الاسمان متشابهان، والهدفان أيضاً... عملية "نبع السلام" التركية في شمال سوريا، وعملية "سلامة الجليل" الإسرائيلية في جنوب لبنان. الأولى تجري حالياً على قدم وساق لإقامة منطقة أمنية عازلة على حدود تركيا الجنوبية، بينما استهدفت الثانية إنشاء منطقة أمنية عازلة على حدود إسرائيل الشمالية. وكيفما تشابهت التسميات والأهداف، ستتماثل النتائج على ما يبدو، فمثلما أخفقت إسرائيل بعد 18 عاماً من احتلال الشريط الحدودي في جنوب لبنان، تؤكد جميع المقدمات بحسب تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، أن الغزو التركي لشمال سوريا سيلقى المصير نفسه وبشكل أسرع.
أعادت العملية العسكرية التركية، في شمال شرقي سوريا، إلى الذاكرة الاجتياح العسكري الإسرائيلي للبنان عام 1982 بهدف مفترض هو تحقيق السلام عبر إنشاء منطقة أمنية عازلة شمال إسرائيل، لكن الحرب الإسرائيلية في لبنان أسفرت عن آلاف القتلى والمصابين، وتسببت في ظهور جماعات متشددة مثل حزب الله بدعم خارجي إيراني، وأدت إلى احتلال الشريط الجنوبي من لبنان لمدة 18 عاماً، ولم تنته إلا بعد حرب طويلة ومريرة ومكلفة.
ويدعو آشر كوفمان، مدير معهد كروك لدراسات السلام الدولي في جامعة نوتردام وهي جامعة بحثية بولاية إنديانا الأميركية، في تقرير مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، تركيا إلى وعي الدرس الذي تلقته إسرائيل، وتدرك عواقب مغامرتها الخطرة في حربها الجارية الآن في شمال سوريا.
فشل غزو لبنان
بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1978 بعد سنوات قليلة من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975) بهدف خلق منطقة أمنية عازلة في الشريط الجنوبي من لبنان في محاولة لإبعاد المسلحين الفلسطينيين عن الحدود، بعدما استخدموا هذه المنطقة منصة لعملياتهم العسكرية ضد إسرائيل. وكان من ضمن أهداف العملية الإسرائيلية الواسعة، إخراج القوات السورية من لبنان، بل تأسيس حكومة موالية لإسرائيل في بيروت.
نجح الغزو الإسرائيلي في إخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، لكن جميع الأهداف الإسرائيلية الأخرى من العملية أخفقت، وانتهى الأمر إلى توسيع وتعزيز الشريط الأمني في جنوب لبنان وتشكيل ميليشيات محلية أطلقت عليها إسرائيل اسم "جيش لبنان الجنوبي"، وبعد ذلك ظلت إسرائيل على مدى 18 عاماً متواصلة تدافع عن هذه المنطقة الأمنية التي كانت من المفترض مبدئياً أن تحمي إسرائيل من الهجمات الفلسطينية. لكن كل هذه الحملة ذهبت هباء، ولم يشعر الإسرائيليون بأي تغيير.
عبء الشريط الحدودي
في غياب سلطة إدارة ذاتية في الشريط الحدودي، وجدت السلطات الإسرائيلية نفسها مسؤولة عن توفير الخدمات للسكان المحليين وتسهيل سبل الحياة المعيشية والاقتصادية وتوفير الوظائف وصيانة البنية التحتية. وهي أمور لم تكن في حسبان القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. ما أدى إلى استنزاف الاقتصاد الإسرائيلي فضلاً عن التكاليف العسكرية الأخرى.
إضافة إلى ذلك، كان للغزو الإسرائيلي تأثير سلبي على الموقف الدولي من إسرائيل بسبب العنف المفرط الذي استخدمته القوات الإسرائيلية وأدى إلى مقتل وجرح آلاف المدنيين، فضلاً عن مذبحة صبرا وشاتيلا ضد اللاجئين الفلسطينيين التي ارتكبتها ميليشيات لبنانية موالية لإسرائيل بتسهيل ومشاركة إسرائيليين. ما سبب ضرراً كبيراً في النهاية لصورة إسرائيل، ودَعَم التأييد الدولي لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وأشعل للمرة الأولى مواجهات وانتقادات علنية بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية.
كانت النهاية المحتومة للمغامرة الإسرائيلية أن خرجت إسرائيل من لبنان في مايو (أيار) عام 2000 واستخدم حزب الله هذا النصر لتدعيم نفوذه في لبنان، وفي غياب الدعم الإسرائيلي تم حل جيش لبنان الجنوبي، وفر الآلاف من جنوده مع عائلاتهم خشية الانتقام منهم بسبب تعاونهم مع "العدو الصهيوني".
