ملخص
مع تصاعد الاضطرابات حول العالم خلال العقد الأخير، شهدت كتابة السيرة الذاتية طفرة نوعية، فتجاوزت كونها مجرد سجل لحياة صاحبها، لتغدو مختبراً لتشريح الذات، ووسيلة لفهم العالم عبر التجربة الشخصية في زمن فقدت فيه الأدوات التقليدية قدرتها على الإيضاح.
لعل كتابة السيرة الذاتية مهمة شاقة بطبيعتها، تتطلب دقة مبضع الجراح تحت غطاء التخدير، فيما يطلب من كاتب السيرة أن يؤدي الدورين معاً، أن يكون الجراح والممدد على الفراش، لذلك تبدو كتابة السيرة أشبه بالمشي على حبل مشدود، أقل ارتجافة فيه قد تفضي إلى سقوط الضحايا.
من هنا، أثارت مذكرات الكاتبة والناشطة الهندية أرونداتي روي "الأم ماري تأتي إلي" (Mother Mary Comes to Me) جدلاً واسعاً حول ما يقال وما يحسن السكوت عنه، وحول اللغة وحدود النوع الأدبي الذي يفترض أن يكشف صاحبه، فإذا به يزرع الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات، وينتهي إليها، كأن الإنسان الذي اخترق الفضاء وغاص في أعماق المحيطات، بات أقل قدرة على النفاذ إلى ذاته.
الخيط الرفيع بين العام والخاص
منذ ظهورها الأول، شقت أرونداتي روي طريقاً لا يشبه غيرها، إذ بدأت مسيرتها كمهندسة معمارية قبل أن تنتقل إلى السينما ممثلة وكاتبة سيناريو، كاشفة عن حس سردي يلتقط الهامشي واللايقيني في الحياة اليومية. وعلى رغم تتويجها بالجوائز فإن انطلاقتها الحقيقية جاءت عام 1997 مع روايتها الأولى "إله الأشياء الصغيرة"، العمل الذي وضع روي على خريطة الأدب العالمي، وتوج بجائزة الـ"بوكر".
مع كل هذا، ابتعدت روي من الرواية لتغوص في الكتابة السياسية، تلك النصوص الحادة التي جعلتها ضميراً حياً لبعضهم ومصدر إزعاج لبعضهم الآخر. وعام 2002، واجهت اتهامات قضائية بعد انتقادها قرار المحكمة العليا الهندية في شأن دعاوى قانونية غير مكتملة وتجاهلها التحقيق في مزاعم فساد في صفقات التعاقد العسكرية. وعدّت المحكمة تعليقاتها جناية، وحكمت عليها بيوم سجن رمزي وغرامة قدرها 2500 روبية، واختارت روي دفع الغرامة بدلاً من قضاء ثلاثة أشهر إضافية في السجن.
وبعد نحو 20 عاماً من الغياب، عادت بروايتها الثانية، "وزارة السعادة القصوى" (2017)، لتسلط الضوء على النزاعات في كشمير والعنف السياسي والفوارق الطبقية والاجتماعية داخل المجتمع الهندي. ويبدو أن الشخصي والعام عند روي متشابكان، فالمواضيع نفسها تتداخل في مذكراتها "الأم ماري تأتي إلي"، الصادرة حديثاً عن دور نشر عدة في بريطانيا والولايات المتحدة في أكثر من 300 صفحة، إذ تتجاور ضمنها حادثة طفولية يجري إسكاتها فيها داخل نطاق الأسرة مع مشهد أوسع لإسكات الأصوات المعارضة في الهند المعاصرة، ولقاء عابر مع امرأة يتحول إلى تأمل في قانون العمل.
رغم أنف القانون
تفتتح روي كتابها بتلك المرثية، "ربما أكثر من حزني على أمي، أنا حزينة على الكاتبة التي فقدت أكثر موادها سحراً. في هذه الصفحات ستعيش أمي، بطلتي المفضلة".
لم تكُن ماري أمّاً عادية، بل حكاية تستحق أن تروى في مجلدات. فهذه المرأة التي خرجت من زواجها بلا شيء تقريباً، إذ كان القانون آنذاك يحرم النساء المسيحيات من الميراث، استطاعت خلال ستينيات القرن الماضي تحويل قاعة متواضعة تابعة لـ"نادي الروتاري" في كوتايام إلى مدرسة، ستصبح لاحقاً إحدى أهم المؤسسات التعليمية في كيرالا. وخاضت كذلك واحدة من أبرز المعارك القانونية في تاريخ الهند الحديث، حين انتزعت من المحكمة العليا حكماً يضمن للمسيحيات حقهن في الميراث بعد عقود من التمييز.
كانت ماري امرأة صلبة ذات حضور طاغٍ، على رغم خيانة جسدها، فربوها الحاد استلزم مرافقاً يحمل بخاخها "كما لو كان تاجاً أو صولجاناً»، على حد تعبير روي. وعلى رغم ذلك، استمرت في إدارة مدرستها من فوق التل حتى انسحبت إلى عزلتها الأخيرة قبل نحو عقد من رحيلها عام 2022 عن عمر 88 سنة.
