ملخص
على مدى الأسابيع الخمسة الماضية، أغلقت محطات طاقة حرارية عدة بسبب القصف الروسي، وفقاً لما ذكرته صحيفة الـ"إيكونوميست"، كذلك عانت منشآت إنتاج الغاز هذا العام، إذ أدى القصف الذي بدأ في فبراير (شباط) الماضي واستمر لمدة شهرين إلى توقف 42 في المئة من طاقة إنتاج الغاز، وأوضحت السكرتيرة السابقة للجنة الطاقة في البرلمان الأوكراني فيكتوريا فويتستسكا، لصحيفة "واشنطن بوست" أن منشآت البنية التحتية للغاز - الإنتاج والمعالجة والتخزين والنقل - متناثرة في جميع أنحاء البلاد، وتصعب حمايتها.
أشد ساعات الليل حلكة وظلاماً هي الساعات التي تسبق بزوغ الفجر، هذا ما يعيشه الأوكرانيون عشية شتاء الحرب الرابع، إذ يكثف الجيش الروسي مجدداً قصف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا.
مع كل شتاء تزداد عمليات القصف تعقيداً، في البداية استهدفت الضربات محطات الطاقة الفرعية التي توفر الطاقة، ثم بدأت روسيا بمحاولة تدمير منشآت الإنتاج، في الفترة التي سبقت الشتاء الماضي، فقدت أوكرانيا ما يقارب 70 في المئة من إنتاجها من الكهرباء، وتضررت أو دمرت جميع محطات الطاقة الحرارية تقريباً. لاحقاً، بدأت الضربات أيضاً تستهدف محطات الطاقة الفرعية التي تغذي محطات الطاقة النووية، والتي تولد ما بين 55 و60 في المئة من كهرباء البلاد.
هذا العام، إضافة إلى قصف كييف، ركز الجيش الروسي هجماته على المناطق الحدودية في سومي وتشرنيغوف وخاركيف، ويبدو أن الهدف هو تقسيم أوكرانيا إلى قسمين - أي "فصل" الشرق الصناعي حيث كان الاستهلاك دائماً أعلى، عن إنتاج الكهرباء في الغرب، وفقاً لمجلة الـ"إيكونوميست"، كذلك تدمر خطوط الكهرباء مما يؤدي في النهاية إلى شلل في عمليات نقل الطاقة من الغرب إلى الشرق، وصرح مصدر حكومي للمجلة "إنهم يريدون قطع الكهرباء عن الجهة الشرقية أولاً، وليس عن البلاد بأكملها".
لكن هذه المرة، يتأثر التوزيع بالقدر نفسه الذي يتأثر به التوليد، فبينما توفر محطات الطاقة النووية إمداداً مستمراً من الكهرباء، تعد محطات الطاقة الحرارية التي تعمل بالفحم والغاز، والتي أعيد تشغيلها جزئياً، أساسية لموازنة العرض والطلب، وهذا أمر حيوي للحفاظ على استقرار النظام.
رمز وطني للمرونة
على مدى الأسابيع الخمسة الماضية أغلقت محطات طاقة حرارية عدة بسبب القصف الروسي، وفقاً لما ذكرته صحيفة الـ"إيكونوميست"، وعانت منشآت إنتاج الغاز هذا العام، إذ أدى القصف الذي بدأ في فبراير (شباط) الماضي واستمر لمدة شهرين إلى توقف 42 في المئة من طاقة إنتاج الغاز، وأوضحت السكرتيرة السابقة للجنة الطاقة في البرلمان الأوكراني فيكتوريا فويتستسكا، لصحيفة "واشنطن بوست" أن منشآت البنية التحتية للغاز - الإنتاج والمعالجة والتخزين والنقل - متناثرة في جميع أنحاء البلاد، وتصعب حمايتها.
