ملخص
في الربع الأخير من القرن العشرين حقق بعض المفكرين الفرنسيين نجاحاً كبيراً في الولايات المتحدة الأميركية على رغم اختلاف طروحاتهم ومجالات تفكرهم في الفلسفة والتاريخ واللسانيات والنقد الأدبي والتأويل الثقافي وأركيولوجيا المعرفة والسوسيولوجيا، وفي مناهج التفكيك الشهيرة التي خلقت لهم حساداً وأعداء في الجامعات الفرنسية كافة.
دخلت أعمال المفكرين الفرنسيين مثل جان بودريار وجيل دولوز وميشال فوكو وجاك دريدا وجورج باتاي وجوليا كريستيفا وغيرهم إلى أقسام الأدب والفلسفة في الجامعات الأميركية، فغيرت المشهد الفكري برمته. وبدأ الحديث عن "الفرنش ثيوري" أو "النظرية الفرنسية" التقطها بسرعة مثقفو القارة الجديدة في ظاهرة فريدة ما زالت قائمة حتى يومنا هذا. ذلك أن صدور الكتب التي عرض بعضها الأطروحات المميزة التي خلفتها هذه "النظرية الفرنسية" في الفكر الأميركي والتي انتقد بعضها الآخر مضمونها لم يتوقف منذ مطلع الألفية الثالثة. ومن هذه الكتب الكتاب الذي وضعه فرنسوا كوسيه أستاذ الحضارة الأميركية في جامعة نانتير تحت عنوان "النظرية الفرنسية، كيف غير فوكو ودريدا ودولوز وآخرون الحياة الفكرية في الولايات المتحدة الأميركية" (عام 2003، وصدرت ترجمته الإنجليزية عام 2008) والذي أعاد فيه تفسير هذه الفلسفات ودرس أسباب نجاحها في دخول حرم الجامعات الأميركية واعتمادها كأساس نظري للنضالات الهوياتية والدراسات الثقافية والجندرية وغيرهما، بعد أن استعاد أجواء سبعينيات القرن الماضي راوياً لقرائه مغامرات الفكر الفرنسي وراء البحار، موضحاً أن هذا الفكر الذي عمل الفرنسيون على وأده رسم صورة تحولات الفضاء الفكري والثقافي والسياسي في الولايات المتحدة الأميركية خلال العقود الأخيرة.
طبعاً ليست هذه المرة الأولى التي يتبنى فيها المثقفون الأميركيون أفكار المفكرين الفرنسيين. فقد حدث هذا قبلاً مع السوريالية والوجودية، غير أن اللافت في تملك الأميركيين للأفكار الفلسفية الفرنسية الجديدة هو توصلهم إلى ابتكار ما عرف بـ"النظرية الفرنسية". ولئن كان هذا التملك الإيجابي حدث في حرم الجامعات وقاعات دروسها ومراكز أبحاثها فإن هذه "النظرية الفرنسية" لم تسلك في وصولها إلى الصروح الأكاديمية الأميركية السبل التقليدية. ففي سبعينيات القرن الماضي قام بعض الأكاديميين الفرنسيين كسيلفير لوترانجي (1938-2021) وهو أستاذ الفلسفة الفرنسية في جامعة كولومبيا في نيويورك بتأسيس دار نشر ومجلة حملتا اسم "سميوتكست"، عملتا على ترويج كتابات المفكرين الفرنسيين المعاصرين أمثال دولوز وبودريار وفيريليو وغاتاري وفوكو من منظور ما بعد حداثي، يوم كانت أميركا مسكونة برغبة جامحة لملامسة الكينونة الإنسانية في عين ذاتها ليس فقط على المستوى النظري بل على مستوى الحياة العملية في كل أبعادها، من خلال التجارب الفردية المنفتحة على تحرر الذات والمتوسلة تعاطي المخدرات وممارسة الجنس وسماع موسيقى الروك كسبيل من سبل معرفة الإنسان إمكاناته الوجودية.
ولعبت هاتان المؤسستان دوراً مهماً في إطلاق ما عرف فيما بعد بـ"الفرنش ثيوري" فكانتا أول من دعا المفكرين الفرنسيين إلى أميركا ورتب لهم لقاءات غير مسبوقة مع الفنانين الأميركيين، كذاك اللقاء الذي تم بين جيل دولوز وفيليكس غاتاري والموسيقي والمغني والشاعر الأميركي بوب ديلن.
النظريات الفرنسية
وبعد السبعينيات استمرت شعبية "النظرية الفرنسية" في الأوساط الفنية الأميركية، أي خارج الأوساط الجامعية. إذ غالباً ما استشهد الفنانون الأميركيون بمقاطع من كتابات المنظرين الفرنسيين وبخاصة من كتاب دولوز "ألف هضبة" الذي وضعه بالتعاون مع المحلل النفسي فيليكس غاتاري عام 1980، ونصوص دريدا التفكيكية. وشكلت هذه الاقتباسات والاستشهادات سنداً لأعمال بعضهم ورأوا فيها مناسبة للتحدث عن أنفسهم ولو "سطحوا" في بعض الأحيان مضمونها. لكن هؤلاء الفنانون أسهموا من دون أن يدروا في نشر هذه النظريات والأفكار التي أصابت "لوثتها" السينما وأغاني موسيقى البوب وعالم الأزياء وفن العمارة، على رغم أن بعضها كفكر الفيلسوف وعالم الاجتماع الثقافي جان بودريار (1929-2007)، الذي اشتهر بتحليلاته المتعلقة بوسائط الاتصال والثقافة المعاصرة والتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية والأدوار الجندرية والاقتصاد والتاريخ الاجتماعي والفن واستنباطه مبادئ المحاكاة والواقع المفرط، قد تم تحريفه. لكن الجمع بين النظريات الفرنسية والأعمال الفنية أدى في معظم الأحيان خدمة كبيرة للمفكرين الفرنسيين.
ومع ذلك كان لا بد للنظرية الفرنسية بغية البقاء حية في الولايات المتحدة الأميركية من المرور بجامعاتها. وها هي أقسام الأدب واللغة الفرنسية في أميركا تفتح أبوابها للنظرية الجديدة، فتتربع أبحاثها وكتاباتها المستندة إلى أفكار الفلاسفة الفرنسيين على عرش العلوم الإنسانية من خلال التعامل مع مفاهيم مرنة، على رغم غموضها وتقاطعها مع مجالات اختصاصات أخرى وجدت في هذه التصورات والمفاهيم ضالتها المنشودة.
وفي غضون أعوام قليلة بدأت تظهر في أميركا ميادين أبحاث جديدة كالدراسات الثقافية أو "الكالتشورال ستاديز" التي لجأ إليها الباحثون والطلاب لتأكيد انتقالهم إلى مرحلة النضوج من خلال المفاهيم والتصورات التي نحتها المفكرون الفرنسيون، والتي روجت لها دور النشر كـ"ما بعد البنيوية" و"ما بعد الحداثة"، و"ما بعد الماركسية"... إلخ.
ولكن هذا الاستخدام الساذج لهذه النظريات لم يمنع ظهور دراسات علمية رصينة كانت فيها قراءة نصوص المفكرين الفرنسيين دقيقة وذات أهمية كبيرة، على رغم أن السياق الفكري الذي جعل التزاوج بين الفلسفة الفرنسية العقلانية والفلسفة الأميركية التحليلية والبراغماتية ممكناً. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الدراسات ما بعد الاستعمارية وسياسات الهوية، أي التحليلات النقدية لتاريخ وثقافة وواقع القوى الاستعمارية الأوروبية، التي وفقاً لفرنسوا كوسيه نجحت في إخراج "النظرية الفرنسية" من الركود النصي من خلال الاعتراف بتأثيراتها السياسية. وأشير في هذا السياق إلى أعمال المنظرة الأدبية والأستاذة الجامعية غياتاري سبيفاك المولودة في الهند عام 1942 في مجال دراسات ما بعد الاستعمارية والدراسات النسوية والتي نقلت إلى اللغة الإنجليزية بعض كتب جاك دريدا المنظور إليها كواحدة من النصوص المؤسسة لهذا النوع من الدراسات، وإلى أعمال الفيلسوفة جوديث باتلر المولودة عام 1956، ودراساتها الثقافية والجنسانية والتي طورتها من خلال قراءة فلسفات فوكو والتوسير ولاكان ودريدا وسيمون دو بوفوار، وكتابات المفكر الأدبي والأستاذ الجامعي الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد (1935-2003) ودراساته المرتبطة بما بعد الكولونيالية...
