Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التراث الغائب: ماذا بقي من اللباس التقليدي اللبناني؟

تميزت تلك الحقبة بالأزياء الفاخرة والفخامة التي ظهرت في التفاصيل لكن مع مرور الوقت اندثرت ولم يبق من الزي شيء

مع مرور الأجيال، فقد الفولكلور اللبناني حضوره القوي، على رغم أهمية دوره في صون الهوية الوطنية والثقافية (صورة مدمجة عبر الذكاء الاصطناعي)

ملخص

شهد لبنان في القرن 19 ازدهاراً لافتاً في الأزياء الفولكلورية التي عكست فخامة المجتمع وهويته الثقافية، إذ تميزت تلك المرحلة بما عرف بـ"عصر الحرير والبذخ" وزينت الملابس بخيوط الذهب والفضة والمجوهرات.

وكان "الطنطور" أبرز قطع الأزياء النسائية ورمزاً للمكانة الاجتماعية، ومع دخول التأثير الأوروبي وانتشار الموضة الغربية، تراجع استخدام اللباس التقليدي تدريجاً حتى اختفى من الحياة اليومية، مما أدى إلى فقدان جزء مهم من التراث والهوية.

في ذاكرة الأوطان، يبقى التراث خيطاً من ذهب يربط الماضي بالحاضر، ومرآة تعكس هوية الشعوب وفرادتها الثقافية، فالأزياء الفولكلورية ليست مجرد أقمشة وألوان، بل لغة تعبر عن التاريخ والانتماء والمكانة والذوق الجمعي الذي صاغ ملامح كل حقبة.

في لبنان، حيث تتقاطع الحضارات وتتعانق الجبال مع البحر، حمل القرن الـ19 مزيجاً من الترف والرمزية، فكان زمن "الحرير والبذخ"، حين تحول اللباس إلى فن يروي حكاية المجتمع والطبقات والأعراف.

لكن مع مرور الأجيال، فقد الفولكلور اللبناني حضوره القوي، على رغم أهمية دوره في صون الهوية الوطنية والثقافية وحفظها ونقلها بين الأجيال. وهذا ما يشكل تهديداً حقيقياً مع فقدان تلك الهوية التي تربط الأجيال بتاريخهم وتسهم في بناء المستقبل على أسس التاريخ والماضي وقيمه.

 

 

حقبة ترف وحرير

لكل قطعة اعتمدت في لبنان خلال القرن الـ19 رمزية معينة وقصة، ولم يظهر أي منها ويحقق انتشاراً عن عبث، لكن بعيداً من التفاصيل التي تتعلق بالقطع التي راج اعتمادها، وفي نظرة عامة إلى الأزياء الفولكلورية في تلك الفترة، يبدو واضحاً أن عنوانها كان الفخامة بالنظر إلى الألبسة الفاخرة التي اعتمدتها الطبقات الغنية آنذاك، فأتت مزينة بزخارف من الذهب والفضة والمجوهرات والتطريز.

هذا بالفعل ما يؤكده المصمم جو شليطا الذي يستحضر بقوة الفولكلور اللبناني والتراث في أعماله، وقد أطلق مجموعة أزياء فولكلورية مستوحاة من تلك التي اعتمدت في لبنان قبل عشرات السنين.

يصف شليطا تلك الحقبة في لبنان بـ"عصر الحرير والبذخ"، وفيها تفرد لبنان بهوية ثقافية برزت من خلال الموضة والأزياء التي اعتمدها الأجداد، فشكلت مرآة لها.

وكانت الألبسة آنذاك مزينة بخيوط الحرير التي نسجها أهل الجبل وحملت توقيع "جبل لبنان"، وقد غلبت عليها الفخامة المستوحاة من العثمانيين والأوروبيين. في الوقت نفسه، كانت الأزياء تعبر عن الطبقية السائدة والحضارة والجمال اللبناني الأصيل.

ويقول "بالنسبة إلى لبنان، كان القرن الـ19 بالفعل أجمل حقبة في تاريخ الموضة اللبنانية، ولعلها أكثر المراحل التي عكست هوية البلاد. وتعود جذور تلك المرحلة للأمير فخر الدين الثاني، الذي بنى علاقات مع أوروبا من القرن الـ17، وأحضر معه الفنون منها والحضارة وحرفة الحرير التي حققت انتشاراً واسعاً آنذاك".

ويتابع "شكلت مبادرته الشرارة التي جعلت لبنان، أهم مراكز تجارة وصناعة الحرير في تلك المرحلة التاريخية، لذلك فلم تقتصر أهمية صناعة الحرير التي اشتهر بها لبنان على الجانب الاقتصادي، بل كانت عبارة عن هوية حضارية كاملة".

مع الانتشار الذي حققته صناعة الحرير في لبنان، أصبحت بيوت تربية الدود لصناعة الحرير منتشرة على امتداد الأراضي اللبنانية من شمالها إلى جنوبها، ومنها مدن في كسروان وجبيل وزغرتا، مع مصانع في بلدة برمانا وغيرها من المناطق.

وقد تعامل المصنعون مع تجار من فرنسا وإيطاليا، وبعدها شيئاً فشيئاً، أصبحت الأقمشة اللبنانية من أفخر ما يصدر للعالم، لذلك ودخل الحرير اللبناني إلى البيوت، وطغى على الأزياء، وحتى على هوية المرأة والرجل.

حتى أن الألوان أصبحت أكثر غنى وباتت الأقمشة أرقى، والزخارف التي تزينها أكثر دقة، ويشير شليطا في حديثه إلى أن كل خيط كان يحكي قصة طبقة وذوق وهوية.

الطبقية المجتمعية في اللباس

كثيراً ما كانت الموضة مرآة تعكس الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة في حقبة معينة، وفي تلك الفترة في لبنان، تحت حكم الأمراء الشهابيين ومن بعده حكم بنظام المتصرفية، وأصبحت الطبقية الاجتماعية والاقتصادية واضحة في المجتمع، وقد انعكست في الأزياء.

ففي القرن الـ19، كانت الأزياء في لبنان تعكس المستوى الاجتماعي والدين والطبقة.

وكانت النخبة في المجتمع من عائلات ميسورة، وكبار التجار، وأعيان المدن والجبال، تلبس أقمشة فاخرة مثل الحرير والمخمل المطرز بالذهب أحياناً، ليظهروا ثرواتهم ومكانتهم.

وارتدت العائلات الأرستقراطية الحرير المطرز بخيوط الذهب والأحزمة المرصعة، أما الفلاحين في القرى، فكان لباسهم أبسط وله جانب عملي، مثل السراويل الصوفية والجلابيب المتواضعة. حتى أن أغطية الرأس مثل الطربوش والعمامة أو الطنطور (غطاء رأس تقليدي لبناني) عند النساء، كانت تدل على الطبقة والمكانة الاجتماعية.

 

 

كما توجت العرائس بـالطنطور الفضي كرمز للوجاهة والجمال، أما الأميرات فارتدين الفساتين المطرزة المفتوحة بشق من كل جانب ليظهر من تحتها الشروال الواسع، كما كانت تربط بحزام قماشي على الخصر. وكانت الإطلالة تكتمل بـقبران فخم من المخمل أو البروكار، المطرز بخيوط الذهب والفضة.

أما الطبقة الاجتماعية الوسطى التي اكتسبت ثروات من تجارة الحرير، فمزجت الأناقة الأوروبية بالتفاصيل الشرقية، مثل دانتيل باريس، وأقمشة ليون، مع التطريز اللبناني.

في المقابل، حافظت النساء في القرى، على الثياب المطرزة وقد تزينت أيديهن بحلي من الفضة، وصارت هذه الإطلالات رمزاً للفولكلور اللبناني الأصيل.

