Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين الرقمي والتقليدي... صراع الإعلام على غرف الأخبار

هناك اشتباك حقيقي يقوده القديم ممثلاً في ورق وسياق لإثبات الجدارة أمام الجديد من شاشة و"ترند" ومنصات

لم تتبدل مضامين الرقابة الداخلة على الإعلام في المعادلة السياسية بل تبدّلت أدواتها (أ ف ب)

ملخص

منذ دخول وسائط إعلامية مختلفة ظهر التوزيع المجاني والفوري والعابر للحدود للمعلومات التي كانت حكراً على وسائل الإعلام الصحافية التي تتألف من فريق كبير من المحررين والمراسلين والمصورين والتقنيين يديرهم رئيس التحرير، أما اليوم فقد بات توزيع المعلومات ونشرها تقودها التوصيات والمشاركات والخوارزميات بدلاً من رئيس التحرير وفريقه.

منذ عام 2000 انتقلت سلطة تشكيل الوعي من غرفة الأخبار إلى الخوارزمية، الإعلام لم ينتهِ، لكنه تخلّى عن امتياز الوصاية ودخل اقتصاد الانتباه، لهذا فإن الاشتباك الحقيقي ليس بين ورق وشاشة، بل بين سياق و"ترند"، من يوفّق بين سرعة المنصة ووضوح المعنى هو من سيحافظ على جمهوره وإيراداته معاً.

لم يكن التحول تقنياً فقط بل كان بمثابة تغيّر نموذج صناعة المعلومة بالكامل من بثٍّ عمودي تتحكم به مؤسسات محدودة، إلى توزيع لا مركزي تقوده المنصات والخوارزميات وسلوك المستخدم، ما أدى إلى تراجع مكانة الصحف والقنوات التقليدية، وصعود اشتراكات رقمية ومنصات بثّ وفيديو قصير و"بودكاست"، مع تغير طريقة الرقابة من القوانين إلى سياسات المنصات.

ما الذي تغيّر تحديداً؟

منذ دخول وسائط إعلامية مختلفة ظهر التوزيع المجاني والفوري والعابر للحدود للمعلومات التي كانت حكراً على وسائل الإعلام الصحافية التي تتألف من فريق كبير من المحررين والمراسلين والمصورين والتقنيين يديرهم رئيس التحرير، أما اليوم فقد بات توزيع المعلومات ونشرها تقودها التوصيات والمشاركات والخوارزميات بدلاً من رئيس التحرير وفريقه.

وتبدلت أيضاً طرق توزيع الإيرادات وإنتاجها بعد ظهور الإعلانات الرقمية التي تستهدف فئات معينة والتي تقدم نماذج اشتراك مرنة بدلاً من إعلانات مطبوعة أو يتم بث عبر الهواء التلفزيوني التقليدي، وهذا كلّه أدى إلى تغيّر في سلوك الجمهور، ونتج أيضاً من تغيّر هذا السلوك الذي يقوم على المتابعة عند الطلب في فيديو قصير أو "بودكاست" أو عبر تفاعل مباشر، وميل أقلّ للمواعيد التلفزيونية الثابتة.

خط زمني يختصر الانقلاب

بين عامي 2005 و2012 بدأت ما سمي صدمة المنصات الاجتماعية وبداية الاشتراكات الرقمية، حينها كانت قد بدأت تظهر قنوات التوزيع المجاني وبدأت الصحف تبني الاشتراكات الرقمية، حالة "نيويورك تايمز" تحولت من أزمة 2011 إلى تعافٍ قائم على حزمة منتجات رقمية وصلت إلى نحو 11.9 مليون مشترك إجمالياً في الربع الثاني من 2025، مع نمو ملحوظ في الاشتراكات الرقمية والإعلانات، وفق "وول ستريت جورنال"، وهذا يثبت قابلية نموذج الاشتراك حين يُدار كنظام تحرير منتج عبر توزيع موحد.

وبين عامي 2015 و2020 انطلق انفجار البث عند الطلب وتبدّل تعريف التلفزيون، وانتزعت منصات البث فكرة النشرة الإخبارية التي تبث في ساعة معينة مثل عادة "نشرة التاسعة"، وتظهر بيانات نيلسن أن حصة البث بلغت 44.8 في المئة من إجمالي المشاهدة في مايو (أيار) 2025، متجاوزة للمرة الأولى مجموع البث الأرضي والكابل، ثم ارتفعت إلى 47.3 في المئة في يوليو (تموز) 2025، وقد اعتبرت هذه الأرقام بمثابة نقطة تحوّل في سلوك المشاهدة لا مجرد تبدّل منصة.

