Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيحاء لبنان: بؤس اليوم لا يمحو ثراء الأمس

تمتلك هذه المدينة مقومات للاستثمار في السياحة الثقافية والتراثية نظراً لامتلاكها المئات من المواقع والمباني التراثية، على رغم الصورة النمطية التي تنتشر بأنها مدينة فقر وبؤس

ملخص

حمل انتخاب طرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2024 كثيراً من الأمل لأبناء المدينة، التي تقع شمال لبنان وتطل على البحر الأبيض المتوسط، تمتد على مساحة أكثر من 20 كيلومتراً مربعاً. وتقول بلديتها إن تأسيسها يعود إلى زمن الفينيقيين.

تختزن طرابلس اللبنانية كنوزاً تاريخية ضخمة، لا يمكن لأي احتفالية فلكلورية عابرة أن تفيها حقها. فالمدينة التي تعود جذورها إلى الحقبة الفينيقية، وتعكس روح الحضارة العربية، تعيش حالة مزرية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، إذ تتسع دائرة الفقر على حساب التنمية. ولا يعود السبب في ذلك إلى فقدان المقدرات المادية، والكفاءات البشرية فقط، وإنما إلى غياب الرؤية، وغيابها عن أولويات السلطة المركزية في لبنان.

عاصمة دائمة للثقافة

حمل انتخاب طرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2024 كثيراً من الأمل لأبناء المدينة، والمفارقة أن الاحتفالية ببدء الفعاليات جاءت متأخرة ستة أشهر. يبرر وزير الثقافة محمد مرتضى في حديثه إلى "اندبندنت عربية" ذلك بأن "الألكسو هي من حددت موعد الاحتفالية في نهاية مايو (أيار)، وجاء الحفل الرسمي بناء لرزنامة المنظمة"، ويؤكد مرتضى أن "طرابلس مدينة استثنائية بجميع المقاييس، وتستحق أن تكون عاصمة للثقافة العربية". طرح مرتضى في كلامه إشكالية "استحقاق طرابلس أن تكون عاصمة للبلاد بسبب المقومات التي تمتلكها، فهي تختزن ما يجعلها واحدة من أهم مدن المنطقة، ولكنها مهملة"، مشيراً إلى أن "هذه المناسبة تأتي لتسلط الضوء على ما تختزنه هذه العاصمة للثقافة الدائمة، لأنها مؤهلة لتكون عاصمة سياسية للبنان، ولكن استنسب أن تكون بيروت المدينة العظيمة هي العاصمة".

يأتي إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية في وقت تعاني مئات المواقع الأثرية داخلها من الإهمال، ويحيط الخطر بالمباني التراثية. ويقع على وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار عبء حمايتها. يؤكد مرتضى أن "طرابلس لا نظير لها، فهي ثاني مدينة مملوكية في العالم، كما أنها مدينة مأهولة، وليست مدينة أطلال"، مضيفاً "طرابلس بكليتها كانت مهملة، ولا يقتصر الأمر على الموروث الثقافي". ورداً على السياسة المطلوبة للحفاظ عليها في ظل الانهيار المالي، يجيب مرتضى "كل الفعاليات المقامة جاءت بموازنة صفر، فهي لم تكلف الخزانة العامة فلساً واحداً، وعدم تيسر التمويل الرسمي، لا يمكن أن يشكل عائقاً في حال توفرت نية التغيير".

احتفالية متواضعة  

بعد طول انتظار انطلقت احتفالية طرابلس عاصمة للثقافة العربية. في الشكل، نجح المنظمون في تسليط الضوء على "تحفة المعماري نيماير" أي معرض رشيد كرامي الدولي، بعد أن دخل قائمة الـ"يونيسكو للتراث العالمي الإنساني"، فيما امتاز الحفل بالبساطة، وتمكنت جهود الأوركسترا التي يقودها أستاذ الموسيقى هياف ياسين، والعرض المسائي لكورال الفيحاء في إخراج الفعالية من دائرة الرتابة، والحفلات "المسيسة"، فيما عبر كثير من الحاضرين عن استيائهم للأخطاء البروتوكولية، وغلبة الحضور السياسي على البعد الثقافي، وغياب وجوه ثقافية طرابلسية بارزة، وشريحة واسعة من المهتمين بالحفاظ على الإرث الثقافي والتاريخي للمدينة.

رسخت طرابلس البعد العربي للثقافة اللبنانية والطرابلسية، وهذا ما تمسك به الفنان عبدالحليم كركلا في حديثه مع "اندبندنت عربية" الذي شدد على أن "لبنان مركز حضارات، وكان المكان الذي تتوق الشعوب العربية لتأتي إليه، إنما يعاني اليوم من أزمة وجود"، مكرراً أن "اللبناني يعيش وفق وطنه الذي يعرفه، وليس الذي يفرض عليه"، الذي يتكامل مع عمقه العربي، ودول الخليج العربي الآخذة في النمو والتقدم الحضاري، فيما أكد وزير الشباب والرياضة جورج كلاس بدوره على تفاعل لبنان مع عمقه العربي، والثقافات العربية التي تتكامل مع بعضها، في انتظار عودة لبنان إلى مسار التألق والازدهار.  

نافذة لبنان الشمالية على العالم

تقع طرابلس شمال لبنان وتطل على البحر الأبيض المتوسط، تمتد على مساحة أكثر من 20 كيلومتراً مربعاً وعدد سكانها نحو 300 ألف نسمة. تقول بلدية المدينة إن تأسيسها يعود إلى زمن الفينيقيين إذ تم تأسيسها كاتحاد تجاري بين ثلاث مدن هي صور وصيدا وارواد.

تتألف طرابلس من منطقة سهلية ومن هضبتين هما أبي سمراء والقبة، ويخترقها من الغرب إلى الشرق نهر أبوعلي. وكانت محاطة فيما مضى من الشرق بكروم الزيتون ومن الشمال والجنوب والغرب ببساتين الحمضيات. إلا أن قسماً كبيراً من هذه البساتين قد تقلص نتيجة التوسع العمراني لا سيما من ناحيتي الجنوب والغرب. كما يوجد قبالة ساحلها عدة جزر أهما: النخيل أو الأرانب، الرامكين والسنني. وتشرف عليها شرقاً سلسلة جبال لبنان الغربية، التي تضم قمة القرنة السوداء وجبال القموعة والرز وبشري.

طرابلس تنتظر التنمية

تمتلك طرابلس كثيراً من المقومات التاريخية والثقافية والاقتصادية التي تجعل منها مدينة استثنائية على شرق البحر المتوسط. فهي تمتلك المرفأ الثاني في لبنان، كما كانت السباقة في تطوير وسائط النقل.

ففي بدايات القرن الـ20، كانت أولى المدن التي يسير فيها الترامواي، ثم أتت لاحقاً مبادرة أبنائها لإقامة سكة القطار الذي استمر في العمل إلى أواخر الحرب الأهلية. ناهيك بالمئات من المواقع الأثرية والتراثية التي تشكل "ثروة" يمكن أن تقوم عليها مشاريع التنمية الاقتصادية للمدينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول مدير عام الألكسو ولد أعمر "جاءت مبادرة إعلان المدن عواصم الثقافة العربية تخليداً للمكانة الثقافية، ومساهمة في تقديم الصورة المشرقة للثقافة العربية، ونفض الغبار عن الموروث الثقافي العربي، وإقامة المهرجانات، وتبادل الخبرات، ورعاية الإبداع"، والاحتفال حط رحاله هذا العام في طرابلس التاريخية، التي تضم قرابة 180 معلماً أثرياً متنوعاً تشكل وجه المدينة الحضاري. 

ولكن تفتقر هذه المدينة للرؤية التنموية التي يجب أن تواكب إعلان المدينة عاصمة ثقافية اللحظة، ويرى المدير العام السابق لوزارة الثقافة فيصل طالب الذي كان أحد الفاعلين في وضع طرابلس على قائمة الألكسو، أن هذا الإعلان "يفترض أن يجعل من طرابلس في عرس ثقافي دائم لمدة 12 شهراً، وفي هذه الحالة يجب أن يترافق الاحتفال الثقافي مع حركة تنموية عامة، تصيب المدينة بالإيجابيات التي تحتاج إليها".

غنى تاريخي وفقر اقتصادي

تنفرد مدينة طرابلس عن سائر المدن اللبنانية بالتفاعل المطلق بين التراث، والحداثة. يخلق هذا الأمر إشكاليات في بعض الأحيان إن لناحية الهوية أو الرؤية المستقبلية للمدينة. فهذه المدينة تمتلك نسيجاً عمرانياً أثرياً، يجعل منها مدينة سياحية بامتياز. تشكل قلعة طرابلس درة المواقع التاريخية، جنباً إلى جنب مع عشرات المساجد، والكنائس، والمدارس، إضافة إلى الخانات، والأسواق، والحمامات، والزوايا، والقصور وغيرها من الأماكن التي ما زالت تعصف بالحياة. وهو ما حدا ببعض المهتمين بالثقافة لإطلاق لقب "المتحف الحي" ناهيك باستمرار العشرات من الحرف التقليدية التي ما زال يمتهنها أبناء المدينة، إلى جانب المطبخ الغني، والاهتمام المنقطع النظير بالحلويات العربية.

يجزم المهندس المهتم بترميم المواقع الأثرية باسم زودة "امتلاك طرابلس كافة المقومات التي تجعل منها عاصمة للثقافة العربية، فهي تمتلك مخزوناً تاريخياً، وشغلت موقعاً مركزياً في الحضارات المتعاقبة منذ العصر الفينيقي، ومن ثم الروماني، وإبان الفترة الصليبية والإفرنجية، وصولاً إلى تحولها لمدينة العلم والعلماء بدءاً من الحقبة الفاطمية وتأسيس دار العلم، وإطلاق الصناعات والحرف".

ويصف المدينة بالشاهد على الحضارات تلك، وقد تركت كل واحدة بصمتها المعمارية، مذكراً أنه عندما فتح المماليك المدينة، مزجوا العناصر المعمارية من خلال الإضافات إلى المباني السابقة، تحت المظلة المملوكية الكبرى، قبل قدوم الحقبة العثمانية.

وقد تعدد الموروث الثقافي، وأخذ شكل القلاع والمباني الكبرى، كما كان له أثر في الفن، والزخرفة، والخط العربي، والشعر، والأدب، وظهور تيار واسع من العلماء الطرابلسيين.

لم يتوقف المسار الحضاري عند الحضارات القديمة، وإنما تجاوزها إلى دخول طرابلس حقبة الحداثة، فهي تضم أحياء كاملة مبنية وفق النمط الكولونيالي و"المودرن". كما تزدحم بدور السينما والمسارح، وخير شاهد على ذلك ساحة التل.

ناهيك بالقصور التي تشهد على بروز الطبقة البرجوازية الطرابلسية، إلى جانب معرض رشيد كرامي الدولي الذي صممه أوسكار نيماير، والذي يعد استثنائياً في أبعاده الفنية الحداثية على المستوى العالمي.

مدينة حية

تتنوع مظاهر الغنى الثقافي والتراثي الطرابلسي، وجولة سريعة في المدينة كافية، لينبهر الزائر بالتفاصيل التي تزخر فيها المدينة. ففي ساحة التل، يستقبله برج الساعة الحميدية العائد إلى الحقبة العثمانية، جنباً إلى جنب مع قصر نوفل، وحديقة المنشية، إذ تتمازج البيئة بالعمارة. صعوداً نحو الزاهرية ذات العمارة الحداثية.

تمتلك المدينة عدداً كبيراً من المواقع الدينية التي يمكن البناء عليها في أي استراتيجية، فهي تضم مساجد نفيسة، ونادرة التصميم، في مقدمها جامع الأمير طينال، والجامع المنصوري الكبير، والجامع البرطاسي القريب من قلعة طرابلس التاريخية، وجامع العطار قيد الترميم، وجامع الأويسية ذات القبة العظيمة، وجامع سيدي عبدالواحد الذي يحاذي ضريح الصالح عبدالواحد المكناسي بن عبدالسلام المشيشي المغربي، وعدداً كبيراً من المدارس التي ما زالت حاضرة منذ مئات السنين، مثل المدرسة الشمسية، والخاتونية، والسقرقية، والقرطاوية، وغيرها من المدارس.

إلى جانب عدد كبير من الكنائس الموزعة في مختلف أحياء المدينة، التي تمثل مختلف الطوائف المسيحية، ومنها كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، كنيسة القديس نيقولاوس، وكنيسة القديس إلياس للآباء الكرمليين، الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، وكنيسة مار مارون، كاتدرائية الملاك ميخائيل الزاهرية، وكنيسة سيدة الحارة. 

النكهة الطرابلسية

كما تحضر في الحياة اليومية العشرات من الحرف والخانات الحية، والنكهات المتوارثة عبر الأجيال. حيث تحظى طرابلس بسمعة جيدة على مستوى صناعة الحلويات العربية، وتنتشر في الأحياء الشعبية الورش المتخصصة في صناعتها.

في زقاق البيروتي، على مقربة من سوق الصياغين، يواصل الحرفي أبوهيثم العمل الذي اعتاد عليه منذ أكثر من ستة عقود، إذ يقصده الطرابلسيون لتذوق الكعك، والمعمول، والغريبة. ويقول إنه من عائلة امتهنت صناعة القشطة العربية، وتناقلتها عبر الأجيال، لافتاً إلى أنه يحافظ على أصول صناعة الحلويات التي يمتاز بها الحرفي الطرابلسي.

ليس بعيداً من مشغل أبوهيثم للحلويات، ينتشر في المدينة عدد كبير من المتخصصين بالأكلات الشعبية مثال حلاوة الشميسة والجزرية عند الحداد، والمغربية عند الدبوسي، فيما تدب الحياة في خان الصابون، إذ يستقبل الزائرين والسياح القادمين من كل مكان.

تستقبلك عند مدخل الخان العطور الجميلة المستخرجة من النباتات العطرية. يتحدث الحرفي حجار عن وراثة صناعة الصابون عن والده وأجداده، إذ حافظ هؤلاء على الحياة داخل الخانات التي تعود إلى عهد المماليك في عام 1480، وكانت تعتبر مكاناً لإقامة التجار القادمين من مناطق بعيدة إلى "طرابلس الشام" التي كانت مركزاً تجارياً مهماً عبر التاريخ.

يتمسك الحجار بالصناعة وفق الطريقة التقليدية أي "اليدوية وعلى البارد"، لأنها تشكل جزءاً من هوية وفرادة المنتج الطرابلسي الطبيعي، مطالباً بالحفاظ على الإرث الحضاري للمدينة، وتحديداً على القصور المهملة، وحماية الحرفي، وتشجيعه للحفاظ على مهنته التراثية.

كما تنتشر في طرابلس ورش التقشيش، وصناعة الأحذية لدى "الكندرجية"، والنقش على النحاس، إلى جانب الحمامات العربية التي تستمر في فتح أبوابها، وكذلك الخانات التاريخية مثل خان الخياطين، وخان المصريين، وخان العسكر، فيما تحضر ألوان الحياة في أسواق طرابلس المسقوفة، التي يقصدها الناس يومياً، بحثاً عن لذة التفاعل الاجتماعي.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير