ملخص
بينما تمضي الولايات المتحدة قدماً في خططها لبناء مجتمعات سكنية للفلسطينيين في مناطق خضراء وتستقدم فرقاً من المهندسين لتطهير المواقع على أمل إبعاد المدنيين عن المناطق الحمراء التي تسيطر عليها "حماس" في ظل استبعاد نزع سلاحها قريباً يتجاهل الوسطاء، لا سيما مصر، تلك الخطة ويصرون على استكمال اتفاق غزة وعقد مؤتمر الإعمار الشامل للقطاع نهاية نوفمبر الجاري في القاهرة وطلب ضغوط دولية لتحقيق ذلك.
فوق أنقاض منزله المدمر بمدينة غزة يعمل ياسر العزيزي (40 سنة) على تثبيت أوتاد خيمته المتهالكة والممزقة، استعداداً للمنخفض الجوي القادم، فالأمطار الغزيرة والرياح العاتية التي هبت على المنطقة خلال الأسبوع الماضي أكدت له بما لا يدع مجالاً للشك أن فصل الشتاء هذا العام سيكون كارثياً، ليس لأنه استفاق من نومه ووجد فراشه وبطانياته وملابسه غارقة بالمياه، بل لأن العثور على خيام جديدة لمن فقدوا خيامهم بسبب الأمطار بات أمراً صعباً جداً، فالخيمة الواحدة تكلف 500 دولار، كما أن القيود لا تزال مفروضة على عديد من المواد اللازمة لبناء الملاجئ، مثل أنواع معينة من أعمدة الخيام. وعلى رغم محاولاته اليائسة للحصول على واحدة مجانية، أفاد فرع مجموعة المأوى Shelter Cluster في فلسطين، التي تنسق استيراد وتوزيع المواد الإنسانية بين المجموعات التابعة للأمم المتحدة، أن أكثر 7600 خيمة قد سُرقت، وأن من بين 50 ألف خيمة دخلت غزة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، لم يُوزع سوى نحو 14 ألف خيمة للفئات الأكثر احتياجاً. وفى ظل التعقيدات الإنسانية والأمنية المتصاعدة منذ وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي والتحركات الميدانية والدولية الحثيثة حول مستقبل غزة، خرجت عناصر من "حماس" إلى الشوارع كقوات للشرطة والأمن الداخلي وقاموا بدوريات في الطرق التي تخضع لسيطرتها والواقعة غرب "الخط الأصفر" الذي يمثل نقطة انسحاب القوات الإسرائيلية بموجب المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي تمثل 47 في المئة من مساحة القطاع. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن سرقات المساعدات الإنسانية المقدمة من الأمم المتحدة ووكالاتها الشريكة، التي كان يتم اعتراضها قبل الهدنة وينهبها سكان غزة اليائسون أو تصادر من قبل عصابات مسلحة، انخفضت الشهر الماضي من 80 إلى نحو 5 في المئة فقط من الشحنات.
ووفقاً لأحدث استطلاع للراي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ومقره في رام لله، فقد نجحت الحركة بتعزيز نفوذها في المناطق الخاضعة لها منذ دخول الهدنة الهشة حيز التنفيذ، إذ عبر 51 في المئة من سكان غزة عن تقييم إيجابي لأدائها خلال الحرب، مقارنة بـ43 في المئة في مايو (أيار) الماضي، كما أظهر الاستطلاع أن 55 في المئة من السكان يعارضون نزع سلاح "حماس"، ويرفض 52 في المئة دخول قوة دولية لنزع سلاحها.