بحسب شليطا جمعت تلك الحقبة بين فخامة العثمانيين، ورقي الأوروبيين، وإبداع الجبل اللبناني. فكانت الموضة عبارة عن لغة، تتكلم عن الهوية، والانتماء، والجمال الذي لا ينسى.

الطنطور... أبرز قطع الأزياء الفولكلورية

يعتبر الطنطور من أبرز قطع الأزياء الفولكلورية وقد تحول إلى رمز أساس من رموز التراث اللبناني، وأصبح وجوده راسخاً في الأذهان ضمن طلة متكاملة للزي الفولكلوري.

وتوصف هذه القطعة بأنها عبارة عن غطاء رأس تقليدي تضعه النساء المتزوجات، خصوصاً في قرى الدروز في جبال لبنان، مثل بلدة دير القمر، وقد تميز بطوله الذي قد يصل إلى متر. وكان طول الطنطور يعكس كرم العريس، فبقدر ما كان أطول كان ذلك مؤشراً للكرم الزائد للعريس.

هذا، وكان يصنع عادة من الفضة أو النحاس، ويهديه العريس للعروس يوم العرس. كما أن ارتفاع الطنطور وزخرفته كانتا من العلامات على الغنى والمكانة الاجتماعية، وما يؤكد أهميته أن السفراء والرحالة تحدثوا عنه بصورة وافية يكشف عن حجمه وجلاله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على سبيل المثال، تحدث المؤرخ جيمس باركر في عام 1836 عن الطنطور ووصفه ما يؤكد أهميته في التراث اللبناني، وما له من أثر مهيب واحتفالي في الإطلالة.

لكن اللافت بحسب شليطا، أن المجتمعات توقفت عن اعتماده تدريجاً لأسباب عدة. ففي النصف الثاني من القرن الـ19، كان الموارنة يستخدمون الطنطور. وبحسب ما نشر في    London Review في عام 1861، اعتمدت عروس مارونية الطنطور وقد أسقطت عن طريق الخطأ كأس "الميرون المقدس" في الكنيسة، هذا ما جعل الكنيسة تمنع استخدامه رسمياً، يضاف إلى ذلك أن الكنيسة أرادت أن تميز عادات المسيحيين عن عادات الدروز في تلك المرحلة.

لذلك توقفت في السنوات التي تلت النساء المسيحيات عن اعتماد الطنطور، بينما حافظت النساء الدرزيات على التقليد لفترة أطول، ويقول المصمم جو شليطا "الطنطور لم يكن مجرد أكسسوار، بل كان يعكس الهوية الاجتماعية كالزواج والثروة، إضافة إلى الهوية الدينية".

تغيير تدريجي ظهر في الأزياء

تماماً كما تتأثر أي بلاد بأخرى تربطها بها علاقات وثيقة، أو بسبب ظروف الاحتلال، أو الانتداب، أو غيرها، بدأ التأثير الأوروبي يظهر في لبنان من أوائل القرن الـ19، خصوصاً من خلال التجارة والإرساليات والقناصل.

وقد أسس الفرنسيون والأميركيون وغيرهم مدارس خاصة للبنات علمتهن القراءة والكتابة، ونقلت لهن العادات الأوروبية، ومن ضمنها اللباس والخياطة والأشغال اليدوية.

ومن منتصف القرن الـ19 حتى نهايته، بدأت النخبة من الطبقات الاجتماعية والمتعلمين تعتمد اللباس الأوروبي، والسترات، والقصات الغربية للنساء، مع الحفاظ على الأقمشة والزخارف المحلية.

حصل هذا التغيير تدريجاً في ما بقي اللباس التقليدي والخمار العثماني موجوداً في الريف، وانتشرت الأزياء المتأثرة بالموضة الأوروبية في المدن مثل بيروت، لذلك أصبح اللباس الأوروبي علامة على الحداثة والتعليم والمكانة الاجتماعية.

