ملخص
الهجمات الروسية بالمسيرات على خيرسون تزرع الرعب بين المدنيين، مستهدفة الأشخاص والمركبات والحيوانات، مما أدى إلى مئات القتلى وآلاف الجرحى وتدمير آلاف المنازل، في انتهاكات وصفتها الأمم المتحدة بجرائم ضد الإنسانية، فيما يواصل السكان الصمود على رغم الخطر المستمر.
عندما تغادر أولينا هورلوفا منزلها أو تقود سيارتها في أرجاء بلدتها الواقعة شرق مدينة خيرسون الأوكرانية، يساورها خوف دائم من أن تستهدف. فبرأيها، قد تكون المسيرات الروسية تترصدها من فوق أحد أسطح المباني على جانب الطريق، أو ربما تستعد لمهاجمة سيارتها.
ولحماية ابنتيها، تبقيهما في الداخل وتظل في حالة تأهب. وفي بعض الليالي، تعود إلى منزلها عبر طرقات مظلمة من دون تشغيل أنوار سيارتها كي لا يراها أحد.
بعدما عاشت تجربة الاحتلال ورفضت التعاون مع القوات الروسية واختبأت منها، اكتشفت هورلوفا، مثل كثير من السكان، أن المعاناة لم تنته حتى بعد تحرير بلدتها عام 2022.
كانت خيرسون من أولى المناطق التي استخدمت فيها القوات الروسية مسيرات قصيرة المدى من نوع الرؤية المباشرة FPV ضد المدنيين. وهي مسيرات مزودة بكاميرات تبث صوراً مباشرة تتيح لمشغليها رؤية أهدافهم واستهدافها فوراً، في تكتيك سرعان ما انتشر على امتداد أكثر من 300 كيلومتر على الضفة اليمنى لنهر دنيبرو، وفي مناطق دنيبروبتروفسك وخيرسون وميكولايف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وضمن هذا السياق، أعلنت "لجنة الأمم المتحدة الدولية المستقلة للتحقيق في شأن أوكرانيا" أن طبيعة الهجمات لا تترك مجالاً للشك في النية الكامنة وراءها. وخلص تقرير أصدرته خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023 إلى أن هذه الهجمات أسفرت مراراً عن مقتل وجرح مدنيين، وتدمير منازل وإجبار آلاف السكان على الفرار، ورأى أن هذه الوقائع ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية تشمل القتل والتهجير القسري.
وقالت هورلوفا بصوت مرتجف "نعيش على أمل أن يتوقف ذلك في نهاية المطاف". وأضافت "ما يعنينا هو وقف إطلاق النار، أو في الأقل إبعاد الجبهة الأمامية عنا، لأن ذلك سيسهل علينا الحياة".
اقتناص كل من بقي على قيد الحياة
تعيش هورلوفا في بلدة كوميشاني على مشارف خيرسون، على بعد أربعة كيلومترات فقط من نهر دنيبرو، حيث تستمر الهجمات العنيفة على رغم استعادة الجيش الأوكراني للمدينة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بعد تسعة أشهر من الغزو الروسي الشامل.
لكن الحرب لم تنته حينها، بل دخلت مرحلة جديدة تحولت فيها المنطقة فعلياً إلى ما يسميه السكان المحليون والجنود "السفاري البشري"، أي ما يشبه حقل تجارب تصبح فيه أجساد الناس أهدافاً لمسيرات الهجوم.
وتقول هورلوفا إن مسيرات الرؤية المباشرة تهبط أحياناً على الأسطح عندما تفرغ بطارياتها، وتبقى في وضع ترقب.
وتضيف "عندما يظهر أشخاص أو سيارات أو حتى راكب دراجة، تنطلق المسيرة فجأة وتلقي قنبلتها. ووصل بهم الأمر إلى استهداف الحيوانات أيضاً، من أبقار وماعز".
وترى أن استهداف المدنيين يجري "انتقاماً" من الاحتفالات التي عمت عقب تحرير خيرسون.
وذكر تقرير "لجنة الأمم المتحدة الدولية المستقلة للتحقيق في شأن أوكرانيا" أن هذه الهجمات تبث الرعب بين المدنيين، وتنتهك حقهم في الحياة وسائر حقوقهم الأساس. وحدد المحققون وحدات روسية متمركزة على الضفة اليسرى المحتلة للنهر باعتبارها الجهات التي نفذت هجمات المسيرات ورصدت وحدات تشغيلها وقادتها. وأشاروا إلى أن قنوات روسية على "تيليغرام" تنشر باستمرار مقاطع للهجمات مرفقة بتعليقات ساخرة وتهديدات بتكثيف الضربات.
وأضافت اللجنة أنها درست المزاعم الروسية بأن القوات الأوكرانية شنت هجمات مسيرات على المدنيين داخل المناطق المحتلة، لكنها لم تتمكن من التوصل إلى نتيجة نهائية بسبب عدم حصولها على إذن بدخول المنطقة، وعجزها عن ضمان سلامة الشهود، وعدم تلقيها أي رد من السلطات الروسية.
القبة الخفية
حصلت وكالة "أسوشيتد برس" على تقارير رصد من "الكتيبة البحرية المستقلة للحرب الإلكترونية رقم 310" تظهر مسيرات روسية من طراز الرؤية المباشرة تبدو وكأنها تتعقب مركبات. وتظهر المقاطع مسيرات تحلق على علو منخفض فوق الطرقات وتطارد سيارات متحركة أو متوقفة، غالباً شاحنات بيك-أب أو مركبات إمدادات أو سيارات ركاب عادية وحتى سيارات إسعاف تحمل الشارة بوضوح، قبل أن تنقض عليها.
قائد الكتيبة 310 دميترو لياشوك المسؤول عن حماية الأجواء فوق 470 كيلومتراً من جنوب أوكرانيا بما فيها خيرسون، يقول إن 300 مسيرة روسية في الأقل تتجه يومياً نحو خيرسون. وخلال أكتوبر الماضي وحده، حلق فوق المدينة ما يقارب 9000 مسيرة.
ويضيف لياشوك، وهو من الرواد الأوائل في مجال الحروب الإلكترونية: "تحولت المنطقة إلى فسحة تدريبية، حيث ترسل فرق روسية جديدة لاكتساب الخبرة قبل نقلها إلى جبهات أخرى". ولم تتمكن وكالة "أسوشيتد برس" من التحقق من هذه المزاعم.
ويقول إن قواته تحيد أكثر من 90 في المئة من المسيرات على رغم كثافتها، مع الإشارة إلى أن هذه الأرقام لا تشمل الأسلحة الأخرى كالمدفعيات والقنابل الانزلاقية.
ويفيد مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بأن هجمات المسيرات القصيرة المدى أصبحت السبب الرئيس لإصابات المدنيين على الجبهة الأمامية. وتشير السلطات المحلية إلى مقتل أكثر من 200 مدني وإصابة أكثر من 2000 آخرين منذ يوليو (تموز) 2024 داخل المناطق الجنوبية الثلاث، إضافة إلى تضرر أو تدمير نحو 3000 منزل. وتوضح أن معظم الضحايا من الرجال.
وفي زيارة مفاجئة إلى خيرسون خلال نوفمبر الجاري، وصفت أنجلينا جولي التهديد الدائم القادم من السماء بأنه "حضور خانق".
وكتبت على "إنستغرام": "في إحدى اللحظات، كان علينا التوقف والانتظار حتى تعبر مسيرة فوق رؤوسنا"، مضيفة "كنت أرتدي معدات واقية ولم أعش هذا الواقع سوى يومين، أما العائلات هنا فتعيشه كل يوم".
اقتناص البشر
في أحد أهم مستشفيات خيرسون التي تستقبل ضحايا المسيرات، تتعافى ناتاليا ناوموفا البالغة 70 سنة، بعد إصابتها في غارة نفذتها مسيرة "شاهد" تحمل قنابل أثقل من تلك المستخدمة في مسيرات الرؤية المباشرة، وأُصيبت في ساقها اليسرى خلال الـ20 من أكتوبر الماضي.
وتروي أن الغارة وقعت ليلاً بينما كانت تحتمي موقتاً في مدرسة ببلدة إنجينيرني بانتظار حافلة إجلاء كان يفترض أن تصل صباح اليوم التالي.
وتضيف أنها نادراً ما كانت تغادر منزلها حتى بعد تحطم نوافذه وتدعيمها بالألواح. وتقول: "الناس هناك يحاولون البقاء أحياء، ولا يعيشون فعلياً. لم يخطر لي يوماً أن مأساة كهذه ستصيبني".
أما الدكتور يفهين هاران نائب رئيس الشؤون الطبية في المستشفى فيوضح أن إصابات ضحايا المسيرات تراوح ما بين بتر الأعضاء والإصابات القاتلة.
ويقول: "إنه اقتناص للبشر، ولا تسمية أخرى له".
ويؤكد أن الجرحى جراء الهجمات الروسية، بما في ذلك غارات المسيرات، يصلون يومياً إلى المستشفى. وخلال الشهر الماضي وحده، استقبل المستشفى 85 مريضاً داخلياً و105 جرحى في العيادات الخارجية جراء الانفجارات، وكلهم ضحايا للقصف أو للمسيرات. ويعد هذا المستشفى المرفق الوحيد القادر على معالجة الحالات الخطرة في المنطقة.
هاران نفسه تعرض لهجوم مسيرة من طراز الرؤية المباشرة خلال الـ26 من أغسطس (آب) الماضي، بينما كان يقود سيارته من ميكولايف برفقة زوجته. وأوقفهما المنقذون على الطريق السريع محذرين من تحليق مسيرة.
ويقول: "أوقفت سيارتي خلفهم. كانت المسيرة تدور في الجو، ثم اتجهت في تحليقها التالي مباشرة نحو سيارتهم، نحو باب السائق". اخترقت الشظايا مقدمة السيارة، فيما نجا هو لوجوده خلف سيارة الإنقاذ.
وصل هاران إلى المستشفى وهو يعاني ارتفاعاً حاداً في ضغط الدم، وتلقى لاحقاً علاجاً لارتجاج دماغي. ويضيف "ما زلت أتعثر في الكلام أحياناً وأشعر بالدوار. كل ذلك حدث في أقل من 10 دقائق".
بالنسبة إلى سكان خيرسون، فإن تجربة الاحتلال ولحظة التحرير ما زالتا تشكلان خلفية تحملهم المستمر لغارات المسيرات.
ويختم قائلاً "صمدنا حتى التحرير، وسنصمد حتى يعم السلام".