ملخص
ينطلق محمد الفولي في كتابه "النص الأصلي"، من تجربته الشخصية كمترجم عن اللغة الإسبانية، وتجارب مترجمين آخرين، ليؤكد أن مقولة انطواء الترجمة على خيانة حتمية، لا تخص المترجم وحده، فهي تشمل أطرافاً أخرى مرتبطة بترجمة كتاب ما؛ وصولاً إلى نشر تلك الترجمة.
يرى الروائي والمترجم المصري محمد الفولي في كتابه "النص الأصلي: عن الترجمة ومسارات الحياة" (دار الكرْمة – القاهرة 2025) أن المترجم ليس بالضرورة هو مَن يخون النص الأصلي، فقد يفعلها الناشر رضوخاً لرقابة أخلاقية يمارسها من دون الرجوع إلى المؤلف أو وكيله، أو بعد الرجوع إليهما. وينقل في هذا السياق قول المترجمة المصرية أسماء جمال عبد الناصر التي تعيش في مديين (كولومبيا) أن الرقابة مزروعة في لا وعي المجتمع، "إلى درجة أني عثرتُ عليها في قاعة التدريس مع طلابي الذين وجدتُهم يفرضون رقابة ذاتية على ترجماتهم في شؤون شديدة التفاهة" (ص132).
ومن أمثلة ذلك أنهم تحاشوا أثناء ترجمة نص عن أليخاندرا بيثارنيك وُصِفت فيه بكلمة Leona استخدام مفردة "لبؤة"، ولجأوا إلى توصيفات تدل على الشجاعة أو اسم أنثى حيوان آخر: "نَمِرة". ويعلق الفولي هنا بالقول إن تتبع المسارات الذهنية "الأفعوانية" لهؤلاء المترجمين، "سيقودنا في النهاية إلى فكرة تتعلق بالمنظومة الأخلاقية، أو بالأصح بتصور ما عنها، وهو الشيء الذي يتأبط ذراع الرقابة دائماً". وينقل الفولي كذلك عن المترجم سمير جريس أنه بعد نشر ترجمته لكتاب "فهرس بعض الخسارات"، اكتشف أنها تعرَّضت لحذف ما يقرب من 600 كلمة من دون علمه بحجة تلافي "الصراحة الجنسية"، في بعض الفقرات.
الحذف الرقابي
ولاحظ الفولي في هذا الصدد أن أغلب الأعمال المترجمة عن الإنجليزية في حقبة فرانكو (في إسبانيا) لا تزال تعاني من مواضع حذف رقابية. ورأى أن استمرار تداول هذه الترجمات يرتبط بجانب اقتصادي، "لأن إعادة نشر النسخ القديمة أرخص من الإنفاق على ترجمات جديدة". ويعتقد الفولي أن إحدى وظائف الأدب الأساسية؛ هي الإزعاج والمواجهة والمناكفة والتمرد، "ولكنني أعلم أيضاً أن الناشرين والمترجمين الذين يبذلون جهداً ومالاً يجدون أنفسهم أحياناً بين المطرقة والسندان" (ص139). وفي رأيه أن الترجمة هي محاولة لتقليل الفقد: "قد نضحي بجزء بسيط من المعنى أو روح النص أو أسلوب المؤلف، لكيْلا يضيع كل شيء" (ص146).
ينبغي فعل ذلك، "إذا كان أمراً لا مفرَّ منه، لا من أجل عيون الرقابة". وينقل قول ميلان كونديرا في كتابه "الوصايا المغدورة"، عن إشكالية ترجمة الأسلوب وفق مفهوم "اللغة الجميلة": "لا بد أن يكون الأسلوب الشخصي للمؤلف هو السلطة العليا بالنسبة إلى أي مترجم، إلا أن هناك مترجمين يخضعون لسلطة أخرى: سلطة الأسلوب الشائع التي فرضت نفسها على أذهانهم في مراحل التعليم المختلفة". ويرى الفولي أن الترجمة الأدبية إلى العربية تعاني قيوداً في طبقات اللغة أكثر من بقية اللغات، بخاصة حين نتحدث عن تعبيرات واصطلاحات ومفردات دارجة، سواء أكان هذا في الحوار بين الشخصيات، أم في نقاط متفرقة في السرد نفسه، أم في النص كله.
ويضيف: "حسبتُ أن السبب الوحيد وراء هذه القيود هو ارتباطنا بلغة معيارية– هي الفصحى– ليكون النص مفهوماً عند كل القراء العرب". ويستطرد قائلاً: "لا ترتبط الإشكالية باللغة المعيارية وأن الكل يفهمها، وإنما أيضاً بأفكار سابقة ومستهلكة وملصقات اللغة الجميلة الجاهزة، وهي الأفكار التي لا تنظر إلى أي اعتبارات تخص النص الأصلي ولا الاكتشافات المذهلة التي قد يجدها المترجم أو القارئ فيه، كتطابق تعبيريْن دارجيْن اصطلاحييْن بين لغتين بعيدتي الجِذر والمنشأ، حتى إن تصاهرتا في فترة من الفترات". وهو هنا يقصد اللغتين العربية والإسبانية تحديداً.
الطبقات اللغوية
ويوضح الفولي أنه لا يدعو إلى التخلي عن الترجمة بالفصحى، "لكن هناك أعمالاً تستدعي إعادة النظر وبعضاً من اللين أو المرونة في استخدام اللهجات الدارجة أو العامية، في الترجمة؛ لأنها تعتمد إما جزئياً أو كلياً على تعدد الطبقات اللغوية للشخصيات والرواة التي لو ترجمناها إلى فصحى معيارية، ستمسخ العمل ومقوماته التي ميَّزته في لغته الأصلية". لكن ينبغي فعل ذلك– يضيف الفولي- بما لا يخالف المنطق والسياق الجغرافي والديني والبيئي وتباينه.
ويرى أنها ستكون مهمة صعبة بالطبع، ولكنها تستحق القيام بها، "لكن وأد النقاش وسَن السكاكين وإغلاق الأبواب أمام كل المحاولات سيفضي إلى نتيجتين: إما خلو السوق من أعمال معاصرة كثيرة؛ لأن المترجمين سيرفضون نقلها إلى العربية وخيانة الطبقات اللغوية للنص، وإما ظهور هذه الترجمات بصورة لا تعكس ماهيتها اللغوية الحقيقية". كذلك– يقول الفولي- قد يحدث "أن نقدم نصاً مُرَاجَعاً ومُدَّققاً ويخلو من الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية إلى أقصى حد، ويأتي المدقق ويفسد عملك، إما لأنه ليس بالخبرة الكافية، وإما لأنه يتخطى دوره كمدقق ويحسب نفسه محرراً، فيغير أموراً في صلب الترجمة من دون الرجوع إليك أو إلى النص الأصلي، أو لأنه يسعى إلى إثبات جدارته للناشر" (ص100).
التدقيق والتحرير
ولحظ الفولي وجود خلط في عالم النشر العربي بين مفهومي التدقيق والتحرير، "وأكاد أجزم أن الدور التي تحظى بمحرر أدبي حقيقي، سواء ارتبطت المسألة بالنصوص المترجمة أم الأصلية، يمكن عدها على أصابع اليد. كثير من المدققين بارعون في الإلمام بقواعد اللغة العربية، لكنهم يفتقرون تماماً إلى أي حس أدبي". هنا– يقول الفولي- يأتي دور "المحرر الذكي" الذي يساعد المترجم والمدقق في عتق النص من عيوبه وعدم الإخلال بأسلوب المؤلف والحفاظ على روح وطبقات اللغة؛ "لأنه حين يراجع ويحرر الترجمة لا ينظر إلى مدى "انضباط" اللغة العربية فحسب، وإنما يتابع كلمة بكلمة، وجملة بجملة، وفقرة بفقرة، مدى تماشي الترجمة مع النص الأصلي بالتعاون مع المترجم، فلا يسمح بأي شطحات تتعارض مع ما قاله المؤلف، سواء أكان مصدرها المدقق أو المترجم نفسه". وعقب تأمل تجارب عدة، له ولآخرين مع محررين أدبيين، وصل الفولي إلى قناعة شخصية مفادها أن المعايير التحريرية ليست ثابتة، وأنها حتى إن تشابهت في بعض الأوجه، فقد تتنافر في جوانب أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلص أيضاً إلى أن لكل طرف مسوغاته في الإيمان بهذا الشيء أو غيره، "لكن التوصل إلى استنتاج ما، لا يعني بالتبعية الاقتناع به أو الإيمان بصحته" (ص116). ويضيف هنا أن قناعته ازدادت بأن مفهوم تحرير الترجمة الحقيقي يعني عتقها من أخطائها وتقييدها في الوقت نفسه بالنص الأصلي، لا بإعادة صياغة إبداعية تقضي على روحه وأسلوبه وتمحو "مكمن الخرق" الذي تحدَّث عنه كونديرا في كتابه "الوصايا المغدورة".
مفهوم بورخيس
ويقر الفولي باختلافه مع مفهوم "الخيانة الإبداعية السعيدة" الذي صكَّه بورخيس، والذي يقصد به أن يُقدِم المترجم على إزالة ما يعده شوائب وزوائد وعيوباً في النص الأصلي، وإضافة بدائل أخرى بعيدة من إطار التعديات المحمودة والمحدودة. ويقول إنه يقبل في هذا الصدد بما أسماه "الأصل الخائن لترجمته"، وفيه لا يدرك المرء أنه يخون، بل يفعلها بصورة لا إرادية؛ لأنه مجرد إنسان عادي يقرأ نصاً، سواء أكان أصلياً أو مترجماً. أما في مفهوم بورخيس، فالخيانة متعمَدة، وعن وعي، وفيها نوع من الاحتيال؛ لأنها لا تخصه وحده، فالقارئ هنا ليس شخصاً عادياً، بل مترجماً. ومن ثم– يضيف الفولي- فإنه (أي المترجم) مؤتمن على سر– حتى وإن كان سراً معلناً في لغة أخرى– "وبالتبعية لا يجب عليه محو ثقافة الآخر والهوية التي تعكس وجهة نظره واستخدم لأجلها كلمات وألفاظاً محدَّدة، وعناصر ثقافية مختارة بعناية، سواء أكانت تقليدية أم ثورية، بل إن ما يتحتم عليه فعله هو احترامه ومحاولة الحفاظ على هذه العناصر قدر الإمكان" (ص162، 163).
محمد الفولي، ترجم من الإسبانية إلى العربية، نحو 30 عملاً، وحاز جائزة جابر عصفور (المركز القومي للترجمة) عام 2024 عن ترجمته لرواية "الوحش" لكارمن مولا. ومن الروايات التي ترجمها: "أخف من الهواء" لفيدريكو غانمير، و"استسلام" لراي لوريغا، و"أشد ألم" لسنتياغو رونكاغليولو، و"فالكو" لأرتورو بيريث ريبيرتي، و"حفل في الوكر" لخوان بابلو بيالوبوس، و"الجيوش" لإيبيليو روسيرو، و"هيبة الجمال" لبيداد بونيت.