ملخص
ما برحت فرنسا تحيي هذا العام، الذكرى المئوية الأولى لولادة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عام 1925 والذكرى الـ30 لرحيله المفاجئ عام 1995. ويعد دولوز من أبرز فلاسفة النصف الثاني من القرن الـ20، وهو الذي ترك بصمته العميقة في الفلسفة والأدب والتفكر في الفنون جميعها، منذ أن بدأ التدريس والكتابة في مطالع خمسينيات القرن الماضي حتى وفاته.
منذ بدايات هذه السنة توزعت في باريس وفي بعض المدن الفرنسية الكبرى سلسلة من الأنشطة الفكرية والندوات والمؤتمرات تحت شعار "جردة دولوز"، نظمها مركز بومبيدو بالتعاون مع المكتبة الوطنية الفرنسية وجامعة باريس الثامنة، فضلاً عن مشاركة عدد من دور النشر والجامعات والمراكز الثقافية في احتفاء جمع بين الذاكرة والتجديد، وبين الفكر والاحتفال. جمعت هذه الانشطة فنانين وأدباء وفلاسفة أعادوا قراءة أفكار دولوز على ضوء التحولات الفكرية والأزمات السياسية والبيئية والتكنولوجية والروحية. أما إذاعة "فرانس كولتور" فقد خصصت برنامجاً بعنوان "دولوز صوت الفلسفة"، استعادت فيه تسجيلات نادرة من دروس الفيلسوف.
لكن هذه الفعاليات لم تكن مجرد استعادة رمزية، بل مناسبة لحدث فكري حقيقي تمثل أخيراً بصدور دروس غير منشورة للفيلسوف عن دار "مينوي" (2025)، أشرف عليها أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون الأولى ديفيد لابوجاد الذي يتابع منذ أعوام مشروع تحقيق ونشر محاضرات دولوز في جامعة فانسان التي ستعرف لاحقاً بجامعة باريس 8، والتي كانت معقلاً للطلاب الراديكاليين ولغلاة الشيوعيين، لا سيما بعد الاحتجاجات الطلابية سنة 1968.
كتابان أساسيان
صدرت هذه الدروس في كتابين: حمل الأول عنوان "في جهاز الدولة وآلة الحرب" وهي عبارة عن الدروس التي ألقاها دولوز بين نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1979 ومارس (آذار) 1980 و"في خطوط الحياة"، وهي الدروس التي أعطاها ما بين مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من سنة 1980.
يقدم هذان الكتابان نظرة مميزة إلى فكر دولوز في لحظته المفصلية الأخيرة في فانسان، قبل انتقال الجامعة إلى مدينة سان دوني شمال باريس عام 1980، أي في المرحلة التي بلغ فيها مشروعه الفكري المشترك مع فليكس غاتاري قمة نضجه بين "أوديب مضاداً: الرأسمالية والفصام 1" و"ألف هضبة: الرأسمالية والفصام 2" ونقدهما الجذري للتحليل النفسي الفرويدي عموماً، ولمفهوم عقدة أوديب خصوصاً، والتي يعدها المؤلفان أداة لإخضاع الرغبة الحقيقية وحصرها داخل المثلث العائلي التقليدي: الأب والأم والطفل. بينما يرى دولوز وغاتاري أن الرغبة ليست حال نقص، بل طاقة إنتاجية إيجابية أطلقا عليها اسم "الآلات الراغبة"، أي القوى التي تتفاعل وتتصل لتكون شبكات وروابط أوسع، تتدفق بحرية ما لم تتدخل البنى الاجتماعية وعلى رأسها الرأسمالية والدولة لتنظيمها وتقييدها، كاشفان عن تناقض الرأسمالية التي تحرر من جهة تدفقات الرغبة في المال والسلع، لكنها تعيد من جهة أخرى إخضاعها لنظامها الخاص، مما ينتج إنساناً معاصراً يعيش تحت وطأة عصاب دائم.