الأقليات الثقافية
واعترف هؤلاء الباحثون بطريقة أو بأخرى بالمساهمة الكبيرة للنظرية الفرنسية في ما يتعلق بفهم أوضاع الأقليات العرقية والجنسانوية. وللمرة الأولى في تاريخ أميركا خرجت النقاشات من أروقة الجامعات وقاعات محاضراتها ووصلت إلى وسائل الإعلام وأصبحت أسماء دريدا وفوكو وبودريار متداولة على نطاق واسع على صفحات الصحف والمجلات، وعبر أثير الإذاعات والبرامج التلفزيونية المختلفة، إلخ. ولاحظ المتابعون لهذه النقاشات الفكرية أنها ابتعدت عن اعتماد النموذج الماركسي والنظرية النقدية المستوحاة من مدرسة فرانكفورت، وأنها اكتفت في سجالاتها ونضالاتها المستعرة خارج الجامعات بـ"النظرية الفرنسية" ومفاهيمها ومصطلحاتها العديدة، علماً أن المهتمين بـ"الفرنش ثيوري" رأوا أن إمكانات هذه النظرية الفكرية لم تستغل بالكامل بعد. ويبدو أن الأميركيين سيسوا هذه النظرية عندما تمسكوا بجزء منها لفهم تعقيدات العلاقات الإنسانية في ظل نظام عالمي جديد يسعى وراء السيطرة المطلقة.
ومن يتابع تاريخ الأفكار يلاحظ ظهور طبقة جديدة من المثقفين العابرين للحدود تركز في كتاباتها على "النظرية الفرنسية" في محاولة منها لبناء "نظرية عالمية" تعمل على فهم تعقيدات العالم المعاصر كتلك التي طرحها الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور (1947 – 2022).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان برونو لاتور من أوائل الذين أدركوا أهمية الفكر البيئي والذين دعوا إلى إعادة بناء الجغرافيا السياسية في زمن العولمة وتحفيز العمل الجماعي لمواجهة أزمة المناخ. فانتقد في كتاباته الرأسمالية واعتبر المعرفة العلمية منتجاً مشتركاً لعدد من التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتي عرفت باسم نظرية "الشبكة الفاعلة". واستعان لاتور في بعض نصوصه بأفكار ومفاهيم مفكري "النظرية الفرنسية" وكذلك فعل الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير (1940) الذي اتبع في أوقات مختلفة من عمله المسارات التي فتحتها هذه النظرية، وبخاصة في كتابه "الثلاثون اللامجيدة" الذي حاول فيه فهم الانحدار السياسي الذي يعيشه العالم اليوم، منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي والتي نظر إليها فوكوياما وغيره، كمرحلة سيسود فيها الإجماع على الديمقراطية. لكن رانسيير شرح كيف أن الديمقراطية ستولد نقيضها. وها هوذا في تحليلاته لأحوال العالم يعرج على جائحة كورونا وفترات الحجر التي تسببت فيها، فيستعرض تفجيرات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 وصعود الشعبوية في الغرب، وأعوام حكم ترمب وموجة الاحتجاجات العالمية التي بدأت بالربيع العربي، وكذلك احتجاجات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا وغيرها من الأحداث التي يعالجها بقراءة وعتاد فلسفيين لافتين.
إن النظريات الفلسفية التي ظهرت في فرنسا بعد أحداث مايو (أيار) 1968 والتي تلقفها المثقفون الأميركيون، ثم أعادوا تشكيلها باسم "النظرية الفرنسية" أسست للثقافة النيوليبرالية. فدريدا الذي ذهب بفكره نحو أعمق أعماق الميتافيزيقا الغربية نزع الشرعية عن القانون حين استبدله بمبدأ عدم القدرة على وضع معايير واضحة لاتخاذ القرارات، وهو ما يتوافق تماماً مع النيوليبرالية. ودولوز الذي عارض الرأسمالية "الأبوية" هيأ الساحة للأقليات الهوياتية في الرأسمالية المعاصرة. وفوكو الذي لم يكتف في تفحصه الآليات الاجتماعية والنظرية التي كانت وراء الاختلاف الرهيب بين نظم العقاب في العصر القديم والعصر الحديث، والذي انتقد جميع المؤسسات في وقت كانت فيه النيوليبرالية تهاجم السلطة رأى في النيوليبرالية أملاً لمواجهة المجتمع التأديبي وعقوباته الجائرة. وجوديث باتلر التي اتجهت نحو إنكار الواقع من خلال الجمع بين القوة الخيالية المطلقة والإيمان الأعمى بالتكنولوجيا العلمية...
إن السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً في زمن الرأسمالية والكوارث العالمية هو هل ما زالت "النظرية الفرنسية" قادرة على رفدنا بالأدوات المعرفية الضرورية لفهم عالمنا وللإضاءة على الصراعات التي يعيشها الإنسان المعاصر؟ أم هي خدعة من خدع التاريخ في مرحلة ما بعد الحداثة المؤسسة على ثقافة مبنية على الانتهاك الدائم، ومكونة من "غيتوات" هوياتية وعدوانية؟ ليس لدى المفكرين المتابعين لتقلبات العالم وأحواله من أجوبة واضحة على هذين السؤالين الملحين. والغد لناظره قريب.