مناطق خضراء
صعوبة نزع سلاح "حماس" وإبعادها عن السلطة وتفتيت شعبيتها بين الفلسطينيين، وفق خطة الرئيس الأميركي المكونة من 20 نقطة، دفعت واشنطن للبحث عن حل عملي سريع يحافظ على الزخم ويمهد لإعادة إعمار طويلة الأمد تحت إشراف دولي، عبر تقسيم قطاع غزة إلى منطقتين، واحدة خضراء تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، تبنى فيها تجمعات سكنية موقتة مع توفير السكن والمدارس والمستشفيات لسكان غزة النازحين مع توفير الخدمات الأساسية التي سيشرف عليها مجلس السلام الدولي الذي أُنشئ بقرار من مجلس الأمن، بمشاركة واشنطن، وأخرى حمراء واقعة خلف "الخط الأصفر"، والتي تسيطر عليها حركة "حماس". وبحسب الخطة الأميركية الجديدة فإن المساكن التي من المقرر أن تتدفق إليها الأسر الفلسطينية من مناطق "حماس" ستظل قائمة وموقتة إلى حين تنفيذ إعادة إعمار دائمة وشاملة للقطاع، وعلى رغم أن البناء الفعلي لم يبدأ بعد فإن التخطيط يشمل تجهيز البنية التحتية وإزالة الأخطار قبل استقدام المدنيين، وقد بدأت ملامح أولى مراحل تلك الخطة تظهر في مدينة رفح جنوب القطاع، حيث أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن فرقاً هندسية أميركية بدأت بالفعل بإزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة تمهيداً للبناء. وفي وقت يرى معدو الخطة أنها محاولة لإضعاف سيطرة الحركة على القطاع، رأى محللون أنها تتعارض مع المادة الـ17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على "حماية الملكية وعدم جواز حرمان الفرد منها تعسفاً"، في حين أشار آخرون إلى أن المخطط يتعارض كلياً مع ما ورد في قرار مجلس الأمن 2308 الذي تناول الإغاثة وإعادة الإعمار ومساراً تدريجياً لنقل المسؤوليات الأمنية إلى جهات فلسطينية، "من دون التنصيص على أي صورة من صور التقسيم الجغرافي أو إعادة تشكيل السكان". وتقدر المنظمات الإنسانية العاملة تحت إشراف الأمم المتحدة أن نحو 1.5 مليون من سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة تقريباً يعيشون حالياً غرب "الخط الأصفر" في مساكن موقتة كالخيام، بسبب الدمار الواسع النطاق الناجم عن الغارات الجوية الإسرائيلية والقتال البري خلال الحرب، وفقاً للأمم المتحدة، فمع تضرر أو تدمير نحو 92 في المئة من المباني السكنية خلال الحرب، فإن الشتاء المقبل في غزة يتطلب أمراً أكثر جوهرية من الخيام، وهو إعادة الإعمار.
موقت دائم
في إطار التحولات المتسارعة التي يشهدها المشهد الأمني في قطاع غزة، وصعوبة تشكيل قوة دولية تعمل على نزع سلاح "حماس"، كما هو معلن، فإن خطة تقسيم القطاع إلى مناطق نفوذ بين الجيش الإسرائيلي وحركة "حماس"، وفق محللين، تقدم الولايات المتحدة برئاسة ترمب كوسيط يسعى لاحتواء الأزمة، عبر توزيع السيطرة، وخلق مناطق "آمنة" تحت هيمنة إسرائيل، وأخرى "محظورة" يظل فيها نفوذ "حماس" قائماً ضمن حدود واضحة، فالتحرك الميداني الذي يبدأ بإزالة الأنقاض وتأمين مناطق محددة جنوب القطاع، وتحصينها أمنياً سيحولها بشكل أو بآخر إلى مراكز إيواء دائمة تهدف إلى تجزئة المجال الفلسطيني وإعادة صياغة علاقة الفلسطينيين بالأرض تحت المراقبة الأمنية المشروطة بالامتثال.
ورأى مراقبون أن الخطة الأميركية لتخفيف معاناة النازحين، تحمل في طياتها هندسة سكانية من نوع آخر تسعى إلى إعادة رسم النزوح القسري للغزيين على أنه تجمع سكاني مراقب تتوافر فيه الخدمات الأساسية، الأمر الذي قد يحول تلك المناطق الخضراء تدريجاً الى مناطق دائمة لتثبيت وقائع سياسية جديدة، كما حدث في تجارب الإيواء الموقت للفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية منذ عام 1948. وبحسب ما جاء في مجلة "إيكونوميست" البريطانية، فإن خطط الإعمار في غزة "ليست عملية"، وأشارت إلى تحول الموقت لدائم في الشرق الأوسط، مستشهدة باتفاق أوسلو عام 1993 الذي تحول من موقت افترض استمرار السلطة الفلسطينية لمدة 5 سنوات انتقالية، لدائم تحكم فيه إسرائيل سيطرتها على الضفة الغربية منذ أكثر من 30 عاماً.