دروس لتركيا
ووفق المجلة الأميركية، تُمثل التجربة الإسرائيلية في لبنان درساً لتركيا، خصوصاً ما يتعلق باستخدام الدول ذرائع إنسانية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، ففي حالة إسرائيل ولبنان، برر المسؤولون الإسرائيليون الغزو بتقديم مساعدات إلى المسيحيين الذين تم تصويرهم باعتبارهم أقلية مضطهدة في دولة ذات غالبية مسلمة، غير أن هذا الخطاب كشف عن نوايا إسرائيل الحقيقية التي تركزت عام 1982 على طموحاتها بالهيمنة عبر إحداث تحول في الشرق الأوسط من خلال القضاء على النفوذ الإقليمي لسوريا بإنشاء حكومة موالية لإسرائيل في بيروت ونقل الفلسطينيين إلى الأردن ليشكلوا دولة فلسطينية واهنة على أطلال المملكة الأردنية، وهكذا ستكون إسرائيل هي الدولة المسيطرة والمهيمنة في المنطقة، بحسب من خططوا لشن الغزو الإسرائيلي على لبنان.
تركيا أيضاً رتبت لإنشاء منطقة أمنية عازلة في شمال سوريا تحت ذرائع النوايا الإنسانية، فعلى الرغم من وضوح تركيا في اعتزامها تدمير المشروع الناجح للحكم الذاتي الكردي في "روجآفا"- بحسب التسمية الكردية في شمال سوريا- فإن أنقرة تدعي أن هدف عملياتها العسكرية هو إعادة توطين اللاجئين السوريين المقيمين حالياً داخل أراضيها في شمال سوريا، بما في ذلك إخراج الأكراد السوريين من المنطقة الأمنية العازلة التي تسعى لجعلها خالية مما تسميه "الإرهابيين المحتملين".
ويستهدف الغزو التركي نقل رسائل رادعة للأكراد داخل تركيا، وربط ذلك بالقومية التركية التي يروج لها الرئيس رجب طيب أردوغان لأكثر من عشر سنوات، ويجدد فيها فكرة أن تركيا هي حامي الإسلام السُني، ويعكس الطموحات الإقليمية التركية نحو الشرق حيث الأراضي التي سيطرت عليها الإمبراطورية العثمانية في الماضي.
المنطقة الآمنة بلا أمن
وتشير المجلة السياسية الأميركية إلى أن الذرائع الإنسانية التركية في شمال شرقي سوريا سوف تفشل، فحتى لو تمت بنجاح إعادة توطين اللاجئين السوريين، وهو أمر يصعب تخيله، فسيتحول هؤلاء إلى لاجئين محليين داخل بلدهم لأن غالبيتهم لا ينتمون إلى هذه المنطقة من سوريا. وليس من الواضح بعد، إذا ما كانت رؤية أردوغان تتمثل في إعادة توطينهم في قرى هجرها الأكراد أم إنه سيشيد لهم مخيمات لاجئين، وإذا ما كان نظام الرئيس السوري بشار الأسد سيقبل بهم داخل المنطقة الآمنة أم إنه سوف يستهدفهم باعتبارهم أعداءً محتملين، كما أنه ليس من الواضح كيف سيكون بوسع هؤلاء اللاجئين دعم وإعاشة أنفسهم داخل المنطقة الآمنة.
وتضيف المجلة أن الحملة العسكرية التركية الجارية الآن هي ضمانة لعدم الأمن، ذلك أن هذه الأراضي ستكون ساحة أخرى من ساحات العنف المفرط الذي اتسمت به الحرب السورية، بل إن الحقيقة تتجلى في أن الأزمة الإنسانية بدأت تظهر الآن مع موجات من اللاجئين الجدد الذين يفرون من المنطقة.
طموحات تركيا وعواقبها
ومثلما فعل الغزو الإسرائيلي في لبنان، تعتزم تركيا إنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا كوسيلة لتحقيق طموحات أخرى، وإن نجحت في ذلك فسيكون لتركيا الحق في الدخول إلى الأراضي السورية بما يُمكنها من لعب دور فاعل في تشكيل شرق أوسط جديد يخرج الآن من تحت رماد الحرب السورية. ومع خروج الولايات المتحدة بشكل كبير من سوريا، سيكون لكل من روسيا وإيران الدور الأكبر في المستقبل وسترغب تركيا في أن يكون لها يد في هذه العملية.
ربما تخاطر تركيا بعلاقاتها القديمة مع الولايات المتحدة التي شهدت توترات حتى قبل الغزو التركي لشمال سوريا، ولكن أنقرة كسبت شريكاً روسياً يلعب لمصلحتها الآن، مع ذلك فقد تجد تركيا نفسها- كما فعلت إسرائيل في لبنان- أنها بالغت في توريط نفسها، فمع تلاشي التهديد الأمني ضدها من الأكراد السوريين، ستكون مضطرة إلى التعامل مع النظام السوري في دمشق الذي تمقته، وتقبل بالدولة السورية المدعومة من روسيا وإيران، وتتعايش مع ضياع أحلامها العثمانية.
