ملخص
خطة إدارة ترمب لما بعد الحرب في غزة تعاني من غياب رؤية تنفيذية واضحة، وافتقار للشركاء المحليين والإجماع الدولي، ما يهدد بتحوّل "الهدنة التاريخية" إلى أزمة جديدة. الوثائق الأميركية المسربة تكشف رغبة واشنطن في لعب دور مباشر في حكم غزة وسط فراغ سياسي ورفض إسرائيلي للسلطة الفلسطينية.
كشفت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية في تقرير مطول، عن وثائق سرية تداولها مسؤولون أميركيون تظهر مخاوف عميقة داخل إدارة الرئيس دونالد ترمب من تعثر اتفاق السلام في غزة بين إسرائيل وحركة "حماس"، بسبب صعوبة تنفيذ بنوده الأساسية وغياب رؤية واضحة للمرحلة المقبلة. وتبين الوثائق التي عرضت الشهر الماضي في إسرائيل على وفود من وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، أن الخطة التي قدمها ترمب على أنها بداية "سلام دائم" تواجه عقبات معقدة قد تحول الهدنة التاريخية إلى أزمة جديدة.
تقرير "بوليتيكو" أوضح أن مجموعة الوثائق التي جرى تداولها بين مسؤولين أميركيين، تبرز غياب خطة واضحة للانتقال من وقف إطلاق النار إلى مرحلة إعادة الإعمار والحكم الانتقالي في غزة. وقد عرضت هذه الوثائق خلال ندوة استمرت يومين نظمها الجنرال مايكل فينزل، منسق الأمن الأميركي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، في جنوب إسرائيل بمشاركة نحو 400 ممثل عن وزارتي الخارجية والدفاع ومنظمات غير حكومية ومؤسسات بحثية أميركية مستقلة مثل "راند".
الوثائق تتضمن 67 شريحة توضيحية قسمت إلى ستة محاور، وتظهر فجوة كبيرة بين الخطاب المتفائل الذي تروج له إدارة ترمب والواقع الميداني المعقد. وتتمحور أبرز التساؤلات حول إمكان نشر قوة استقرار دولية في غزة، وهي مبادرة أمنية متعددة الجنسيات يفترض أن تتولى حفظ السلام، لكن حتى الآن لا توجد إجابة واضحة حول كيفية تشكيلها أو تمويلها أو نطاق عملها.
وتوضح الشرائح التي حصلت عليها "بوليتيكو" أن الخطة الأميركية تتكون من مرحلتين. وتشمل المرحلة الأولى:
وقف العمليات العسكرية
انسحاب أولي للقوات الإسرائيلية
تبادل الأسرى والمحتجزين
إدخال مساعدات إنسانية
الشروع في إنشاء قوة الاستقرار الدولية
أما المرحلة الثانية، فتتضمن:
نزع سلاح "حماس"
انسحاب إسرائيلي إضافي إلى محيط قطاع غزة
تشكيل إدارة فلسطينية انتقالية
إشراف "مجلس السلام" Board of Peace الذي يترأسه ترمب على إدارة المرحلة الانتقالية والإصلاحات الفلسطينية
إطلاق خطة تنمية اقتصادية
لكن الوثائق تضع علامة استفهام بين المرحلتين، في إشارة إلى غياب آلية تنفيذية تضمن الانتقال من الهدنة إلى مرحلة الحكم المدني.
وتظهر الوثائق التي حصلت عليها "بوليتيكو" أن إدارة ترمب لا تنوي الاكتفاء بدور الوسيط الأمني، بل تسعى إلى دخول مباشر في إدارة شؤون غزة من خلال إشراف أميركي على ملفات الإعمار والاقتصاد والبنية التحتية، إضافة إلى ترتيبات الأمن. ويكشف أحد المخططات التنظيمية عن أن واشنطن تخطط لتنسيق واسع مع مؤسسات دولية وشركات خاصة لضمان استمرار نفوذها في القطاع بعد وقف الحرب. وفي رد رسمي على ما نشرته "بوليتيكو"، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية إيدي فاسكيز إن التقرير "يعكس جهلاً تاماً بآليات عمل الجهود الأميركية في غزة"، وأكد أن الجميع يسعى لأن يكون جزءاً من "الجهد التاريخي للرئيس ترمب من أجل السلام في الشرق الأوسط".
وأضاف فاسكيز أن خطة الرئيس ذات "النقاط الـ20" جذبت مقترحات من عشرات الدول والمنظمات، وأن الإدارة الأميركية "مستمرة في تنفيذها ودعم وقف إطلاق النار".
"بوليتيكو" ذكرت أن الوثائق تكشف عن مشكلات بنيوية تعرقل تنفيذ الخطة، أبرزها "الفراغ في الحكم" داخل غزة. فـ"مجلس السلام" لم يشكل بعد ويحتاج إلى مئات الموظفين، بينما تفتقر الإدارة الأميركية إلى شريك فلسطيني موثوق. وتشير إحدى الشرائح التوضيحية إلى أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية بحاجة إلى التدقيق في كوادرها وتدريبهم وكذلك تمويل طويل الأمد، في حين يظهر المخطط أن إسرائيل والسلطة الفلسطينية تملكان حق الاعتراض على قرارات مجلس السلام، وإن بدرجات وصيغ مختلفة.
ويقول أحد المشاركين في الندوة التي كشفت فيها الوثائق إن "الجميع يتحدث في مستوى استراتيجي بعيد من الأرض، ولا أحد يناقش كيفية تنفيذ الخطة عملياً"، مضيفاً أن الإدارة الأميركية "قد تقع في المستنقع نفسه الذي واجهته الإدارات السابقة في الشرق الأوسط".
مشروع ضخم يتجاوز قدرات الأجهزة الأميركية
وتشير "بوليتيكو" إلى أن تنفيذ خطة السلام الأميركية في غزة يشكل مهمة هائلة تتطلب موارد بشرية ومالية ضخمة، و"تركيزاً مستمراً على أعلى المستويات" داخل الإدارة الأميركية. فعلى رغم امتلاك وزارة الدفاع بعض التصورات المبدئية لدعم المرحلة الانتقالية، فإن وزارة الخارجية لا تزال غائبة نسبياً عن التخطيط بسبب تقليص برامج المساعدات الخارجية وإعادة هيكلة الإدارات المعنية بالشرق الأوسط.
ويؤكد ديفيد شينكر الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى خلال الولاية الأولى لترمب، أن الخطة "بحجم لا يمكن التعامل معه بالآليات المعتادة"، مشدداً على الحاجة إلى بيروقراطيين مخولين ومكرسين حصراً لهذا الملف. وأضاف أن الإدارة "أعلنت النصر بعد الهدنة وتبادل الرهائن، لكن المرحلة الأصعب، مرحلة التنفيذ الفعلي، لم تبدأ بعد".
وتوضح الوثائق أن النقص في الكوادر المؤهلة وتداخل الصلاحيات بين الوزارات الأميركية يعوقان وضع خطة واضحة لكيفية تحويل الهدنة إلى سلام مستدام، في وقت تتفاقم التحديات الميدانية والسياسية على الأرض.
غزة المدمرة: فراغ أمني يعيد تمكين "حماس"
وتظهر الوثائق، بحسب "بوليتيكو"، أن الواقع الميداني في غزة بعد الحرب لا يزال بعيداً من أي استقرار يمكن البناء عليه. فقد أعد "معهد بلير" الذي يشارك في أعمال الوساطة، تقارير ميدانية توثق مستوى الدمار الهائل في البنية التحتية والشلل الإداري الكامل. وتشير إحدى الوثائق إلى أن الجيش الإسرائيلي يسيطر حالياً على 53 في المئة من مساحة القطاع، بينما يعيش 95 في المئة من السكان في المناطق الخارجة عن سيطرته، حيث بدأت "حماس" بإعادة نشر عناصرها الأمنية وفرض سلطة قسرية عبر الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي التابعة لها.
عقبات سياسية ودبلوماسية
وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو اعترف خلال مؤتمر صحافي بقاعدة أندروز العسكرية في الـ22 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بأن "الطريق إلى السلام محفوف بالتحديات"، وأضاف أن الإدارة "تعلم أن كل يوم سيجلب عقبة جديدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما على الصعيد الدولي، فتشير "بوليتيكو" إلى أن واشنطن بدأت فعلاً توزيع مسودة قرار على مجلس الأمن لتفويض إنشاء "قوة الاستقرار الدولية"، تمهيداً لعقد مؤتمر للمانحين بعد صدور القرار. إلا أن كثيراً من الدول التي تطمح الولايات المتحدة لمشاركتها في القوة مثل إندونيسيا وأذربيجان وباكستان وتركيا، اشترطت وجود تفويض من الأمم المتحدة قبل إرسال قوات، فيما تتحفظ إسرائيل على مشاركة أنقرة تحديداً.
وقال أحد المشاركين في ندوة الجنوب الإسرائيلي إن "الدول مستعدة لتمويل الخطة، لكنها لا تريد إرسال جنودها"، مما يضع عبئاً إضافياً على واشنطن لتأمين القوة الميدانية.
من يحكم غزة بعد الحرب؟
يبقى السؤال الأكبر، بحسب "بوليتيكو"، هو الجهة التي ستتولى الحكم في غزة بعد الحرب. من جهتها تتوقع السلطة الفلسطينية أن تستعيد السيطرة على القطاع كما كانت عليه الحال قبل عام 2007، لكن الحكومة الإسرائيلية ترفض ذلك رفضاً قاطعاً، معتبرة أن السلطة فشلت في إدارة القطاع من قبل. أما خطة ترمب، فتربط مشاركة السلطة بإصلاحها الداخلي أولاً، مما يفتح الباب أمام فترة انتقالية طويلة بلا قيادة فلسطينية موحدة.
والوثائق المسربة تبين أيضاً أن الولايات المتحدة ستقوم بدور مباشر في إدارة غزة اقتصادياً وأمنياً، لكن لا يعرف بعد مدى التزام ترمب تخصيص موارد مالية وبشرية كافية، خصوصاً أن توجهه "أميركا أولاً" يعارض الانتظام طويل الأمد في نزاعات الشرق الأوسط.
في النهاية تخلص "بوليتيكو" إلى أن خطة ترمب التي وصفت بأنها "اتفاق تاريخي" تواجه تحديات متشابكة قد تفرغها من مضمونها، بدءاً من انعدام الثقة بين الأطراف مروراً بغياب البنية الإدارية وليس انتهاء بهشاشة الدعم الدولي وتمسك "حماس" بمناطق نفوذها على رغم الدمار.
وعلى رغم أن واشنطن تراهن على "قوة الاستقرار الدولية" لفرض واقع جديد، فإن الوثائق تشير إلى غياب الإجماع الدولي حولها، وإلى أن الطريق نحو "سلام غزة" الذي وعد به ترمب لا يزال محفوفاً بالغموض والشكوك.