الكاتب والمحلل في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور رأى "أن الخطة الأميركية قد تكون حلاً موقتاً لمنح بعض الهدوء لسكان القطاع، إلا أنها تتسم بكثير من التعقيدات"، مرجحاً رفض الدول العربية تمويل مشروع إعادة إعمار يعيد هندسة القطاع وفق رؤية أميركية تفرض واقعاً دائماً تحت شعار الإغاثة. وقد أكدت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" التي تدير حالياً 100 مركز إيواء يضم أكثر من 80 ألف نازح أن الوضع الإنساني في قطاع غزة ما يزال كارثياً على رغم وقف إطلاق النار، مشيرة إلى أن أكثر من 90 في المئة من سكان غزة يعتمدون بالكامل على الإغاثة، في وقت لا يحصل فيه كثيرون إلا على وجبة واحدة فقط كل 24 ساعة، بينما يدخل إلى القطاع بمعدل يومي نحو 170 شاحنة، وهو رقم أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب لتلبية الاحتياجات الأساسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمن بلا سيادة
في رؤية تحليلية استشرافية للخبير في الشؤون الاستراتيجية والأمنية حكيم غريب فإن سيناريوهات الخطة الأميركية تميل إلى تكريس نموذج "السلام التعويضي" لا السلام السياسي، وتهدف إلى "إنتاج استقرار أمني هش يقوم على مقايضة الخدمات بالحياة، والحدود بالهدوء، والمساعدات بالإذعان لا معالجة جذور الصراع"، وفي رأي الكاتب "فإن تحول الاستقرار إلى وسيلة لإدامة السيطرة لا لإنهاء الاحتلال يحول غزة إلى نموذج مختبر لمعادلة أمن بلا سيادة، وسلام بلا دولة، وتعمير بلا حق تقرير المصير"، ورأى غريب أن إبقاء "حماس" ضمن المناطق الحمراء بحسب الخطة الأميركية سيُكرس ضمن الخطاب الدولي على أنه مشكلة أمنية يجب احتواؤها، بوصفها كياناً قابلاً للضبط وملائماً لاستمرار ديناميكية الأمن داخل القطاع، وهو ما قد يبرر بقاء الرقابة الإسرائيلية على الحدود، واستمرار إدارة الشأن الفلسطيني عبر وسيط خارجي. وفي الوقت الذي ترفض فيه الولايات المتحدة فكرة إشراك ميليشيات محلية مدعومة جزئياً من إسرائيل لضمان سلامة السكان المدنيين في المناطق الخضراء، ترفض إسرائيل أي وجود أو تدخل من قبل السلطة الفلسطينية.
في المقابل حذر "معهد تل أبيب للدراسات" التابع لجامعة "تل أبيب" من تداعيات رفض الحكومة الإسرائيلية أي دور للسلطة الفلسطينية في إدارة غزة، واعتبر ذلك "خطأً استراتيجياً فادحاً" ستكون له تبعات خطيرة على الأمن الإسرائيلي. وأوضح المعهد أن وجود قوة فلسطينية محلية، حتى وإن لم تكن في مواجهة مباشرة مع حركة "حماس"، يعد الضمان الوحيد لحرية إسرائيل في التحرك ضد انتهاكات الحركة، بينما يؤدي خيار تدويل الصراع وإدخال قوات أجنبية إلى تقييد إسرائيل ميدانياً، وجعل التدخل العسكري شبه مستحيل.
وجدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخيراً عدم قبول حكومته إنشاء دولة فلسطينية، حتى مع تزايد الضغوط الدولية، مؤكداً "أن معارضته قيام دولة فلسطينية على أي أرض لم تتغير قيد أنملة". وحسب الاستطلاع الذي أجراه معهد "لازار" أخيراً فقد عارض 67 في المئة من الإسرائيليين قيام دولة فلسطينية مقابل 17 في المئة فقط أيدوا قيامها.
مؤتمر إعمار
بينما تمضي الولايات المتحدة قدماً في خططها لبناء مجتمعات سكنية للفلسطينيين في مناطق خضراء وتستقدم فرقاً من المهندسين لتطهير المواقع، على أمل إبعاد المدنيين عن المناطق الحمراء التي تسيطر عليها "حماس"، في ظل استبعاد نزع سلاحها قريباً، يتجاهل الوسطاء، لا سيما مصر، تلك الخطة ويصرون على استكمال اتفاق غزة وعقد مؤتمر الإعمار الشامل للقطاع نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في القاهرة وطلب ضغوط دولية لتحقيق ذلك. وشددت حركة "حماس" من جانبها على رفضها التام أي محاولاتٍ إسرائيلية لفرض واقع جديد في القطاع، معتبرة أن التجمعات الموقتة تشكل خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار وتضع الوسطاء والدعم الأميركي أمام مسؤوليات كبيرة لمنع تقويض الاتفاق. فمصر التي أبدت تحفظات على الخطة الأميركية وتسعى جاهدة لاستكمال اتفاقات المرحلة الثانية التي تشمل انسحابات إسرائيلية وترتيبات أمنية وإدارية للقطاع، تخشى من أن تؤدي التجمعات الموقتة للفلسطينيين في رفح إلى توسيع النفوذ الإسرائيلي قرب حدودها، خصوصاً مع تمسك إسرائيليين ومتطرفين في الحكومة الإسرائيلية برؤية تهجير الفلسطينيين نحو سيناء.