أخطار الميليشيات المحلية
ومثلما اعتمدت إسرائيل على ميليشيات محلية هي جيش لبنان الجنوبي ليقوم بمهمات قمع التمرد بعد انتهاء الغزو مقابل عطايا ومكافآت سخية، قبل أن تتحمل إسرائيل عبء أزمة إنسانية بسبب هروب عناصر وعائلات هذه الميليشيات لإسرائيل خلال مايو (أيار) 2000، فإن أنقرة تدعم حالياً ميليشيات عربية سُنية في حملتها ضد الأكراد، بل إن تقارير عدة أشارت إلى أن هذه الميليشيات التي تمولها وتدربها تركيا تشكل غالبية الهجوم البري ضد الأكراد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحذر التقرير الأميركي من أن تحول هذه الميليشيات إلى أذرع للجيش التركي على أرض الواقع، قد تدفع تركيا ثمناً باهظاً له، لأن هذه الميليشيات تحركها دوافع كراهيتها للأكراد كما تحركها الحوافز المالية التركية، ولكن لا تحركها في كل الأحوال المصالح الاستراتيجية التركية، فعندما تنسحب تركيا من المنطقة الآمنة لاحقاً، تعجل بأزمة إنسانية أخرى، وقد تجد الميليشيات السنية العربية نفسها وسط محيط محلي عدائي، وربما تواجه نظام معادِ لها من دمشق، وقد تهرب هذه الميليشيات إلى تركيا خشية الانتقام منهم في سوريا مثلما هرب جيش لبنان الجنوبي إلى إسرائيل، وهو ما يعد درساً لتركيا اليوم.
أسئلة بلا إجابات
وفي ظل النهايات المفتوحة، أصبح من الطبيعي التساؤل عن المدى الزمني الذي يمكن أن يستمر فيه التحالف بين الميليشيات العربية وتركيا، وهل سيكون عداؤهما المشترك حيال الطموحات السياسية الكردية كافياً لاستمرار هذا التحالف، أم أن الأمر قد يرتد ضد تركيا إذا ما توصلت الميليشيات العربية إلى اتفاق مع نظام الأسد، وهل يمكن أن تبادر أنقرة إلى التخلي عن الميليشيات العربية إذا ما توافر لديها تحالف أكثر فائدة لأهدافها الاستراتيجية، وفي أي نقطة سيطلب من الجنود الأتراك حماية المنطقة الأمنية بأنفسهم وبقواتهم البرية في شمال سوريا؟ وهل ستكون تركيا مستعدة لدفع ثمن ذلك؟
الأبعاد الدولية ضد أنقرة
تؤكد المجلة الأميركية أن الأبعاد الدولية للعملية التركية في شمال سوريا لا تعمل لمصلحة أنقرة، لأن تركيا لن تتمتع بمستوى الدعم الدولي الذي استفادت منه إسرائيل بين عامي 1982 و2000، فعلى مدى 18 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، أثبتت العلاقات الأميركية- الإسرائيلية قدرتها على الاستمرار والليونة. وعلى الرغم من انتقادات إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان للغزو الإسرائيلي عام 1982 واستمرار المطالبات الأميركية باستعادة سيادة لبنان واستقلاله، إلا أن إسرائيل حافظت على دعم أميركي كامل طوال سنوات احتلالها لجنوب لبنان، وفي النهاية لم يكن قرار الانسحاب من الجنوب عام 2000 نتيجة ضغط دولي وإنما نتيجة ضغوط من المجتمع الإسرائيلي الذي اكتشف أنه احتلال بلا هدف.
في المقابل، فإن تركيا تفتقر إلى الدعم الدولي وتعتمد حالياً على الدعم الروسي لتحقيق أهدافها، لكن العلاقات التركية - الروسية ليست سوى تعاون تكتيكي قد يتغير إذا ما وجدت موسكو أنها تخاطر بمصالحها الاستراتيجية في سوريا، ومن غير المحتمل أن تكون تركيا قادرة على الاستمرار في احتلال شمال شرقي سوريا إذا ما اختل تعاونها مع روسيا أو سار في الاتجاه الخطأ.
وبينما يبدو أن الحكومة في أنقرة تستعد للبقاء طويلاً في شمال سوريا، ينبغي عليها أن تأخذ النموذج الإسرائيلي في جنوب لبنان في الاعتبار وتستفيد من دروس التاريخ، خصوصاً أن الجهود الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي ستبذل والأموال التي ستنفق، من المرجح أن تكون بلا طائل مع توقعات باندلاع مقاومة مسلحة في المنطقة قد تشعل توترات طائفية وعرقية على جانبي الحدود.