هذا ما يؤكد أن الأزياء في لبنان كانت مرآة الطبقية في المجتمع، وكانت أقرب إلى لغة اجتماعية من حيث الأقمشة والقصات وأغطية الرأس، فكلها عكست الطبقة الاجتماعية والانتماء ومدى الانفتاح والحداثة.

 

 

ما بقي وما اندثر

يأسف شليطا لأن الفولكلور اللبناني لم يعد له حضور في لبنان اليوم، ولم يعد أحد يعتمد اللباس التقليدي بصورة مباشرة وفي الحياة اليومية. وهذا ما لا يعتبر مبرراً، لأن ثقافات عديدة أخرى وحضارات حافظت على لباسها التقليدي على رغم مرور مئات السنين.

ويقول "في لبنان، فقدت الهوية الثقافية والتاريخية واندثرت تلك العلاقة بالجذور في مرحلة مبكرة من التاريخ، إلا أن تفاصيل بسيطة وعناصر معينة بقيت موجودة، منها الطربوش الذي بقي آخر الأكسسوارات من التراث التي اعتمدها الرجال حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي. وحتى الستينيات كانت تعتمده النخبة في المجتمع والسياسيين، علماً أن الطروبش كان قد دخل إلى لبنان مع العثمانيين".

كذلك بالنسبة إلى القبعة المخروطية التي تعتبر إرثاً مباشراً من الفينيقيين وتسمى "اللبادة"، وهي مصنوعة من صوف معصج، وكانت تلبس بالقرى، وآخر ظهور لها كان في أوائل السبعينيات.

أما بالنسبة إلى اللباس القروي التقليدي، فلا تزال بعض عناصره موجودة لدى مشايخ الدروز في القرى، مثل السروال الشرقي أو الشروال.

ويعتبر آخر ما حافظ عليه المجتمع من قطع ترتبط باللباس التقليدي، أما في ما عدا ذلك، فقد اختفى اللباس التقليدي اللبناني تقريباً من حياتنا اليومية.

عودة وطلب من المغتربين

على رغم أن الأزياء التقليدية غابت اليوم من حياة اللبنانيين، ثمة إقبال متزايد على الأزياء الفولكلورية واهتمام بها من المغتربين بشكل خاص.

وبحسب شليطا يهتم المغتربون في الولايات المتحدة الأميركية وأميركا اللاتينية بهذه الأزياء، من منطلق رغبتهم بالعودة إلى الجذور واستعادة تلك الصلة مع الهوية الوطنية. وبشكل خاص هناك طلب على الزي الفولكلوري للمناسبات والأعراس، وتحديداً الزي الذي كانت ترتديه الأميرات ويكون مفتوحاً من الجانبين وبأكمام طويلة ومن تحته شروال .

ويقول "في مختلف الدول العربية، هناك تمسك بالأزياء التقليدية ولا تزال معتمدة على نطاق واسع، بعكس ما حصل في لبنان. لذلك، أحرص على إعادة تكوين الفولكلور اللبناني بصورته الحقيقية من جديد بحيث بدأ يستعيد شكله الأساسي إنما بلمساتي الخاصة وأسلوبي، لأنه ضاع في العقود الأخيرة ولم يتم الحفاظ عليه بأي شكل من الأشكال أو الاحتفاء به. ومن الواضح أن الناس بدأت تقدّر مثل هذه المبادرة لاستعادة تراثنا والعودة إلى جذورنا".

ليس من السهل الحفاظ اليوم على الأزياء الفولكلورية لأسباب عديدة منها أنها تعتبر مكلفة بما أن من يعملون فيها هم من الحرفيين حكماً. فكلها تصنع بتطريز وزخرفة وصناعة يدوية وحياكة حرفية، أما الأقمشة فهي متوافرة في الأسواق بجودة عالية مثل المخمل الفخم، فتقدم الأزياء الفولكلورية بالجودة والرقي الذي كانت عليها في الأصل، ما يرفع كلفة هذه الأزياء لتصل إلى مستوى الهوت كوتور.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات