ملخص
لطالما أحاطت الألغاز بحياة الشاعرة إميلي ديكنسون (1830-1886)، وكثيرة هي الكتب التي تناولت حياتها، معتمدة على محاكاة ما كتبته الشاعرة الأميركية من رسائل وقصائد نشرت بعيد موتها. وحديثاً صدرت ترجمة عربية لـ"رسائل إميلي ديكنسون"- (دار التكوين- دمشق) أنجزها الشاعر والأكاديمي السوري عابد إسماعيل.
لعل أشهر رواية عن إميلي ديكنسون كتبها مواطنها جيرومي تشارين عام 2010 بعنوان "الحياة السرية لإميلي ديكنسون"، وثانيها سيرة ذاتية كتبتها البريطانية ليندال جوردون بعنوان "حيوات كما الأسلحة الملقمة: إميلي ديكنسون وضغائن عائلتها"، إضافة إلى رواية "بيوت من ورق" التي حققتها الكاتبة الكندية دومينيك فورتييه عام 2018. واليوم تصدر النسخة العربية من "رسائل إميلي ديكنسون" (دار التكوين- دمشق) بترجمة وتقديم لافت للشاعر والناقد والأكاديمي السوري عابد إسماعيل، والرسائل المترجمة مأخوذة من منشورات "جامعة هارفارد" عام 1958، وقام بتحريرها الناقد توماس جونسون.
وتبدد رسائل ديكنسون الصورة النمطية عنها بوصفها "ناسكة الشعر الأميركي" (لقبها). صورة صدرتها دراسات ثقافية تناولت شخصية الشاعرة المنعزلة في منزلها ذي الطراز الفيكتوري، والواقع في بلدة أمهرست في ولاية ماساشوستس على الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية. وولدت إميلي في هذا المنزل الذي اشترته "كلية أمهرست" وحولته إلى متحف للزوار منذ عام 1965. وأمضت إميلي معظم سنوات شبابها في الغرفة العلوية من هذا البيت، فكانت تكتب الشعر والرسائل طوال الليل على طاولة بحجم مقعد دراسي لطفل صغير، ومن ثم كانت تضع القصائد التي تكتبها داخل أكياس وتخيطها، ومن ثم تخفيها في مكان ما لكي يصار إلى اكتشافها بعد وفاتها.
وتدحض رسائل إميلي التي كتبت في النصف الثاني من القرن الـ19 تلك الصورة الطهرانية عن حياة ديكنسون، إذ تبين أن حياتها كانت صاخبة بالناس من حولها بعد أن مر وقت طويل جرى التركيز فيه على العزلة التي كانت تعيشها، ووصل عدد الأشخاص الذين راسلتهم بخط يدها إلى أكثر من 100 شخص، وجميع تلك الرسائل التي قاربت أكثر من ألف رسالة كتبت بين عامي 1842 و1886، إذ بدأت الشاعرة بخط رسائلها مذ كانت في الـ14 من عمرها، وتبين هذه الرسائل علاقة ديكنسون بالزمن الذي عايشته، سواء الحرب الأهلية الأميركية، أو تمردها على الأدب الفيكتوري، وصولاً إلى مواجهة النظام الطبقي المحلي الذي ولدت فيه، ومن الواضح أن رسائلها هذه فضلاً عن نظرية المساواة بين الجنسين ودراسات غربية أخرى أسهمت في إعطاء تصور جديد عن شخصيتها، فقد تحولت إميلي من شخص خجول وانطوائي إلى شخص فاعل ونشيط يتمتع بحضور تنافسي مع الجنس الآخر، إضافة إلى أنها شاعرة خبرت بيئتها جيداً، وكانت تعي تماماً كيف تحيك أسطورتها الشخصية.
بين صورتين
تخلق رسائل "المرأة العبقرية" المسافة بين صورتين جرى تصديرهما عن هذه الشاعرة الغامضة، ولا سيما الكتابات التي جرى تأليفها من وحي حياتها المضطربة، فهل هي الحسناء المتغطرسة والمصابة برهاب الوحدة، أم هي التلميذة المراهقة المبكرة البلوغ كما روجت عنها رواية "الحياة السرية لإميلي ديكنسون" لجيرومي تشارين التي قدم فيها الكاتب الأميركي إميلي فتاة شغوفة بالمتعة الحسية؟ وهذه الأفكار المسبقة عن شخصية الشاعرة كانت وردت أيضاً في رواية الكاتبة البريطانية المنشأ ليندال جوردون بعنوان "حيوات كما الأسلحة الملقمة: إميلي ديكنسون وضغائن عائلتها"، إذ بدا منزل هومستيد التي ولدت فيه الشاعرة أشبه بعش دبابير تسوده الغيرة والامتعاض والمشاحنات العائلية.
ولعل أبرز الكتابات التي صاغت صورة رائدة الحداثة في الشعر الأميركي تعود لذلك المجلد الذي حققته ونشرته الكاتبة الأميركية لورا بينيت عام 1950، وحمل عنوان "شعراء أميركيون مشهورون"، إذ احتوى هذا الكتاب على سيَر ذاتية موجزة ومرتبة زمنياً، وضم سيرة كثير من شعراء القارة الجديدة كمثل كليمنت كلارك وكارل ساندبيرغ، إضافة إلى إميلي ديكنسون التي ذُكرت في منتصف الكتاب، وجاءت الصورة التوضيحية عنها مطابقة للتعديلات التي أجراها محررو الكتاب الشعري الأول الذي صدر عام 1890، وقد أدخل المشرفون على طباعة هذا الكتاب عدداً كبيراً من التعديلات المجحفة على كثير من الأبيات، فخففوا من الأوزان الشعرية وغيروا علامات الترقيم، وحذفوا بعض القصائد التي تعبّر عن الغضب، أو تلك التي تحوي مضموناً مثيراً للشهوة الجنسية.
وجاءت هذه التعديلات وقتها تماشياً مع سياسات التسويق الرائجة خلال تسعينيات القرن الـ19، إذ نجحت صورة ديكنسون على ما يبدو لتصير بمثابة أيقونة لحقبتين من التاريخ الأميركي. المرحلة الأولى تجلت بما سوّقه كتاب لورا بينيت بعد مرور 60 عاماً على رحيل الشاعرة، إذ صورت بينيت مواطنتها على أنها كانت امرأة مهذبة اختارت لنفسها بعد فشلها في قصة حبها الأولى الاعتزال في بيتها، حيث تكتب الشعر وتربّي الزهور، وتخاطب أختها الوحيدة لافينيا، إلى أن فارقت الحياة راضية بما ملكت. وهذه الصورة تماشت بدورها مع حنين الأمة الأميركية في نهايات القرن الـ19 إلى حياة أكثر براءة وريفية مما هي كانت عليه في منتصف القرن الـ20 (تاريخ إصدار الكتاب الأول لديكنسون)، فأسهم اعتزال الشاعرة في منزلها رفضاً للعالم الحديث، وجعلها أشبه بمتحدثة رسمية عن تلك الأيام الخوالي من الحياة الأميركية.
الحرب الباردة
أما الحقبة الثانية من التاريخ الأميركي الذي كرست فيه صورة نمطية عن إميلي، فجاء متزامناً مع أعوام الحرب الباردة وتنامي الخوف من الشيوعية والدمار النووي، في وقت كانت القوة الأميركية في صعود، حلمت الأمة الأميركية مجدداً بماضٍ بعيد كان فيه الناس الأوائل يخافون الله، ومن جديد أدت إميلي ديكنسون هذا الدور كامرأة قدمتها الكتب المؤلفة عنها على أنها راهبة. لكن هذا كله تغير بعد عام 1955 عندما طبعت أعمال ديكنسون الشعرية ضمن ثلاثة مجلدات ضمت كل قصائدها (صدر بالعربية عام 2023- ترجمة عابد إسماعيل – دار التكوين- دمشق)، وقد خلت جميع القصائد البالغ عددها 1775 من كل التعديلات الفيكتورية، فتبددت صورة الشاعرة الحزينة التي كانتها من قبل، ولمعت المرأة من جديد كشاعرة انفعالية مصقولة وطائشة على نحو لافت، كما هي صورتها في إحدى قصائدها "امرأة تحمل قنبلة بين نهديها"، أو عبارتها "أخاف أن أملك جسداً"، و"خشيتها من وجود صدع دائم في رأسها". في الأقل هذا ما تجلى أيضاً وأيضاً في قصيدة لها تقول "لو ملكتُ مسدّساً قوياً/ لأطلقتُ النار على الجنس البشري/ فهذا بطلي قد ظهر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى الأكاديمي السوري عابد إسماعيل في مقدمته اللافتة لترجمته "رسائل إميلي ديكنسون" أن "ديكنسون طورت فناً مستقلاً قائماً بحد ذاته" في هذه الرسائل، إذ "لا خطوط فاصلة بين نثرها وشعرها"، فجاءت هذه "الرسائل لتكشف عن جوانب خبيئة في شخصية المرأة العبقرية"، مما يعيدنا مجدداً لكتاب سيرة ذاتية آخر هو "لغز إميلي ديكنسون"- (نشر عام 1951)، وكانت حققته الكاتبة الأميركية ريبيكا باترسون عن الشاعرة الراحلة، ومثله مثل كتاب لورا بينيت عزت باترسون سر اعتزال إميلي في منزلها وكتابتها للشعر إلى قصة حب فاشلة، لكنها اقترحت أن يكون شريكها في الحب هذه المرة امرأة.
روايات عدة تبرزها اليوم رسائل الشاعرة الألمعية، لعل آخرها كان عام 1998، يوم ناقشت المؤرختان الأدبيتان إيلين لويز هارت ومارتا نيل سميث، على نحو مستفز، أن زوجة أخيها سوزان غيلبرت كانت شريكة إميلي ديكنسون في الحب ومساعدتها في تأليف الكتب. ويتمثل ذلك في أكثر من رسالة عاطفية أرسلتها ديكنسون إلى صديقتها سوزان غيلبرت قبل زواج هذه الأخيرة من أوستن شقيق الشاعرة، وفيها، كما يقول الشاعر عابد إسماعيل، "يتجلى المكبوت النفسي على أشده، مما يغري القارئ إلى تأويلها في اتجاهات شتى، وكمثال على ذلك رسالة كتبتها إلى سوزان عام 1852".
ومن الواضح أن كتاب ريبيكا باترسون (توفيت عام 1975) سوف لن يلقى موجة الانتقاد ذاتها بعد اليوم الذي لقيه عند صدوره، إذ إن معظم الكتب التي صدرت عن إميلي ديكنسون كانت تتكهن عن الجوانب العاطفية من حياتها، إلا أن النسخة العربية من "رسائل إيميلي ديكنسون" لا تلقي بالاً لذلك، بل تسوق صياغة أدبية محكمة للنصوص التي كتبتها الشاعرة، سواء منها الرسائل ذات النزعة العاطفية الجامحة، أو تلك التي كانت بعثت بها ديكنسون إلى مكتشف موهبتها الناقد توماس هيغنسون، أو حتى الرسائل التي كانت تدبجها بمشاعر الحب الذي جمعها سراً مع القاضي أوتيس فيليبس لورد (1812-1884) "حبيبها الغامض" في الردح الأخير من حياتها.