ملخص
على رغم قناعتي بأن الأزمة الحقيقية في السياسات الإسرائيلية وليس في الأوضاع الفلسطينية، من المفيد إسراع السلطة الفلسطينية في مسيرة الإصلاح الذاتي، وفقاً لمقررات المؤتمر الأممي برعاية سعودية- فرنسية، لعدم إعطاء الذريعة لإسرائيل والولايات المتحدة للتلكؤ في المضي قدماً، وبما يسهل من تثبيت الهوية الفلسطينية للمؤسسات الغزية وتجنب فصل ارتباطها بالضفة الغربية، وتأخر إسرائيل في الانسحاب، وهناك أخبار عدة عن وجود خطط لتقسيم غزة بين منطقة مؤمنة إسرائيلياً وأخرى معزولة فلسطينياً.
رأيتُ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة اتفاقاً ضرورياً قبلته الأطراف المختلفة، بخاصة "حماس" وإسرائيل، على مضض لاعتبارات داخلية مختلفة، وتبنته الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا التي سميت مجازاً "الدول الضامنة"، إزاء صعوبة قبولها باستمرار القتل الإسرائيلي الجماعي والمجاعات لسكان غزة الفلسطينيين، وتداعيات ذلك على مكانتها الإقليمية والدولية.
يقيناً أن الاتفاق أبرم على مضض، ومع تأييدي للطرح السياسي السليم الذي قدمته مصر في مؤتمر شرم الشيخ بحضور جمع كبير من القادة على المستويين الإقليمي والدولي، كنت واعياً منذ البداية أن الوصول بالاتفاق إلى بر الأمان، بالتطبيق الأمين والشامل لنقاطه الـ20، معرض لأخطار عدة، ويحتاج إلى مفاوضات مكثفة ومواقف رصينة، والتمسك بأصول الشرعية في ترجمة عناصر كثيرة، من بينها تشكيل وولاية الجهاز الإداري الدولي الموقت والآخر الفلسطيني لقطاع غزة والترتيبات الأمنية وولاية القوة الدولية وتأمين المساعدات الإنسانية والمرتبطة بإعادة بناء وتعمير القطاع، وربط كل ذلك بانسحاب القوات الإسرائيلية، ووضع التحرك بأكمله في إطار إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة إلى جوار إسرائيل، مما يفترض التزام وضع الصبغة الفلسطينية لكل ذلك واحترامها، إلخ.
لكل هذه الاعتبارات وتقديراً للصعوبات المتوقعة وإيماناً بضرورة التحرك الدبلوماسي الشامل، وصفتُ اتفاق غزة مجازاً بأنه أقرب إلى الاتفاق الإطاري المكتوب بالقلم الرصاص لأنه يحتاج إلى التحصين والتدعيم، وطالبت وما زلت أطالب بتحصينه دولياً بالصورة المناسبة من مجلس الأمن الأممي لإعطائه الهوية السليمة، ولكي يتسق مع الشرعية الدولية، باعتبار أن الأمم المتحدة هي التي أصدرت كثيراً من القرارات بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، فضلاً عن أنها المنظمة التي أصدرت قرار التقسيم الذي يُعدّ أساس شرعية إسرائيل والمرهونة بإقامة دولة فلسطينية أيضاً.
لهذه الاعتبارات لم أحبط من القلق والانزعاج أو أتسرع في التفاؤل عندما تقدمت الولايات المتحدة بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، ومن بعدها روسيا، لم أنزعج لأنه من الطبيعي والمنطقي أن تكون الولايات المتحدة شريكة أو متجاوبة مع ما يصدر عن المجلس إذا كان من المنتظر تنفيذ الاتفاق المنسوب في المقام الأول إلى الرئيس ترمب وإدارته، إنما لم أتفاءل لأن مشروع القرار قدم أميركياً في أول الأمر من دون تشاور كافٍ مع الأطراف العربية المعنية، فضلاً عن أن الإدارة أعلنت في أول الأمر أن عناصر القرار غير قابلة للتفاوض، وهو موقف "عنتري" وغير جاد، لعلم الجميع أن القرار لن يمر من دون مفاوضات لتأمين تماشي نصوصه مع أهداف اتفاق غزة، وأن الأطراف الأخرى في المجلس، بخاصة الدول دائمة العضوية لن ترتاح للإدارة الأميركية أحادية التوجه والمنحازة إلى إسرائيل بالانفراد بقرارات المجلس وتوجهاته.
على رغم أنني من مؤيدي إصدار قرار من مجلس الأمن في هذا الخصوص وفي أقرب فرصة، بل لعلي كنت أول من بادر باقتراح ذلك، كانت لي تحفظات عدة على أسلوب ومضمون الصياغة الأميركية الأولى لمشروع القرار، ومن أهم أسباب تحفظي عدم ربط تلك الصياغة والإجراءات بالحل النهائي و"حل الدولتين" بصورة مناسبة، فضلاً عن عدم تأمينها من ممارسات إسرائيلية تقليدية بعدم تنفيذ واجباتها والتذرع بمخالفات آخرين لتثبيت الأوضاع على ما هي عليه، مما يترتب عليه تقنين ضمني للاحتلال الإسرائيلي للقرار، فضلاً عن علمي بانحياز الولايات المتحدة إلى إسرائيل ورفضها تحميلها مسؤولية أية إخفاقات، كما أن المشروع لم يراعِ مسؤولية مجلس الأمن في حفظ الأمن والسلم الدوليين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق الحل السلمي للنزاعات كنت وما زلت مؤمناً بأن أفضل وسيلة للتعامل مع الصعوبات والمواقف هي التصدي الموضوعي بالموافقة أو التعديل أو الرفض، مع طرح أفكار بديلة وإجراء اتصالات دبلوماسية مكثفة ومتعددة للاستفادة من الزخم الدولي الذي أيد الطرح المصري في شرم الشيخ، مع الاستعداد لاتخاذ قرارات بالموافقة أو الاعتراض على النصوص في نهاية المطاف وفقاً لمدى توافقها مع الشرعية الدولية، ولعل من مؤشرات صحة هذا التقدير أن الولايات المتحدة طرحت نسخاً عدة لمشروع القرار، متضمنة بعض التعديلات الجزئية استجابة لملاحظات دول عربية وإسلامية قبل أن يُقرّ من قبل المجلس، من ضمنها إشارة إلى تقرير المصير والدولة الفلسطينية، مما أزعج الجانب الإسرائيلي بشدة.
ومع صدور قرار المجلس الإثنين في الـ17 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري بموافقة 13 عضواً وامتناع روسيا والصين، يجب أن تكون هناك متابعة دقيقة لتنفيذ كل بنوده، حفاظاً على الأهداف المرجوة من اتفاق وقف إطلاق النار كاملاً بتفسيرات شرم الشيخ، والاحتياط من المماطلة وتلكؤ إسرائيلي معتاد، وصيانة للعناصر الأساسية للشرعية الدولية من دون انتكاسة أو تعديل، سعياً إلى إقامة دولة فلسطينية بجوار إسرائيل، بخاصة مع الإشارات المتكررة للمسؤولين الإسرائيليين برفض ذلك.
هناك سبل مختلفة لتأمين تلك المتابعة، ونقاط عدة واجبة المتابعة بدقة حفاظاً على ما تحقق، وتجنباً لأن يساء استغلال قرار مجلس الأمن لخلق عقبات نحو الحل بدلاً من آلية لإحراز تقدم.
أولاً، يجب أن نشهد تكثيفاً في الاتصالات العربية والإسلامية وغيرها للتأكيد على شمولية الهدف وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي مع متابعة دقيقة وحاسمة لاستمرار انسحاب إسرائيل من قطاع غزة.
ثانياً، من المفيد تشكيل لجان فنية من الدول العربية والإسلامية وآخرين لمتابعة الموقف والتطبيق السليم لبنود الاتفاق، تمهيداً لاتصالات سياسية عالية المستوى مع الجانب الأميركي إزاء أية تجاوزات.
ثالثاً، يجب تكثيف الاتصالات وزيادة الدعم الإنساني وإعادة تعمير غزة وهناك المبادرة المصرية بعقد مؤتمر الدعم الإنساني.
رابعاً، على رغم قناعتي بأن الأزمة الحقيقية في السياسات الإسرائيلية وليس في الأوضاع الفلسطينية، من المفيد إسراع السلطة الفلسطينية في مسيرة الإصلاح الذاتي، وفقاً لمقررات المؤتمر الأممي برعاية سعودية- فرنسية، لعدم إعطاء الذريعة لإسرائيل والولايات المتحدة للتلكؤ في المضي قدماً، وبما يسهل من تثبيت الهوية الفلسطينية للمؤسسات الغزية وتجنب فصل ارتباطها بالضفة الغربية، وتأخر إسرائيل في الانسحاب، وهناك أخبار عدة عن وجود خطط لتقسيم غزة بين منطقة مؤمنة إسرائيلياً وأخرى معزولة فلسطينياً.
خامساً، في هذا السياق يجب الاستفادة من التزام الغالبية العظمى من المجتمع الدولي بالمفهوم الأشمل لاتفاق غزة وفقاً لقراءة شرم الشيخ لاتفاق غزة، بغية تجنب الانتهاء إلى اتفاق جزئي ومرحلي يثبت الأمر الواقع من دون نية حقيقية من جانب إسرائيل لتنفيذ كامل، ولا سيما في ما يتصل بالانسحاب من غزة ضمن مسار نحو حل القضية الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.