ملخص
في حين يخصص النظام الإيراني سنوياً عشرات مليارات الدولارات للبرامج الصاروخية والطائرات المسيّرة ودعم الجماعات والميليشيات والاقتصاد المقاوم، يبقى نصيب تحديث قطاعات الطاقة والنقل العام والمصافي والبنية التحتية الحيوية ضئيلاً، وغير مؤثر عملياً، ولا مؤشرات على تغيير في الأولويات السياسية أو العسكرية التي يعتمدها المرشد الإيراني.
في الأسبوعين الماضيين، شهدت طهران وعدد من المدن الكبرى والصناعية في إيران أحد أكثر أيامها تلوثاً خلال الأعوام الأخيرة، على رغم الهطولات المطرية المتقطعة، إذ وصلت مؤشرات جودة الهواء في العاصمة إلى مستويات شديدة التلوث وخطرة، تزامناً مع ارتفاع ملحوظ في معدلات الوفيات وتعطيل واسع للمراكز التعليمية وتحذيرات متواصلة من الخبراء.
وصباح اليوم الأربعاء الموافق في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، سجل متوسط مؤشر جودة الهواء في طهران 164 نقطة، مما يعني هواء غير صحي للجميع، ويضع العاصمة في اللون الأحمر لليوم الـ18 على التوالي. وفي بعض المناطق المركزية، تجاوزت القراءات حاجز 200 نقطة ودخلت نطاق اللون البنفسجي الذي يشير إلى تلوث شديد الخطورة يؤثر سلباً في جميع الفئات العمرية.
والأوضاع في شرق محافظة طهران وغربها بدورها مقلقة، فقد سجلت مدينة ملارد مؤشر 155، وبهارستان 179، وإسلامشهر 185، وبيشوا 163، وجميعها تقع ضمن الوضع الأحمر، وجاءت منطقة رامين في مدينة شهريار عند 196 نقطة، لتكون من بين أكثر المناطق تلوثاً في محيط العاصمة طهران خلال اليوم ذاته.
ارتفاع غير مسبوق في حالات الوفاة
تزامناً مع تفاقم تلوث الهواء، شهدت طهران زيادة لافتة في عدد الوفيات، فأعلن رئيس لجنة السلامة في مجلس بلدية طهران مهدي بابائي أن متوسط الوفيات اليومية وفق بيانات منظومة "بهشت زهراء" ارتفع من 180 إلى 220 حالة يومياً، مما يعني زيادة بنسبة 20 في المئة خلال أسابيع قليلة، ويعكس وفاة نحو 40 شخصاً يومياً في العاصمة بسبب التلوث.
وتأتي هذه الزيادة بينما تشهد طهران ومحافظات عدة أخرى ذروة انتشار الإنفلونزا الموسمية. وبحسب وزارة الصحة، فإن أعلى معدل إصابات سجل ضمن الفئة العمرية ما بين خمس و14 سنة، فيما وصفت معدلات العدوى في محافظات مثل طهران وخراسان رضوي وزاهدان وقزوين وأصفهان وهمدان بأنها مقلقة.
وأعلن نائب محافظ سمنان اليوم اعتماد التعليم عن بعد في جميع الجامعات ومؤسسات التعليم العالي بالمحافظة حتى نهاية الأسبوع، فيما تتخذ محافظات أخرى قرارات مماثلة وفقاً للظروف المحلية.
في السياق ذاته، حذر القائم بأعمال مساعد الشؤون الاجتماعية في منظمة نقل الدم الإيرانية بابك يكتابرست من وصول مخزون الدم في بعض المحافظات إلى مستوى حرج، مشيراً إلى أن الإقبال على التبرع تراجع في محافظات مثل طهران بسبب تلوث الهواء، بالتالي لا تكفي احتياطات الدم في العاصمة سوى لـثلاثة أيام ونصف تقريباً.
ويؤدي التعرض للهواء الملوث إلى مضاعفات فورية، من بينها الإرهاق والشعور الدائم بالوهن نتيجة استنشاق أول أكسيد الكربون، إضافة إلى تهيج العينين والحنجرة وآلام في الصدر.
توقعات باستمرار التلوث حتى الإثنين المقبل
وأفادت هيئة الأرصاد الجوية الإيرانية بأن استقرار الكتلة الهوائية وضعف الرياح وتراكم الجسيمات العالقة، خصوصاً الجزيئات التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرون، ستبقي أجواء طهران وعشرات المدن الأخرى غير صحية وملوثة في الأقل حتى يوم الإثنين المقبل، مع توقع أن تتأثر المناطق الوسطى والجنوبية من العاصمة على نحو أكبر.
وفي مقطع فيديو أرسل إلى صحيفة "اندبندنت فارسية"، قال مصوره إن مستوى التلوث في منطقة تقاطع أفسرية في العاصمة طهران اليوم كان مرتفعاً إلى حد جعل المصانع القريبة على بعد نحو 100 متر شبه غير مرئية، وانتقد كذلك قرار الحكومة بزيادة أسعار بنزين البتروكيماويات، وهو الوقود الذي يعد من أبرز العوامل المسهمة في تفاقم الأزمة الحالية.
ما لا يقل عن 20 مليار دولار خسائر سنوية
وتمثل الأبعاد الاقتصادية لأزمة التلوث مصدر قلق كبير، فأعلن رئيس مركز أبحاث تلوث الهواء في جامعة طهران صادق خسوند أن التلوث تسبب العام الماضي في خسائر اقتصادية بقيمة 20 مليار دولار، تقديراً للكلفة الناجمة عن علاج الأمراض وتعطيل الدوائر والغياب عن العمل وتراجع جودة الحياة وانخفاض الأداء الدراسي لملايين الطلاب.
في المقابل، يرى الخبير في اقتصاد التنمية ناصر ذاكري أن هذا الرقم أقل بكثير من الواقع، وأشار إلى أن الحسابات الدقيقة ستظهر أرقاماً أكبر بكثير، وعلق على تعامل السلطات مع الأزمة بالقول إن "هذه الأزمة تشبه مريضاً يحتاج إلى جراحة، لكن المسؤولين يعالجونه سنوياً بالزرق أو الحجامة".
احتراق المازوت في المدن الكبرى
أحد أهم العوامل التي أسهمت في زيادة التلوث خلال الأعوام الأخيرة العودة الواسعة لمحطات الطاقة لاستخدام المازوت، إذ أعلن عضو لجنة الصحة في البرلمان الإيراني محمد جماليان أن حرق المازوت هذا العام بدأ ليس فقط في الشتاء، بل منذ مارس (آذار) الماضي، على خلاف الأعوام السابقة. ووصف هذا الإجراء بأنه كارثي، مؤكداً أن أياً من الالتزامات القانونية مثل إحلال السيارات القديمة وتعزيز النقل العام، أو تحسين جودة الوقود، لم ينفذ.
ووصف جمالیان منظمة البيئة بأنها أضعف وأقل الأجهزة الحكومية اهتماماً، محذراً أنه إذا ما استمر هذا النهج، ستكون الأيام المقبلة أكثر صعوبة.
مسؤولو النظام... نحرق المازوت لأننا مضطرون!
وتشير وسائل الإعلام الإيرانية إلى أن أربع محطات توليد كهرباء كبرى في إيران هي رجائي في قزوين ومنتظري في أصفهان وشازند في أراك ومنتظر قائم في كرج، لم تتوقف عن حرق المازوت على مدى العام الماضي، في حين بدأت 11 محطة أخرى بحرق المازوت منذ مطلع فصل الخريف.
وفي هذا السياق، قال وزير الطاقة في حكومة الرئيس بزشکیان عباس علي آبادي، "لا نرغب في استخدام المازوت، لكننا مضطرون. إذا انخفضت درجات الحرارة ونقص الغاز، لا يمكننا فعل شيء".
ويأتي استمرار هذه الظروف في وقت أعلن نائب وزير الصحة علي رضا رئيسي الخميس الماضي، أن السيارات المحلية الجديدة كارثة، إذ تلوث الهواء كما تفعل السيارات القديمة، فضلاً عن أن جودة البنزين مقلقة للغاية. وأشار رئيسي إلى البنزين البتروكيماوي أو الريفرمات، وهو وقود يحوي نسبة بنزين أعلى بكثير من الحد المسموح به، وأُنتج ووزع في إيران لأعوام، مع تأثير مباشر في زيادة حالات الإصابة بأنواع مختلفة من سرطان الدم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأدى قدم المحطات ونقص الاستثمارات في الطاقة النظيفة وقطاع النقل العام في إيران إلى تفاقم مشكلة تلوث الهواء بصورة مستمرة كل عام.
الأزمة مستمرة في ظل فشل السياسات
وفي وقت يتنفس سكان طهران وعشرات المدن الإيرانية هواء سمياً وخطراً، يواصل مسؤولو النظام الإيراني الاكتفاء بسياسات قصيرة المدى وذات أثر محدود مثل الإغلاق الموقت وتنظيم حركة السيارات بنظام الأيام الزوجية والفردية وتقديم التوصيات الطبية من دون أي تخطيط طويل الأمد، بينما يؤكد الخبراء صراحة أن جذور الأزمة ليست في سلوكيات المواطنين وحسب، بل في سوء السياسات ونقص الشفافية والأولويات الخاطئة للحكومة.
ويشير الباحثون إلى أن استمرار الوضع الحالي لن يقتصر أثره على عام 2025، بل سيؤدي إلى تراجع الصحة العامة وزيادة الأمراض المزمنة وتعميق الأزمات الاقتصادية في الأعوام المقبلة.
ومع ذلك، لا توجد أية مؤشرات على تغيير في الأولويات السياسية أو العسكرية التي يعتمدها المرشد الإيراني، في حين يخصص النظام سنوياً عشرات مليارات الدولارات للبرامج الصاروخية والطائرات المسيّرة ودعم الجماعات والميليشيات والاقتصاد المقاوم، بينما يبقى نصيب تحديث قطاعات الطاقة والنقل العام والمصافي والبنية التحتية الحيوية في إيران ضئيلاً، وغير مؤثر عملياً.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"