يتوسع الكتابان الجديدان في معالجة هذه القضية المزدوجة، والتي تتقاطع فيها الفلسفة السياسية والأنثروبولوجيا، طارحين سؤال أصل الدولة وكيفية نشوء الإمبراطوريات القديمة التي أبدعت شكلاً جديداً من التنظيم السياسي والاجتماعي، والتي عالجها دولوز على هامش سؤاله عن ماهية الفاشية كظاهرة سياسية ونفسية في الوقت عينه. وقد قاده هذا السؤال إلى التفكر في كيفية تمكن الإمبراطوريات القديمة من الاستحواذ على الأراضي الجماعية وتحويل نشاط البشر إلى "عمل" وإخضاعهم للضريبة طارحاً من خلاله الأسئلة الآتية: كيف استولت هذه الإمبراطوريات على الأراضي والمجتمعات الحرة وفرضت منطق المال والاحتكار؟ وما الآليات التي مكنت "جهاز الاستيلاء" هذا أن يصبح الأداة التي لا غنى عنها للرأسمالية؟ وكيف نشأت الرأسمالية؟ وما الفرق بين أجهزة الدولة وآلات الحرب؟ وبفعل أية مصادفات أو حالات طارئة انتشرت هذه البنية الاجتماعية الجديدة في أرجاء الأرض كلها؟ ثم، كيف انقلبت أجهزة الدولة الحديثة إلى الفاشية أو التوتاليتارية؟ وكيف تحولت من جانبها آلة الحرب لتغدو اليوم مؤسسة للأمن العالمي تنتج أشكالاً جديدة من الفاشية؟ وأخيراً، ما الأسلحة التي نملكها اليوم لمواجهة هذه الأخطار؟
"جهاز الإستيلاء"
بغية الإجابة عن كل هذه الأسئلة، انطلق دولوز كما سبق وأشرت من دراسة تاريخية وأنثروبولوجية عميقة توقفت أمام تحول "جهاز الاستيلاء" تدريجاً إلى البنية المركزية للرأسمالية الحديثة، التي باتت بدورها تعتمد على الدولة لضبط التدفقات الاقتصادية والبشرية. وقد توصل في تحليلاته حد القول إن الفاشية ليست انحرافاً عن الدولة الحديثة، بقدر ما هي أحد وجوهها القصوى. ولعل هذا الوجه الحقيقي يتبدى عندما تبدأ "آلة الدولة" بالتهام "آلة الحرب" وتحويلها من طاقة حيوية دفاعية إلى أداة قمع داخلي شامل. لهذا طرح دولوز وغاتاري في "ألف هضبة" السؤال الآتي: بأي معنى يمكن أن تتحول الآلة المنتجة للحرية إلى آلة للعبودية؟
هذا السؤال وكل القضايا المرتبطة به، والتي عالجتها هذه الدروس المنشورة حديثاً جعلت منها دروساً راهنة كأنها ألقيت اليوم. ولعل صداها بدأ يتردد في أزمنة صعود السلطويات الجديدة وتحول الأمن إلى ذريعة للمراقبة الشاملة، وتداخل التكنولوجيا بالاقتصاد السياسي بهدف السيطرة.
يتناول دولوز إذا في هذه الدروس مسألة "تحول الفاشية إلى شبكة عالمية"، متوقفاً أمام إنتاجها لآلة أمن تنشأ أنماطاً جديدة من الخضوع. هذا التحليل العميق يذكرنا أن الفلسفة الدولوزية ليست تنظيراً تجريدياً، بل قراءة حية للتاريخ الراهن. لذا يشكل صدور هذا الكتاب حدثاً فلسفياً مهماً يعيد طرح سؤال "المقاومة" في زمن رأسمالية الخوارزميات.
أما كتاب "في خطوط الحياة"، فهو وثيقة إنسانية وفكرية نادرة. إنه آخر الدروس التي ألقاها دولوز في فانسان، قبل أسابيع من هدم مقر الجامعة ونقلها إلى مدينة سان-دوني. هناك، استعاد الفيلسوف مساره من "أوديب مضاداً: الرأسمالية والفصام 1" إلى "ألف هضبة: الرأسمالية والفصام 2" عبر مفهومه المحوري "الخطوط" التي ترسم حركة الإنسان في العالم. فيه يشرح دولوز أن حياتنا ليست وحدة متماسكة، بل نسيج من خطوط متقاطعة، بعضها صلب يجزئنا ويربطنا بالمؤسسات ويحبسنا في هويات ثابتة. وبعضها مرن يتيح التغيير، ليشهد على تصدعاتنا الصغيرة وتحولاتنا الشخصية. وبعضها الآخر يفتح أمامنا أفق الإبداع والانعتاق، لكن خطوط الهرب هذه قد تنقلب أحياناً إلى خطوط فناء وانمحاء كما في التجارب الفاشية أو الانتحارية. يكتب دولوز قائلاً إن المسألة ليست كيف نعيش، بل كيف نحدث في حياتنا عمليات تكون في صالح الحياة ذاتها. هكذا تتحول الأخلاق عند دولوز إلى فن للعيش لا يقوم على الأوامر أو النواهي، بل على القدرة على توليد قوى جديدة وعلى تفعيل ما هو مبدع في الإنسان بدل ما هو مكرر أو خانع. والأخلاق الدولوزية مرتبطة بلغة جديدة تتجاوز "الأنا" المغلقة، لتجعل من التفكير فعلاً من أفعال العالم لا مجرد تأمل داخلي.
