Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في الذكرى الـ80 لاستقلاله... لبنان يواجه سؤال نهائية الكيان

خالد زيادة لـ"اندبندنت عربية": الدولة طرف ضعيف بين القوى النافذة

علم لبنان يرفرف في ساحة الشهداء بوسط بيروت (رويترز)

ملخص

محطات كثيرة طبعت تاريخ لبنان من استقلاله السياسي في 1943 إلى الفراغ في مؤسساته الدستورية

في الذكرى الـ80 لاستقلال لبنان السياسي عن فرنسا يقلب المفكر اللبناني خالد زيادة في أوراقه ليقدم عرضاً بأهم المحطات المفصلية في تاريخ بلاد الأرز، مستفيداً من خبرات راكمها طوال نصف قرن من العمل الأكاديمي والدبلوماسي، فهو شغل منصب أستاذ في "الجامعة اللبنانية"، قبل أن يصبح سفير لبنان لدى مصر بين عامي 2007-2016، ليتحول بعدها إلى مدير "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، خلال مسيرته الطويلة وضع عدداً كبيراً من المؤلفات التي كشفت عن جانب من جوانب تكوين الهوية العربية والإسلامية خلال القرنين الماضيين، ومنها "المسلمون والحداثة الأوروبية"، و"المدينة العربية والحداثة"، و"حوارات في التاريخ والثقافة".

 

ينتمي زيادة إلى مدرسة التفكير الهادئ، لذلك يعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال ليؤصل الواقع اللبناني، مشيراً إلى محطات رئيسة في تاريخ لبنان ترجع إلى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 التي "كان من المفروض الاحتفال عام 2020 بمناسبة مرور 100 سنة على الإعلان التأسيسي، ولكن أحداث الانتفاضة وانفجار مرفأ بيروت طرحت أسئلة جديدة حول الدولة ومسارها خلال 100 سنة".

تصويب تاريخي مهم

ينطلق زيادة من ضرورة التصويب حول مواقف الأطراف من "إعلان غورو" (الجنرال الفرنسي هنري غورو) لدولة لبنان الكبير، قائلاً، "ليس صحيحاً إن كانت هناك طوائف مع هذا الإعلان وطوائف ضده. فإذا رجعنا إلى التاريخ والوقائع سنجد أن كل طائفة من الطوائف كان فيها مؤيدون لهذا الإعلان ورافضون، بما في ذلك الطائفة المارونية. كان شقيق البطريرك الحويك (بطريرك الموارنة إلياس الحويك) معارضاً. وعادة ما يقال إن الطائفة السنية كانت معارضة للكيان اللبناني، وهذا أيضاً ليس دقيقاً لأن هناك فئات سنية كانت مؤيدة للكيان، ومشاركتها في السلطة أعطت مشروعية للدولة اللبنانية. ولا ننسى أن الشيخ محمد الجسر ترشح لمنصب رئاسة الجمهورية عام 1932، وقد علق الفرنسيون (المندوب السامي هنري بونصو) الدستور لمنع احتمال وصوله إلى الرئاسة. أما لماذا ارتبط رفض الكيان بالطائفة السنية، فلأن أطرافاً وازنة في السنة كانت مع مشروع الوحدة السورية، المشروع الوحيد المضاد لمشروع دولة لبنان الكبير".

يستمر زيادة في المسار التاريخي الذي مهد للاستقلال عن الانتداب الفرنسي، إذ "كانت المحطة الثانية المهمة في تاريخ لبنان الحديث تعود إلى عام 1936، حين عقد ما عرف باسم "مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة"، حضره نحو 100 شخصية إسلامية ومسيحية من المعارضين الذين أعلنوا اعترافهم بالكيان اللبناني"، وصولاً إلى "المحطة الثالثة التي كانت عام 1943، مع إعلان الاستقلال والميثاق الوطني، الذي عبر عنه بيان أول حكومة استقلالية الذي نظم العلاقات بين الطوائف، وعلاقة لبنان بالجوار والعالم"، مضيفاً "توالت بعد ذلك المحطات البارزة التي أثرت في تطور الجمهورية والعلاقة بين الطوائف مثل الثورة 1958، واتفاق القاهرة 1969، والحرب الأهلية 1975، واتفاق الطائف 1989، وتحرير جنوب لبنان 2000، واغتيال الحريري (رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري) 2005، حرب يوليو (تموز) 2006، وصولاً إلى انتفاضة 2019".

لبنان العصي على الإصلاح

في مرحلة ما بعد الاستقلال، شهد لبنان تجارب إصلاحية، شكلت تجربة الرئيس فؤاد شهاب (رئيس جمهورية راحل) مع بعثة "إيرفد" باكورتها على المستوى الاقتصادي، فيما تأخرت محاولات الإصلاح السياسي نظرياً إلى مرحلة "اتفاق الطائف"، والدعوة لإلغاء الطائفية السياسية.

ويؤكد خالد زيادة ان "التجربة الشهابية تبقى أبرز تجربة إصلاحية في تاريخ لبنان، فالرئيس فؤاد شهاب (1958-1964) جاء بعد اضطراب داخلي (الثورة على الرئيس كميل شمعون)، وهي ثورة ذات أبعاد إقليمية ومحلية، فالقوى السياسية المحلية كانت ضد التجديد لفترة رئاسية ثانية. والسبب الآخر انحيازه للمعسكر الغربي وحلف بغداد، في وقت كانت القومية العربية في أوج صعودها بعد إعلان الوحدة المصرية - السورية في فبراير (شباط) 1958"، مذكراً بـ"لقاء الرئيس فؤاد شهاب والرئيس جمال عبدالناصر، في فبراير 1959، الذي أدى إلى تحييد لبنان عن الصراعات العربية شرط عدم الانجرار إلى المشاريع الغربية، لقد أتيح للرئيس شهاب أن يبدأ بمشروع إصلاحات بعد تكليف بعثة "إيرفد" برئاسة الأب لوبريه (لويس لوبريه) دراسة الأوضاع الاقتصادية والإدارية، وغيرها، فوضعت تقريراً مفصلاً بالحاجات وخطط التنمية. قام الرئيس شهاب بمشروع لإصلاح الإدارة وتنمية المناطق النائية. وسلسلة الإجراءات الإصلاحية تضم عشرات المؤسسات والهيئات مثل مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، ومصرف لبنان، والجامعة اللبنانية، ومجلس المشاريع الكبرى، وغيرها، ولكن الرئيس شهاب لم يشأ أن يقوم بإصلاح سياسي، أو أنه لم يكن قادراً على ذلك. ويعد عهد الرئيس شارل حلو (1964 - 1970) امتداداً للفترة الشهابية، ولكن حرب 1967 وهزيمة عبدالناصر اعتبرت هزيمة للمشروع الشهابي. ظهر الحلف الثلاثي الذي استطاع في النهاية أن يأتي عام 1970 بالرئيس سليمان فرنجية الذي اعتبر انتخابه نهاية للمرحلة الشهابية".

ويذكر زيادة بعلامة فارقة طبعت مسيرة فؤاد شهاب "فهو دُعي إلى الترشح للرئاسة عام 1970 وأصدر بياناً عبر فيه عن يأسه من إصلاح النظام السياسي اللبناني".

الحروب والاستقواء بالخارج

خلال مراحل حياته المختلفة شهد لبنان كثيراً من الاضطرابات الأمنية والسياسية، تعد الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً ذروتها، في ظل الحضور الدائم للعنصر الخارجي. ويؤكد زيادة أن "الحروب والصدامات التي شهدها لبنان، منذ عام 1958، تظهر أن الاستقواء بالخارج، أي بطرف إقليمي، هو سبب رئيس للحروب الداخلية. وكان يمكن للصيغة اللبنانية - الميثاقية أن تصمد لولا الرياح العاتية التي تهب على لبنان من جواره، أو من أطراف خارجية. وإذا أردنا أن ننظر إلى الصورة بمنظار جيوسياسي، فإن إعلان دولة إسرائيل عام 1948، الذي استفاد منه لبنان بطريقة غير مقصودة وغير مباشرة، هو أصل المشكلات والانقلابات في المشرق العربي. ولبنان أظهر أنه الحلقة الأضعف لجهة إمكانية التلاعب بمكوناته"، مستدركاً "لكن من جهة أخرى أثبت (النظام اللبناني) أنه الأقوى على مجابهة التحديات، لهذا جرى ويجري تدميره من الداخل".

الطائفية السياسية والهويات القاتلة

أما في ما يتعلق بدور الطوائف في تحديد ماهية الواقع السياسي وبنية النظام المضطرب، والانتقال من المارونية السياسية، إلى السنية السياسية، وحالياً الشيعية السياسية، والارتباط بأطراف خارجية. فيقول زيادة "الطوائف ليست متشابهة في لبنان. لا شك أن إقامة دولة لبنان الكبير كانت مطلب الكنيسة المارونية. وقد استحوذ الموارنة على المناصب الرئيسة في الدولة الناشئة، وكان أبناء هذه الطائفة الأقدر على الإمساك بالمفاصل الاقتصادية في لبنان، وحين شعروا بأنهم يخسرون نفوذهم تسلحوا لمجابهة الخطر الإسلامي - الفلسطيني. وبعد (اتفاق الطائف) لم يكن مشروع رفيق الحريري أخذ ما خسره الموارنة، وحضور السنة بعد الطائف كان من خلال علاقات الرئيس الحريري الدولية والعربية ومشروعه في إعمار لبنان بعد الحرب. أما الشيعية السياسية فقد تطورت منذ الستينيات مع (حركة المحرومين) مع الإمام موسى الصدر، ثم من خلال تحالف قيادات الطائفة مع قوى إقليمية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي ما يتعلق بانطباق الواقع على وصف الأديب أمين معلوف بـ"الهويات القاتلة" في ظل تصاعد تأثير الهوية في السياسة، ومن ثم صعوبة تعايش هويات متعددة تحت سقف واحدة. يجيب زيادة "ما تحدث به أمين معلوف لا يستهدف لبنان فحسب، إنه قراءة للتغيرات التي شهدها العالم كما يتحدث عن تجربته الخاصة في تعدد الهويات. والواقع أن العالم ينتقل من الحداثة إلى عصر ما بعد الحداثة. جاءت فكرة الهوية القومية أو الوطنية على أنقاض الإمبراطوريات الجامعة لتعدد القوميات مثل الإمبراطورية النمسوية والدولة العثمانية، فكرة الدولة الوطنية تتجاوز الانتماءات الجزئية إلى هوية قومية ولغوية ودولة مركزية. الذي يحدث منذ عقدين أو أكثر هو تصدع فكرة الدولة القومية الصلبة إلى الهويات الجزئية طائفية أو دينية أو لغوية أو غيرها، إضافة إلى استيقاظ قوميات تعتبر نفسها مضطهدة وتطالب بحقوقها".

أما بالنسبة إلى تأثير القضية الفلسطينية على لبنان بوصفها قضية مركزية، وبروز نموذجين للتعاطي مع اللاجئين إما وفق صيغة "اتفاق القاهرة"، أو سياسة التضييق على المخيمات. يكرر زيادة "لا شك أن إعلان دولة إسرائيل 1948، هو أصل المشكلات والصراعات في المشرق والعالم العربي. ولبنان تلقى الآثار السلبية لكل التطورات منذ ذلك الوقت. والأخطار التي يتعرض لها لبنان متعددة وأبرزها تقويض أسس الدولة".

مرحلة السلام البارد واغتيال الرئيس رفيق الحريري

صاغ الرئيس رفيق الحريري بدقة مرحلة الخروج من الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ثم عملية إعادة الإعمار والبناء في ظل الوجود العسكري السوري في لبنان، وصولاً إلى اغتياله. يقول زيادة "لقد قيل كثير عن اغتيال الحريري، ولا شك أن اغتياله كان يهدف إلى إزالة إحدى ركائز التوازن الداخلي في لبنان". ويضيف "أدى هذا الاغتيال إلى انتفاضة غير مسبوقة في تاريخ لبنان طالبت بخروج الجيش السوري الذي رضخ للضغوط الدولية وانسحب من لبنان، مما أدي إلى رسم خريطة مستجدة للحياة السياسية تميزت بالانقسام الحاد بين فريقي 8 آذار (شكل الثنائي الشيعي "حزب الله" وحركة "أمل" عموده الفقري، وتحالف مع التيار الوطني الحر وآخرين)، و14 آذار (تحالف ضم تيار المستقبل، القوات اللبنانية، التقدمي الاشتراكي، والكتائب اللبنانية وآخرين). والذي ما زال يطبع الواقع السياسي"، لافتاً إلى أنه "بعد حرب يوليو 2006، مارس (حزب الله) ضغوطاً للتأثير في قرارات الحكومات يما في ذلك التعطيل الذي انتهى بانتخاب حليف الحزب ميشال عون للرئاسة".

الهوية الوطنية ونهائية الكيان والتقسيم

ثمانية عقود مضت على استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي، إلا أن سؤال نهائية الكيان ما زال قائماً، وكذلك الخلاف على الهوية الوطنية للبلاد، والتي تتمثل في أقل تقدير بعدم القدرة على كتابة "تأريخ موحد". يعتقد زيادة، الذي يحظى بمسيرة أكاديمية وجامعية لامعة، أن "المشكلة في كتابة واعتماد كتاب تاريخ موحد تكمن في المنهج، لأن الذين يكلفون بكتابة هذا التاريخ يريد كل واحد منهم أن يبرز أبناء طائفته والدور الذي لعبته. وأن تكون حصتها مساوية للطوائف الأخرى، علماً أن كتابة تاريخ الأحداث والأفراد خاضعة لتأويلات متناقضة"، مقترحاً "أن يكتب ويدرس تاريخ لبنان الحضاري والثقافي بدلاً من التاريخ الذي يقوم على الحروب والمعارك، التاريخ الحضاري يشمل العادات والتقاليد والإنتاج الزراعي والصناعي والأدبية والعلمية. بدلاً من الاختلاف حول ما إذا كان الأمير فخر الدين درزياً أو مارونياً وطنياً، أو غير ذلك".

أما في ما يتعلق بنهائية الكيان اللبناني، ينوه زيادة إلى البعد السياسي الإقليمي لهذه الإشكالية، "لا شك أن المراقب للأحداث منذ عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن سيلاحظ أن تغيرات كبيرة قد حدثت، وأبرزها حضور قوتين إقليميتين مؤثرتين هما إيران وتركيا. ومن قبل، أي قبل نصف قرن من الزمن، لم يكن أحد يحسب حسابهما في ميزان القوى السياسية. وكان العالم آنذاك تتحكم بصراعاته واستقراره قوتان عالميتان هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ومع تفكك المنظومة الاشتراكية فتح باب التغيرات العالمية على مصراعيه. وبالنسبة إلى منطقتنا يكفي أن ننظر إلى ما حدث ويحدث في العراق وسوريا"، مسلطاً الضوء على تأثير ما يجري في فلسطين على البلدان المحيطة "في اللحظة الراهنة والحرب العدوانية على غزة في أوجها، فإن احتمالات كبيرة يمكن أن تنجم عن نتائج الحرب على غزة ومضاعفاتها لن تكون آنية أو محدودة في الزمن، ولبنان ليس خارج هذه الجغرافيا"، بحسب زيادة.

من جهة أخرى، تبرز المطالبات بتطبيق اللامركزية الإدارية، أو حتى ضرورة إقرار الفيدرالية، بحسب أدبيات شريحة من اللبنانيين، في موازاة الطرح الدائم لإشكالية "المركز والأطراف".

يتابع زيادة، "تضمن اتفاق الطائف فكرة اللامركزية الموسعة في إطار التفكير بالإنماء المتوازن ومنح المحافظات الأقل نمواً، فرصاً لإدارة شؤونها بما يحقق أهداف التنمية، ولكن الطائف لم يطبق في عديد من بنوده الرئيسة مثل تشكيل لجنة لإلغاء الطائفية ومجلس الشيوخ وعدم اعتماد الطائفية في المناصب دون الفئة الأولى وغير ذلك"، جازماً "في الأزمات التي شهدها لبنان تطفو على السطح مشاريع التقسيم كما حدث أثناء الحرب التي انتهت بـ"اتفاق الطائف"، وخلال السنوات القليلة الماضية طفت على سطح النقاشات أفكار "الفدرلة"، وكل ما رأيناه وسمعناه، غير قابل للتطبيق لاعتبارات عديدة، أهمها التداخل الكبير بين الطوائف والتشابه، بل التطابق في أساليب المعيشة واللغة والأذواق والثقافة عامة. ولا شك أن مشاريع "الفدرلة" تظهر في الوسط المسيحي، وهي التعبير عن اليأس من أوضاع لبنان كما كانت في المخيال المسيحي، وناجمة عن الشعور بالتهميش وعدم القدرة على استعادة الدور الذي كان للموارنة بخاصة.

وبالنسبة إلى بعض القوى المسيحية، "(الفدرلة) خيار احتياط، في حال حدوث أية تغيرات دراماتيكية". يشدد زيادة على وجود مقاومة لهذا الطرح لأن "المسألة الأساسية هنا أن أطراف أخرى في لبنان ليست مع (الفدرلة)، من ثم لا يمكن تحقيقها من دون إرادتهم، وأن أية تغييرات وتقسيمات في بلد من البلدان مسألة لا تخص أبناء البلد، ولكنها تخص المجتمع الدولي والأطراف الفاعلة فيه. وقد رأينا أن محاولة الأكراد في العراق إعلان الانفصال قد أجهضت في اللحظة ذاتها". ليخلص إلى أن "ما يحدث في الواقع أن تصدع الدولة في لبنان وخسارة لبنان لأدواره والامتيازات التي كانت له، هي مما يشكل الخطر الحقيقي على الدولة التي تخسر يومياً نفوذها وتتحول إلى الطرف الضعيف بين القوى النافذة على الأرض. وما يحدث الآن هو نوع من (الفدرلة) الواقعية التي من مظاهرها انكماش كل طائفة على نفسها".

المزيد من حوارات