معينة في انتقائها".
هوس الامتدادات
البعض أيضاً يعتقد أن "العاصمة الإدارية الجديدة" التي باتت مقصداً للوظائف والفعاليات والسكن، كان من الأفضل أن يجري تنظيم مسابقة لاختيار اسم لها يحمل جذوراً تاريخية وثقافية ويعبر عن العمق المصري الممتد والمتنوع، وبينهم الدكتورة عالية المهدي، العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، التي لا تجد منطقاً لاعتبار أن هذه المدينة امتداد للعاصمة القاهرة بأي شكل من الأشكال، وهي التي تبعد عنها نحو 70 كيلومتراً. مشيرة إلى أنه كان يمكن التفكير في اعتماد أسماء أخرى ذات طابع تاريخي يعود إلى الدولة المصرية القديمة مثل "طيبة" على سبيل المثال.
كذلك أبدت أستاذة الاقتصاد دهشتها من الارتباك الشديد، الذي يصيب عملية إطلاق الأسماء، متسائلة: لماذا يُطلق مثلاً على مشروع المونوريل في السادس من أكتوبر بأنه مشروع غرب النيل، فالمقصود هنا محافظة الجيزة الأكثر عراقة بطبيعة الحال فهي منف، أقدم عاصمة لمصر، متسائلة أيضاً عن سبب اعتماد مسميات بها كلمة القاهرة في كثير من المشروعات بمحافظة الجيزة، وحول المتحف المصري الكبير الذي يقع في المحافظة ذاتها بجوار الأهرامات، وإن كان اسمه مناسباً أيضاً وليس "كسولاً" بعض الشيء، إذ إنه يحمل مجرد وصف لضخامته الكبير، ما يعني أنه قد لا يكون ملائماً إذا جرى إنشاء متحف أكبر وأكثر اتساعاً مستقبلاً، ولهذا فإن اسمه هذا قد يطلق عليه لقب "اسم مؤقت"، فلا أحد يمكن أن يصادر على مستقبل إنشاءات من هذا النوع.
ترى المهدي أن المتحف حالة مختلفة، لأنه كان مشروعاً قديماً اقترب العمل عليه من الثلاثة عقود مضت، وأن له أهمية ثقافية كبرى، وشديدة الأهمية بالنسبة إلى التراث الأثري المصري، وتوضح أن الاسم في الأساس باللغة الإنجليزية وهو Grand Egyptian Museum أي المتحف المصري العظيم، لكن ربما كان هناك استسهال في ترجمته إلى أقرب كلمة دارجة وسلسة ليتم استبدال العظيم بالكبير.
تسميات كسولة
كانت هناك أحاديث عن عدة مسابقات أعلن عنها لاختيار شعار للمتحف، وكذلك اسم وشعار هوية بصرية للعاصمة الجديدة باعتبارها مدينة مستدامة وذكية، وكذلك مسابقة لاختيار شعار مدينة العلمين الجديدة، لكن لم يتم الاهتمام باستعراض النتائج بصورة ملائمة، وفي ما يتعلق بمدينة العلمين الجديدة التي يروّج لها على أنها من مدن الجيل الرابع أيضاً، وأنشئت قبل سنوات قليلة كامتداد لمدينة العلمين التاريخية، فإن الأكاديمية عالية المهدي أستاذ الاقتصاد تشير إلى أنه كان الأجدر الاحتفاظ باسمها المعروف "العلمين" فقط وإجراء التطويرات والتوسعات بشكل طبيعي من دون اعتبارها مدينة منفصلة، بخاصة أن الجغرافيا والمساحة تحتم ذلك، معتبرة أن الأسماء التقليدية للمدن المصرية كانت أكثر تعبيراً واتساقاً، ولها دلالات وسياقات تاريخية وثقافية ومجتمعية أيضاً، مثل الإسكندرية، والمنصورة والبحيرة والشرقية والسويس وبنها.
وتشير المهدي إلى أنه حالياً تزحف الأرقام حتى لتسمية المناطق السكنية ولعل أبرزها الـ800 فدان، إذ إن هناك منطقة في مدينة بدر بالاسم نفسه، وأخرى في مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة، وعلى رغم أن الأخيرة تغيرت إلى زهراء أكتوبر الجديدة، لكن يظل الاسم القديم الذي يثير الاستغراب قائماً على الألسنة وحاضراً بقوة، نظراً إلى أنه متداول منذ سنوات، مثله مثل "الألف مسكن" التي بنيت منذ ستينيات القرن الماضي في منطقة عين شمس، حيث أطلق عليها هذا الاسم لتضمنها وقتها ألف بناية على شكل فيلا. وعلى ذكر الأرقام فمدينة حدائق أكتوبر، وهي التي تصنف من مدن الجيل الرابع الذكية، تشهد انتشاراً واسعاً لتعريف المناطق السكنية بعدد العمارات التي أنشئت على نحو 1185 عمارة، و247 عمارة، و266 عمارة، وعلى رغم أنه جرى تغييرها منذ أيام فإن تلك الأرقام حُفرت في الذاكرة، وتبقى زيارة واحدة لأماكن مواصلات تلك المناطق أو لإنهاء أية أوراق حكومية خاصة بتلك الأماكن كاشفة عن مدى ذلك الترسخ.
كثير من المحافظات والمدن المصرية أسماؤها مستمدة من العصور الفرعونية والقبطية واليونانية والإسلامية كذلك، ومنها إسنا وأسوان والفيوم، وهليوبوليس والمنوفية وبنها والفسطاط والقاهرة نفسها، جميعها أسماء لها معانٍ، وهي أسماء مرتبطة شديد الارتباط بالهوية، ولم تكن فقط تؤدي وظيفتها إنما تعبر عن مفهوم له أهميته وضرورته وارتباطه بكل بقعة من دون غيرها، فالتفاعل بين الإنسان والمكان الذي يسكن فيه لا يكون بصرياً أو وظيفياً فقط، إنما هناك تفاعل منطوق أصلاً، حيث يعبر الاسم عن الطابع الحياتي للسكان بشكل عام. يقول الباحث المغربي إدريس مقبول في كتابه "الإنسان والعمران واللسان ـ دراسة في تدهور أنساق في المدينة العربية" الصادر عام 2020، "يحتاج العمران إلى ثقافة، فكما أن هناك ثقافة للبناء، يمكننا الحديث عن بناء الثقافة، وهما وجهان لقيام وجود حضاري فاعل ومتميز في الحياة".
وعلى رغم موجة أسماء المدن التي تبدو استنساخاً لنظيرتها القائمة، مثل الإسماعيلية الجديدة، وسوهاج الجديدة وتوشكى الجديدة، هنالك أيضاً أسماء مشروعات كبيرة سواء سكنية أو استثمارية أو ثقافية تبدو معبرة مثل الجلالة والنهضة، وسكن مصر، وغيرها، في المقابل يتفنن المطورون العقاريون في اختيار أسماء متميزة لمشروعاتهم، لكن مع ذلك ترسّخ لشعور المواطن بالاغتراب، فغالبية من يسيطرون على سوق الرفاهية السكنية، يعتمدون أسماءً أجنبية تماماً، وتفشت الظاهرة بشكل يشير إلى أن لا لوائح توجهها. يرى باحث الدكتوراه بكلية الهندسة جامعة القاهرة، الأكاديمي أحمد شاهين أنه بالنظر إلى هذه السوق، فإن الهدف من هذا التوجه هو التمايز لا أكثر، حيث يسعى أصحاب هذه الإنشاءات، وفقاً لشاهين، لاستقطاب مشتر باحث عن الوجاهة، والاختلاف، فنوع المستهلك الذي يعتبر أن الأسماء الأجنبية علامة على الطبقة الأعلى هو من يجعل المطور العقاري يلجأ إلى هذا الأسلوب ليضمن رضاه.
هوية مستوردة
وهو نفس ما تراه أستاذة الاقتصاد علياء المهدي أيضاً، مشيرة إلى أن ربما ما يحرّك هذه الأمور ليس الفوضى بقدر ما هو "الجهل" بقيمة العودة إلى الجذور، سواء في الأسماء ذات الأصول العربية أو الفرعونية. مشيرة إلى أن أسماء المشروعات بشكل عام عادة تكون عبارة عن قرارات يجري اتخاذها من دون أن تستند إلى قوانين أو فلسفة بعينها، حيث تضرب المثل ببعض الدول الأوروبية الممنوع فيها تسمية أي مشروعات مهما كانت طبيعتها أسماء بغير لغة البلد، إلا في حالات نادرة للغاية.
وتتابع المهدي، "في حين تحوّلت التجمعات السكنية في المحافظات بمصر إلى مسابقة في اختيار الاسم الأجنبي الأكثر غرابة، بحثاً عن مشتر يحب التباهي، قبل البحث عن منطقة جيدة ملائمة لحاجاته، وهو الأمر الذي يزداد وضوحاً في قرى الساحل الشمالي الحديثة، في حين تبدو القرى القديمة حتى لو حمل بعضها أسماء أجنبية ولكنها لها أسبابها".
لكن الحقيقة أن الأمر في مصر طاول حتى الشبكات الإعلامية، حيث قامت الدنيا قبل أيام قليلة بسبب خروج أحاديث عن اتجاه الهيئة الوطنية للإعلام لتغيير اسم "قناة النيل الدولية" لتصبح Egypt News Network (ENN)، أي "شبكة أخبار مصر"، وذلك بعد عقود من ارتباطها في ذاكرة الجمهور في الداخل والخارج، بـ"قناة النيل الدولية"، "نايل تي في إنترناشونال"، وبعد أيام من الجدل والغضب الذي جرى التعبير عنه من قبل متخصصين، جرى التراجع عن القرار، بخاصة أن هذا الاسم المختصر يطابق قناة إثيوبية كانت تبث في فترات من الفترات.
اللافت أن البعد من الهوية في شِق قنوات التلفزيون الرسمي المصري أصبح أمراً مقلقاً للمتابعين منذ تولي أحمد المسلماني رئاسة الهيئة الوطنية للإعلام، إذ خرج قبل تسعة أشهر ليدافع عن اتجاه المؤسسة لتغيير أسماء قنوات النيل لتصبح قنوات "موليوود" على غرار "هوليوود" و"بوليوود" والتخلي عن اسم النيل الذي صاغ هوية تلك الشبكة لسنوات وسنوات، لكنه أيضاً تراجع تحت ضغط السوشيال ميديا، لكن الأمر يبدو أعمق من قرارات عابرة يجري التراجع عنها سريعاً، إذ يصبّ في المسار نفسه المتعلق بغياب واضح لمفهوم التسميات في الفترة الأخيرة، لا سيما المتعلقة بالمؤسسات ذات الصبغة الرسمية.