رأى بعض النقاد أن هذه الدروس تكمل الأخلاق السبينوزية التي ألهمت دولوز في بداياته، لكنها تعبر بلغة القرن الـ20 عن أخلاق تقف ضد كل ما يعوق تدفق الحياة، كالموت حين يؤطر ويؤدلج، والمتعة حين تتحول إلى غاية نهائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبين لنا هذه الدروس إذا كيف كانت جامعة فانسان، التي تأسست سنة 1969 بعد أحداث مايو، مختبراً فريداً للحرية الفكرية. فقد كانت محاضرات دولوز التي يؤلف مجموعها متن هذين الكتابين تمتد لثلاث أو أربع ساعات متواصلة، يشارك فيها الطلاب والنقاد وعديد من المستمعين، ولم تكن مخصصة لتلقين المفاهيم، بل لتجريبها فعلياً في رحلة فكرية مميزة بعيدة من التبسيط والاختزال. ولعلها تؤكد أن دور الفيلسوف ينحصر في المحافظة على نظافة الفكر وتوتره الخلاق. يكفي أن أشير في هذا السياق إلى أن دولوز على رغم مرضه لم يتوقف أبداً عن التدريس بحماسة، لأنه رأى في الحياة صيرورة لا تتوقف على رغم الألم. من هنا، تبدو هذه الدروس، وقد حققت نصوصها بالاعتماد على تسجيلات متعددة، فضلاً عن إغنائها بالهوامش التي توثق المصادر والمراجع والحواشي التوضيحية التي تساعد القارئ على فهم السياقات الفكرية والإحالات التي يستخدمها الفيلسوف، جزءاً من تراث حي، يكشف عن فلسفة معيشة تمارس في لحظة القول، لا في لحظة الكتابة. وهذا ما يفسر إصرار دار "مينوي" على نشرها على رغم تحفظ الفيلسوف في حياته على إصدارها.
تظهر لنا هذه الدروس كذلك أن دولوز ليس فيلسوفاً من الماضي، بل هو "فيلسوف المستقبل"، وإن أفكاره والمفاهيم التي نحتها، والتي تناولت الرغبة والاختلاف والتعدد والآلة الاجتماعية، تستخدم اليوم لتحليل الشبكات الرقمية والذكاء الاصطناعي والحركات البيئية الجديدة والتي لم تكن قد وجدت بعد في زمنه. إن فكر دولوز صار مرجعاً عالمياً في ميادين شتى كعلم الاجتماع والنقد الأدبي والتحليل السياسي ودراسات السينما والفن المعاصر، مما جعله فكراً حاضراً ليس فقط على مستوى المفاهيم، بل أيضاً على مستوى أخلاقياته العميقة ودعوته الدائمة إلى مقاومة كل ما يسطح الحياة ويسخر الفكر.
هكذا نفهم اليوم قول فوكو إن "القرن سيكون دولوزياً"، لأن العالم الذي تخيله دولوز في سبعينيات القرن الماضي، عالم "التدفقات والاتصالات" و"التحكم بدل الانضباط"، هو تماماً العالم الذي نعيش فيه. وجيل دولوز الذي لم يكن فيلسوفاً منعزلاً، بل قارئاً نهماً مفتوناً بالفن والأدب والموسيقى والأفلام السينمائية، من نيتشه وبرغسون إلى بيكون وكافكا، والذي عاش ببساطة كشبه ناسك ولم يسافر كثيراً، ولم ينضم إلى حزب سياسي، ولم يتبع أي مدرسة فكرية، آمن أن الفلسفة تبدأ حين نكف عن تقليد الفلاسفة، وحين نصنع مفاهيمنا كما يصنع الرسام ألوانه أو الموسيقي أنغامه. لذلك يمكن القول إن فكره كما يتبدى في الدروس التي صدرت في هذين الكتابين الجديدين، إنما هو، حتى يومنا هذا، عبارة عن ورشة فكرية مفتوحة، قابلة لإعادة القراءة في ضوء كل أزمة جديدة. ففي زمن تتآكل فيه الثقة بالسياسة وبالمعنى، تبدو الفلسفة الدولوزية منفذاً للحرية تذكرنا أن الحياة لا تفهم إلا حين تعاش كإبداع وكموقف يقوم على شغف التفكير في العالم بغية خلق إمكانات جديدة للعيش فيه، على رغم الابتذال الذي بات يهدد كل شيء.