استعيدت بعض طاقة إنتاج الغاز، لكن من المرجح أن تشن روسيا "هجمات واسعة النطاق على منشآت الطاقة قبل موسم التدفئة وفي الشتاء"، وفقاً لتصريح رئيس مجلس إدارة شركة "نافتوغاز" سيرهي كوريتسكي، للصحيفة أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، وأوضح أن الشركة اضطرت إلى شراء غاز بقيمة مليار دولار من أوروبا لفصل الشتاء، كذلك جمعت 1.5 مليار دولار إضافية لاستيراد الغاز من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والحكومة النرويجية، وكثير من المؤسسات المالية الدولية.
إضافة إلى قصف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، أصبح نظام السكك الحديد فيها هدفاً لهجمات الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة الدقيقة، لأن هذه البنية التحتية الحيوية تستخدم بصورة رئيسة لتأمين نقل الإمدادات للجيش الأوكراني على خطوط الجبهة، وكذلك لنقل السلاح والعتاد الذي يؤمنه حلف شمال الأطلسي (ناتو) لأوكرانيا، خصوصاً عبر بولندا.
ويعتبر نظام السكك الحديد في أوكرانيا الذي يبلغ طوله 21 ألف كيلومتر أكثر من مجرد وسيلة نقل، فهو العمود الفقري للاقتصاد العسكري الأوكراني، ورمز وطني قوي للمرونة.
وبحسب شركة السكك الحديد الوطنية "أوكرزاليزنيتسيا"، كان هناك ضعف عدد الهجمات في سبتمبر الماضي مقارنة بأغسطس (آب)، ليس فقط على القطارات ولكن أيضاً على البنية التحتية الداعمة لشبكة السكك الحديد.
ويقول نائب وزير تنمية المجتمعات والأقاليم، التي تشرف على شبكة السكك الحديد، أليكسي باليستا إن "نصف الهجمات على السكك الحديد منذ بدء الحرب وقعت خلال الشهرين الماضيين، لقد واجهنا على مدى الشهرين الماضيين، كل يوم تقريباً، هجمات مستهدفة على البنية التحتية ومرافق نقل الطاقة التابعة لشركة (أوكرزاليزنيتسيا)".
ويشير باليستا إلى أن روسيا "تبحث عن قاطرات، وتستهدف على وجه التحديد ليس فقط القطارات التي تنقل الأسلحة والعتاد والمؤن للقوات على الجبهة، بل أيضاً تلك المخصصة لنقل البضائع والركاب".
ويمكن رؤية قاطرة محطمة خلف نائب الوزير، وهي جزء من أسطول السكك الحديد بين المدن الأوكرانية، تضررت في ضربات مدمرة بصورة خاصة في أواخر أغسطس شرق العاصمة كييف.
وضرب الجيش الروسي كذلك تقاطعاً رئيساً للسكك الحديد في كوزياتين بمنطقة فينيتسا الوسطى، مما تسبب في حدوث تأخيرات وأجبر السلطات على إجراء تغييرات كبيرة في المسارات، كذلك شن الجيش الروسي أخيراً هجوماً آخر على قطار بين كراماتورسك وسلافيانسك في منطقة دونيتسك الشرقية، قرب خط المواجهة.
وغالباً ما يتم تداول أنباء عن تهديدات بوجود قنابل على خطوط أخرى في أوكرانيا، مما يجبر الموظفين على إخلاء القطارات وانتظار متخصصي إبطال القنابل لإعطاء الضوء الأخضر.
في محطة كييف
ويشير المسؤولون الأوكرانيون إلى عاملين رئيسين يعتقدون أنهما أديا إلى هذه الموجة المكثفة من الهجمات: أولاً، قدرة روسيا المتنامية على إنتاج أعداد كبيرة من الطائرات من دون طيار الرخيصة نسبياً يومياً، التي يمكنها الطيران لمسافات أطول من أي وقت مضى، وثانياً، حال الجمود على خط المواجهة، ونتيجة لذلك حول الجيش الروسي تركيزه إلى شن هجمات على خطوط الإمداد.
يقول المدير التنفيذي لـ"أوكرزاليزنيتسيا" أوليكساندر بيرتسوفسكي، "هذه معركة واضحة جداً على السكك الحديد. يحاول العدو إيقافنا تماماً، هذا جزء من تكتيك عسكري يهدف إلى إثارة الذعر بين السكان المدنيين، وتدمير اقتصادنا، وجعل البلاد غير صالحة للسكن"، ويضيف "المكونات الرئيسة لاستجابة أوكرانيا تشمل إصلاح الأضرار في أسرع وقت ممكن، والتنسيق مع الجيش، وتدريب الأفراد على التعرف إلى تهديدات التخريب المحتملة أخيراً، لدينا دائماً خطط بديلة. الهدف هو عدم إلغاء أية رحلة أو مسار، إذا لم يكن القطار يعمل نجمع بين القطارات والحافلات"، موضحاً "أخيراً اضطررنا إلى تغيير مسار قطار من كييف إلى سومي لأسباب أمنية، مما زاد مدة الرحلة ست ساعات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعني التهديد المستمر بالضربات الصاروخية والطائرات من دون طيار أن نقل الأشخاص والبضائع عبر البلاد من طريق الجو أصبح مستحيلاً تقريباً، ويتم نقل معظم صادرات الحبوب وخام الحديد التي يعتمد عليها اقتصاد أوكرانيا عبر السكك الحديد إلى موانئ البحر الأسود الجنوبية وغرباً عبر بولندا.
يصل أيضاً قادة سياسيون من جميع أنحاء العالم يزورون أوكرانيا بالقطار - "الدبلوماسية الحديدية" كما يطلق عليها الأوكرانيون - ويطلق على العمال الذين وجدوا أنفسهم في منطقة القصف لقب "الأبطال الحديديين".
في المبنى المهيب لمحطة كييف المركزية، يقدم وزير حكومي آخر شهادات الشجاعة للمجموعة الأخيرة من "الأبطال الحديديين" - أولئك الذين قاتلوا الحريق ليلة هجوم الصواريخ الروسية على محطة القطار، يقول ألكسندر ليونينكو، الذي ساعد في إخماد الحريق "كان الأمر مخيفاً للغاية، فقد اندلع حريق هائل ودمر كثيراً".
ويتزامن تزايد الهجمات على السكك الحديد مع تكثيف الضربات الروسية على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، وقد أدت سلسلة الإضرابات الأخيرة إلى انقطاع الكهرباء عن مئات الآلاف من الناس.
بدورها، شنت أوكرانيا سلسلة من الضربات ضد مصافي النفط الروسية، وتزعم أن نقص البنزين نشأ في كثير من المناطق في روسيا.
وتحاول أوكرانيا أن تثبت أن بإمكان الطرفين لعب هذه اللعبة وقصف المرافق الحيوية للطرف الآخر، لكن الإمكانات الصاروخية وقوة النيران عند أوكرانيا لا تقارن بما تملكه روسيا، بخاصة في مجال الدفاع الجوي الروسي الذي يمكنه التصدي لأكثر من 90 في المئة من هجمات الطائرات المسيرة الهجومية التابعة لأوكرانيا.
جنرال البرد القارس
يستعد الأوكرانيون حالياً لفصل الشتاء الرابع منذ بدء الحرب، ويعتقد أوليكساندر بيرتسوفسكي من شركة "أوكرزاليزنيتسيا" أن الهجمات على البنية التحتية للبلاد قد تجعل هذا الشتاء الأقسى منذ بدء الحرب.
ويدعو المسؤولون الأوكرانيون الحلفاء إلى توفير قدرات دفاع جوي أكثر قوة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البنية الحيوية لمرافق البلاد، والحفاظ على الروح المعنوية للمواطنين والمقاتلين على الجبهة على حد سواء، لكن يبدو أن هذه الروح ستواجه اختباراً جدياً للقوة في الأشهر المقبلة حين يحل فصل الشتاء البارد.
فقد أصبحت الهجمات على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا سمة مميزة للعملية العسكرية الروسية في البلاد، وكثيراً ما تنشر وسائل الإعلام آراء متخصصين في محاولة لإقناع المواطن العادي بأن شبكة الكهرباء على وشك الانهيار، وأن بضع هجمات إضافية ستؤدي إلى توقفها تماماً، لكن شركة الطاقة الأوكرانية "أوكرينيرغو" أصدرت بياناً حاولت فيه التقليل من أثر الضربات الروسية على البنية التحتية للطاقة، فزعمت عدم وجود نقص كبير في الطاقة في شبكة الكهرباء الأوكرانية، وأشارت إلى أن تقنين الاستهلاك غير مطبق في منطقة كييف، وأن انقطاعات الشبكة سارية حالياً في أوديسا، لكنها ليست كبيرة.
في الواقع، واستناداً إلى بيانات مفتوحة المصدر ومنشورات من سكان أوكرانيا على مواقع التواصل الاجتماعي، كان تأثير الضربات الصاروخية الأخيرة التي شنتها القوات المسلحة الروسية كبيراً، إذ تشهد معظم المدن الأوكرانية انقطاعاً متواصلاً وكبيراً للتيار الكهربائي، فضلاً عن أن الجيش الأوكراني يواجه مشكلات عدة خلال فترات انقطاع التيار الكهربائي المتكررة التي أثرت في المرافق المدنية.
وفي تصريح ناري كشف الرئيس الروسي عن أن هدف الضربات التي توجهها قواته للبنية التحتية الحيوية في أوكرانيا هو تحطيم قدرات الجيش الأوكراني، وأعلن فلاديمير بوتين في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) عن خسائر بشرية وميدانية كبيرة للقوات الأوكرانية، مشيراً إلى تسارع وتيرة التقدم للقوات المسلحة الروسية في مختلف الاتجاهات.
وخلال مؤتمر صحافي في ختام زيارته إلى قرغيزستان، وجه بوتين إنذاراً واضحاً "ستنسحب القوات الأوكرانية من المناطق التي تحتلها، وعندها ستتوقف الأعمال القتالية، إذا لم تنسحب سنحقق ذلك بالطريقة العسكرية"، وحذر من أن "انهيار جبهة أوكرانيا حتمي إذا تكرر الوضع في كوبيانسك وفي قطاعات أخرى".
وكشف الرئيس الروسي تفاصيل التقدم الميداني التي جاءت على النحو التالي:
كراسنوأرميسك: 70 في المئة من أراضي كراسنوأرميسك في أيدي القوات المسلحة الروسية، كذلك فإن القوات المسلحة الأوكرانية تخسر وحداتها الأكثر جاهزية للقتال هناك.
دميتروف وكومسومولسك: تجري الأعمال القتالية داخل المدينة، وتم بالفعل تحرير عدد كبير من المباني.
غوليايبوله: جنودنا اقتربوا نحو 1.5 - 2 كيلومتر من غوليايبوله.
كوبيانسك: تم القضاء بالكامل على مجموعات قوات العدو، والمدينة أصبحت بالكامل تحت السيطرة الروسية.
سيفيرسك: من 8 آلاف مبنى هناك 1700 تحت السيطرة الروسية.
وأشار بوتين إلى مشكلات عميقة تواجه الجانب الأوكراني، فـ"المشكلة الرئيسة للعدو تتمثل في أن الفجوة تزداد لديهم بين الخسائر وعدد العسكريين الذين هم قادرون على إرسالهم إلى خط التماس القتالي"، وأفاد بأن "15 كتيبة من القوات المسلحة الأوكرانية - أي 3.5 ألف شخص - تم حصرها على الضفة اليسرى لنهر أوسكول".
حرب هجينة
في الواقع، الحرب الحديثة هي حرب مركزية على الشبكات، جيل جديد من الحروب، الحرب المركزة على الشبكات هي مفهوم حربي يتم فيه دمج جميع المقاتلين (القيادة والمعدات العسكرية والقوى العاملة) في شبكة معلومات واحدة، يتوخى هذا المفهوم الاستخدام الفعال للطائرات من دون طيار، والأسلحة الموجهة بدقة، وقنوات اتصال محمية جيداً ومرنة وعالية النطاق الترددي، والاستخدام المكثف للحرب الإلكترونية.
وكما يشير الحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة، الأستاذ في أكاديمية العلوم العسكرية سيرغي ماكارينكو، في دراسته "المواجهة المعلوماتية والحرب الإلكترونية في الحرب الشبكية في بداية القرن الـ21"، فإن الأهداف الأساسية في مثل هذا الصراع ينبغي أن تكون البنية التحتية الحيوية وأنظمة الدفاع الجوي للعدو، فالمرحلة النشطة من الأزمة، عندما تتفاقم إلى صراع مسلح، تتضمن عادة ضربة شاملة باستخدام أسلحة بحرية وجوية عالية الدقة ضد أهداف استطلاعية وأهداف بنى تحتية حيوية مدروسة جيداً على أراضي العدو، وبخاصة أصول الدفاع الجوي، تقلل هذه الضربة من ردود فعل العدو الانتقامية وتمنع خسائر فادحة في قوات الطرف النشط وأصوله، وتضمن أنظمة الاستطلاع والملاحة الفضائية الاستخدام الفعال للأسلحة الدقيقة، بينما يضمن تصحيح اتجاه الضربة ومراقبة نتائجها باستخدام طائرات الاستطلاع من دون طيار، وفي الوقت نفسه تستخدم العمليات السيبرانية والحرب الإلكترونية لتوجيه ضربة إلكترونية لتعطيل أنظمة رادار الدفاع الجوي، وأنظمة القيادة والسيطرة الحكومية والعسكرية، وأنظمة البث الإذاعي والتلفزيوني للعدو، وشبكات الاتصالات والطاقة، إضافة إلى أنظمة البنوك والنقل.
ويشير ماكارينكو إلى أن الدفاعات الجوية الأوكرانية لم تكبح بعد بالكامل، إذ تقوم القوات المسلحة الروسية دورياً بتحديد وتدمير الدفاعات الجوية الأوكرانية، إلا أن هذه العمليات متقطعة وتكتيكية بطبيعتها، ولا تؤثر في الوضع العسكري العام، أما سبب حدوث ذلك فليس واضحاً تماماً، إذ يبدو أن القوات المسلحة الروسية تفتقر ببساطة إلى القدرة على تدمير الدفاعات الجوية الأوكرانية تماماً.
عند مناقشة تخفيف أثر الضربات الصاروخية الروسية على منشآت البنية التحتية للطاقة، يركز الجيش الروسي في المقام الأول إثر هذه الضربات على المواطنين الأوكرانيين العاديين، أما بالنسبة إلى الجيش الأوكراني فلم يكن للضربات على البنية التحتية للطاقة أي تأثير فيه، حتى خلال فترة انقطاع التيار الكهربائي المتكرر في المدن الأوكرانية، لأن القوات المسلحة الأوكرانية مزودة بما يكفي من المولدات، التي يزودها الغرب بها بكميات كبيرة.
هذا يطرح السؤال التالي: ما الهدف من الضربات على منشآت البنية التحتية للطاقة الأوكرانية؟
من منظور عسكري، لا تأثير مباشراً لهذه الضربات، لأنها لا تعزل منطقة القتال، ولا تؤثر في الوضع على الجبهة، أما من المنظور السياسي فيمكن تنفيذ مثل هذه الضربات إما لتثبيط معنويات الشعب الأوكراني أو لتحفيز تدفق ملايين اللاجئين إلى أوروبا، مما يؤدي إلى إثارة أزمة سياسية هناك.
في ما يتعلق بتدهور معنويات الشعب الأوكراني، فنظراً إلى أن الهجمات على منشآت الطاقة تشن بصورة متواصلة وفاعليتها ملحوظة، فقد أصبح هذا الأمر بالنسبة إلى معظم الناس مقلقاً وذا تأثير محبط، مثلها مثل التدهور الاقتصادي وانخفاض قيمة العملة (الهريفنيا)، كل هذه القضايا تقلق الأوكرانيين وتصيب معنوياتهم بالإحباط مثلها مثل الضربات الصاروخية.
مع ذلك، حتى لو افترضنا أن القوات المسلحة الروسية زادت من فعالية ضرباتها وانقطعت الكهرباء عن معظم المدن الأوكرانية، فمن غير المرجح أن يكون لذلك أي تأثير في مسار القتال، لا توجد شروط مسبقة لاحتجاجات جادة في أوكرانيا، لسببين: أولاً، في ظل الأحكام العرفية ستصنف سلطات كييف أي احتجاج على أنه "استفزاز من عملاء العدو"، مع ما يترتب على ذلك من عواقب، لذلك ما دام لدى أوكرانيا حكومة منظمة لم تبدأ بالتراجع فلا ينبغي توقع أية انتفاضات.
ثانياً، لا يفهم كثير من الأوكرانيين أهداف روسيا ونياتها الحقيقية، أو مدى جدية هذه النيات، علاوة على ذلك فإن الدعاية الأوكرانية التي تعد الأوكرانيين بغد مشرق مع الغرب هي فعالة للغاية، أما بالنسبة إلى تدفق ملايين اللاجئين فقد ولى زمن طويل منذ بدء هجرة ونزوح الأوكرانيين وهربهم من البلاد لأسباب مختلفة، فالحدود الآن مغلقة أمام معظم الرجال، وكل من أراد المغادرة غادر أوكرانيا منذ زمن.
استراتيجية أبعد مدى
يكثف الجيش الروسي هجماته على المرافق الحيوية في أوكرانيا بهدف الضغط على القيادة الأوكرانية، وإضعاف معنويات السكان وإلحاق الضرر بالبنية التحتية المدنية وتعطيل حياة السكان. ويأتي هذا في إطار استراتيجية أوسع نطاقاً تتضمن الضغط الاقتصادي ومحاولات حرمان السكان من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والتدفئة والمياه، من أجل خلق اضطرابات اجتماعية وإضعاف مقاومة القوات الأوكرانية على الجبهات التي يتقدم فيها الجيش الروسي.
فالضربات ضد البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك مرافق الطاقة، تهدف إلى خلق "معاناة مدنية" وإجبار السكان على المطالبة بالسلام وفقاً لشروط روسيا، كذلك فإن تدمير البنية التحتية يلحق الضرر بالاقتصاد الأوكراني ويعوق عمله، ويمكن اعتبار ذلك محاولة لإضعاف الإمكانات العسكرية لأوكرانيا.
وفوق ذلك تهدف هذه الهجمات إلى حرمان المدن الأوكرانية والمواطنين من القدرة على عيش حياة طبيعية خلال فصل الشتاء، قد تكون هذه محاولة لخلق أزمة إنسانية قد تجبر القيادة الأوكرانية، وفقاً للجيش الروسي، على التفاوض بشروطها.
ويمكن للجانب الروسي أن يستخدم هذه الهجمات لإظهار قوته وتصميمه على تحقيق أهدافه، في حين تسعى أوكرانيا وحلفاؤها في أوروبا لإطالة أمد الصراع ووضع العراقيل أمام خطط السلام التي تطرحها الولايات المتحدة لوقف النزاع.
تهاجم روسيا البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، فتقطع الكهرباء عن منازل المدنيين، إضافة إلى أنظمة التدفئة والمياه، ويذكر أن هذا التكتيك مستخدم منذ الحرب العالمية الثانية.
وبدأت موسكو باستهداف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022، في أعقاب محاولة الاستخبارات الأوكرانية تفجير جسر القرم، الذي يربط شبه الجزيرة الأوكرانية التي ضمتها روسيا.
في البداية، أعلنت روسيا أن الهجمات على البنية التحتية للطاقة الأوكرانية كانت "رداً انتقامياً" على الانفجار، وواصلت موسكو تبرير الضربات بدوافع عسكرية، نافية أنها كانت موجهة ضد المدنيين، في غضون ذلك، زعم "الكرملين" أيضاً أن كييف قادرة على "إنهاء معاناة السكان" إذا استجابت لمطالب روسيا بإنهاء الحرب، ونتيجة للهجمات الروسية ترك ملايين الأوكرانيين من دون كهرباء وماء وتدفئة خلال فترة انخفضت فيها درجات الحرارة إلى ما دون الصفر.
وقال المتخصص في سياسة الأمن الروسية في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية أندراس راكز، إن القصف المستمر لشبكة الكهرباء عالية الجهد والمحولات وخطوط الكهرباء في أوكرانيا التي تربط البلاد بشبكة الكهرباء في الاتحاد الأوروبي، كان مخططاً له على الأرجح "منذ أشهر، إن لم يكن أعوام".
يشير هذا إلى أن حملة تدمير البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا وتوقيتها كانا مصممين لغرض محدد، ووفقاً لراتز، فإن هذا الهدف هو "إلحاق معاناة بالغة بالسكان المدنيين تجبر الحكومة الأوكرانية على التفاوض والموافقة على شروط روسيا لوقف الحرب".
شرعية الضربات
للضربات الروسية على البنية التحتية المدنية عواقب وخيمة على الأوكرانيين، علاوة على ذلك ينتهك هذا التكتيك ما يسمى مبدأ "الحق في الحرب (jus in bello) " الذي يحكم سير الحروب. ويستند هذا المبدأ إلى عاملين: التمييز بين "المدنيين والمقاتلين"، والتناسب، أي مبدأ "ألا يكون الضرر الناجم غير متناسب مع الفائدة المتوقعة"، كما يشير تشارلز ماير من جامعة "هارفرد".
بمهاجمتها البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، تشوه روسيا الخط الفاصل بين الأهداف المدنية والعسكرية، والغرض من ذلك، وفقاً لمنظمات مثل منظمة العفو الدولية، هو تقويض إرادة الأوكرانيين العاديين في المقاومة، وصرحت مديرة منظمة العفو الدولية لأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ماري ستروثرز، قائلة "إن تحطيم معنويات المدنيين ليس هدفاً مشروعاً، وتنفيذ هذه الهجمات بهدف وحيد هو إرهابهم جريمة حرب".
في الواقع، إن الهجمات على الأهداف المدنية ليست تكتيكاً جديداً، لأن مهاجمة أهداف غير عسكرية لتثبيط معنويات السكان المدنيين لم تقتصر على روسيا، فقد استخدمتها أيضاً ألمانيا النازية وبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
فعندما بدأت ألمانيا النازية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 كان أول عمل لها غارة جوية على مدينة فيلون البولندية التي كانت ضئيلة الأهمية عسكرياً ولوجيستياً، قتل عشرات المدنيين ودمرت منازل كثيرة، أعقب ذلك قصف مكثف لمدن رئيسة مثل وارسو في بولندا، وروتردام في هولندا، كان الهدف من هذه الغارات الجوية ترويع السكان المدنيين، كما يقول أستاذ التاريخ أولريش هربرت من جامعة "فرايبورغ"، موضحاً أن المهاجمين اعتقدوا أن ذلك سيضعف أو يحطم مقاومة الشعب.
بحلول عام 1940 بدأت ألمانيا النازية بقصف المدن البريطانية، استهدفت هذه الغارات الجوية أيضاً مدناً ذات أهمية عسكرية ثانوية مثل إكستر وكانتربري ويورك. سعت ألمانيا النازية، من خلال استهداف المواقع المدنية والثقافية، إلى كسر إرادة الشعب البريطاني، يقول هربرت "لكنها لم تفلح في لندن وغيرها من المدن البريطانية"، مضيفاً أن القصف الألماني عزز معنويات البريطانيين وقدرتهم على الصمود، على رغم أنه زاد من مرارة الشعب البريطاني.
في العام نفسه بدأت بريطانيا أيضاً شن أولى غاراتها الجوية الواسعة النطاق على المدن الألمانية، وكتب أليكس بيلامي من جامعة "كوينزلاند" الأسترالية، أن "عدم الدقة، وسوء الأحوال الجوية، وارتفاع معدلات الخسائر، والتفضيلات الاستراتيجية، عوامل مجتمعة أجبرت سلاح الجو الملكي البريطاني على اللجوء إلى القصف المكثف"، وكان هذا التكتيك، بحسبه، يهدف إلى تحطيم معنويات السكان لدى العدو، مما كان من المفترض أن يؤدي بدوره إلى تعطيل الإنتاج الصناعي.
وفقاً لأستاذ التاريخ أولريش هربرت كان تأثير القصف البريطاني المكثف على الروح المعنوية الألمانية متبايناً، ويقول "كان هناك شعور بالمرارة والغضب تجاه الحلفاء، وكراهية لطائرات القصف العديدة، ومع استمرار الغارات ازدادت خيبة أمل الألمان في النظام النازي، إلى جانب شعور باللامبالاة والتركيز على مجرد البقاء على قيد الحياة".
ويقول أندراس راتش "إن التاريخ العسكري لا يعرف كثيراً من الأمثلة حيث نجحت مثل هذه التكتيكات (إضعاف معنويات السكان المدنيين) وبخاصة في الأمد القريب".
بدوره يشير أولريش هربرت إلى أن تحديد الأثر النفسي لمثل هذه الهجمات يؤدي دوراً مهماً في "ما إذا كانت الحرب تعتبر عادلة أم ظالمة"، ويعتقد المؤرخ أن الهجمات غير المبررة على المدنيين من قبل المعتدين الخارجيين من المرجح أن تثير مقاومة عنيدة أكثر من أي شيء آخر.
لكن يبدو أن القوات المسلحة الروسية تشن ضربات نارية مكثفة ضد البنية التحتية الحيوية لأوكرانيا من أجل تحقيق هدفين: الأول هو إجبار كييف على التفاوض والموافقة من دون قيد أو شرط على "خطة السلام الأميركية" التي تتفاوض عليها كييف مع واشنطن في سويسرا، والتي يبدو أن نصوصها وشروطها تم تنسيقها سراً بين روسيا والولايات المتحدة قبل تسريبها ثم طرحها بصورة غير رسمية.
ثانياً، يمكن النظر إلى تنفيذ ضربات قوية ضد البنية التحتية والمؤسسات العسكرية الصناعية في البلاد على أنه استعداد للقوات المسلحة الروسية لحملة شتوية أواخر عام 2025 ومطلع 2026 إذا وصلت مفاوضات السلام في النهاية إلى طريق مسدود.
ليس هناك شك في أن هذه الحملة ستكون أكثر نجاحاً إذا أدت ضربات القوات المسلحة الروسية ضد المجمع الصناعي العسكري الأوكراني، ومخازن الموارد المادية والأسلحة والمعدات العسكرية والذخيرة، فضلاً عن الاتصالات والبنية التحتية للطاقة، إلى إضعاف القدرة القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية بصورة كبيرة.