شكل رحيل الأم لحظة قطيعة في الزمن، دفعت روي إلى عامين من العودة للداخل، محاولة لفك أحجية العلاقة التي ربطتهما. وما إن انتهت المذكرات، حتى بقيت الأسئلة معلقة من كانت السيدة ماري فعلاً؟ لماذا تظهر في حياتها من دون دعوة؟ ولعل الأهم، هل تزورنا الأم ماري نحن أيضاً، وكيف نلتئم في حضرتها؟
فخ الأمومة
تبدو الأمومة من أغرب العلاقات وأكثرها تعقيداً، شبكة من المشاعر المتناقضة يمتزج فيها الحب بالقسوة، والرعاية بالتمرد، والتوق إلى الوصال برغبة جامحة في الفرار. هكذا تقدم روي رؤيتها عن تلك العلاقة "علاقة احترام متبادل بين قوتين نوويتين… ما دامت الحرب باردة". لكن العيش معها أشبه باختبار بقاء يومي، "نصف يتلقى الضربات، ونصف يسجل الملاحظات".
تكتب روي عن طفولتها في تلك القرية الرطبة على ساحل كيرالا، مسرح أحداث روايتها الأولى. فهناك في بيت يصطخب فيه خرير النهر مع صوت الأم الهادر، تلقت تعليمها برفقة شقيقها، وسط مجتمع يعج بأشخاص مهزومين، استمدت منهم شخصياتها الروائية.
وفضلاً عن سطوة الأم، تمتد ظلال أخرى، لعل أبرزها ظل الأب الذي خرج من عائلة كولكاتية معروفة، لكنه تلاشى تدريجاً، رجل كحولي، بلا جذور، وصفته زوجته بأنه مبتلى بـ"عادة الجلوس بلا فعل… لا يقرأ، لا يتحدث، لا يفكر". انتهى به المطاف مشرداً بين شوارع المدن وبيوت الإيواء ومزارع الشاي في آسام، مما دفع زوجته إلى الهروب كي تنجو بطفليها.
هذا الغياب الأبوي كان يقابل بحضور أمومي فائض، عنيف أحياناً، إذ إن ماري صبت جام غضبها على ابنها، وضربته يوماً حتى انكسرت المسطرة في يدها، فقط لأنه كان "عادياً" بينما كانت أخته متفوقة. أما أرونداتي، فكانت تراقب ما يحدث من ثقب الباب، وتلتقط درساً سيلازمها العمر، "منذ ذلك الحين، يأتي كل إنجاز شخصي مصحوباً بإحساس بالشؤم… حين يصفق لي أحد، أشعر أن شخصاً آخر، صامتاً، يضرب في غرفة أخرى".
الهروب الكبير
عندما بلغت الـ18، غادرت روي إلى دلهي لدراسة العمارة، ومنذ ذلك الحين أخذت المسافة بينها وأمها تتسع بلا شجار ولا مواجهة. تقول "هي لم تسألني لماذا غادرت… ولم يكن هناك داعٍ لذلك. اخترعنا كذبة تلائم كلينا: تركتني أرحل لأنها تحبني بما يكفي". أما زواجها القصير من المخرج براديب كريشن، فيبدو في مذكراتها أشبه بزلة، من الأفضل قصها من شريط الذاكرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ذلك، لا يسير الزمن باتجاه خطي، بل يتحرك في دوائر تشبه الدوامات، تضيق وتتسع، تروح وتجيء، على شاكلة الذاكرة نفسها. وهذا التيار الزمني يجرف السرد بين عوالم متباعدة، من كيرالا التي تختنق فيها، حتى أعمدة الكهرباء، بالأعشاب والنباتات المتسلقة، إلى دهاليز الوزارات والمحاكم التي شكلت مسرحاً لنضالات الأم، وصولاً إلى قسوة العيش في دلهي، تلك الفترة التي كانت فيها مفلسة لدرجة أنها لم تستطِع شراء حُلي، فابتكرت زينة من "خرز البقر" اشترتها من رعاة يتجولون قرب سكن الطالبات.
صفقة غريبة كما تقول، تركت "فتيات متخرزات في المهاجع، وأبقاراً بقرون عارية في الحقول».
ومع ذلك، لا يمكن اختزال هذه السيرة في هموم عائلية، فالكتاب يحتفي بتلك الكوميديا السوداء التي تنبثق من تفاصيل الحياة اليومية في بلدتين متناقضتين، كوتايام الصغيرة ودلهي المتضخمة. وتظهر شخصيات أقرب إلى الكاريكاتير منها إلى الواقع مثل طبيب الأسنان في كوتايام الذي كان يفتخر بأنه قوم أسنانها خلال مراهقتها، حتى إنه كان يفحصها علناً في الحفلات "مثل تاجر ماشية أو مشترٍ للخيول"، على حد وصفها.
لكن الأجمل، ذلك الخيط الموسيقي الذي ينساب في خلفية للنص، جو كوكر وجيمي هندريكس وجانيس جوبلين و"البيتلز" ومسرحية "يسوع المسيح النجم الأعظم". وكانت أغنية "امنحيني مأوى" تدور على جهاز التسجيل بينما تعكف على مشروع تخرجها في العمارة، وأغنية "إنها تغادر البيت" رفيقتها وهي تدبر خطة الهروب من الأم. أما عنوان الكتاب، المأخوذ من إحدى أغاني "البيتلز"، فـ"هبط على معصمها كفراشة"، خفيفاً ومفاجئاً وملزماً في آن.
فمن تكون الأم ماري التي تأتي إليها؟ أهي الشخص نفسه الذي هربت منه؟ أم استعارة لهامش الهند، أولئك الذين لا يظهرون في سجلات التعداد ولا في تقارير التنمية، وتفضل بلادهم تجاهلهم والتخلص منهم؟ مهما يكُن، فإن الحضور الأثيري للسيدة ماري، المتسلل إلى النص في شذرات، يحمل بلا شك وعداً إلينا بالخلاص.