وبين عامي 2023 و2025 بدأت عمليات تخصيص مدفوع بالذكاء الاصطناعي وقفزة في الإعلانات الرقمية، وتتجه صناعة الإعلام والترفيه إلى 3.5 تريليون دولار بحلول 2029، مع ترجيح كفّة الإعلان الرقمي كمحرّك نمو رئيسي، هذا يرسّخ اقتصاد الانتباه كبنية تشغيلية توجه التحرير والتوزيع، لا كتعبير نقدي عابر.

صندوق أرقام سريع

بلغت نسبة 44.8 في المئة حصة البث من إجمالي المشاهدة في الولايات المتحدة خلال مايو 2025، وبلغ إجمالي عدد مشتركي "نيويورك تايمز" نحو 11.9 مليون في الربع الثاني 2025، وبلغ متوسط زمن مشاهدة الفيديو المنزلي في المملكة المتحدة عام 2023، 4 ساعات و31 دقيقة مع زيادة يقودها "الاونلاين".

وكان مثل هذا الانتقال من وسائل الإعلام التقليدية نحو وسائل الإعلام الجديدة، واضح إقليمياً، فقد أنهت منصة "شاهد" النصف الأول 2024 مع 4.61 مليون مشترك وقرابة 18 مليون مستخدم AVOD نشط شهرياً، ما يشير إلى تشكّل سوق OTT عربي بمحتوى محلي وأدوات عالمية، وكان نمو الإيرادات الإعلانية لدى المنصة يعكس تحوّل المعلنين والجمهور معاً نحو المشاهدة عند الطلب والفيديو المدعوم بالإعلانات.

هل تغيّرت طرق الرقابة؟

لم تتبدل مضامين الرقابة الداخلة في المعادلة السياسية، بل تبدّلت أدواتها، إذ تقوم الخوارزميات بحسب طبيعة المشاهدة وعدد المشاهدين ونوعية المواضيع التي يتم اختيار مشاهدتها برفع حجم المادة الإعلامية التي تجذب الانتباه وتُقصي المحتوى البطيء الفهم أو غير الواضح أو الذي لا يقع عليه الطلب، إلا في حالات تقع في إطار سياسات الإشراف التي تضع حدود القول والصورة على المنصات، وقد أظهر تقرير الأخبار الرقمية 2025 لـ"رُويترز إنستيتيوت" تسجيّل تراجع الارتباط بالمنافذ التقليدية وصعود فيديو الأخبار و"البودكاست"، مع ثقة متوسطة، وصعود "مؤثّري الأخبار" كوسطاء جدد، هذا يعني أن تشكيل الوعي لم يعد حكراً على المؤسسات، وأن "الرقابة الناعمة" تُمارَس عبر التصميم الخوارزمي وسياسات المنصة وتفضيلات الجمهور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولهذا إذا ما طرحنا سؤال ماذا خسر التقليدي؟ وماذا ربح الجديد؟ فيمكن للإجابة أن تكون أن الإعلام التقليدي خسر امتياز الإيقاع الواحد والجمهور الواحد، بينما ربح الإعلام الجديد المرونة وسعة التوزيع وتحويل المتلقي إلى مشارك، وكان الثمن بروز هشاشة السياق في الطلب على المواد الإعلامية وتغير طرق استقطاب وبات أبرز هذه الطرق هي التنافس على الانتباه في الزمن الحقيقي، كالبث المباشر للأحداث في لحظة وقوعها.

أين غرف الأخبار العربية؟

طريق الخروج لغرف الأخبار العربية يبدأ من الاعتراف بأن نموذج الدخل القديم لم يعد يكفي وحده، فالمؤسسة التي تريد البقاء في زمننا المعاصر تحتاج إلى محفظة دخل موزونة من الاشتراكات الرقمية المرنة التي تسعّر بحسب مستويات الوصول، وإعلانات موجهة تعتمد بيانات واضحة للشرائح، ومنتجات جانبية تكمّل المحتوى الأساسي مثل النشرات البريدية المدفوعة، و"البودكاست" والفعاليات المباشرة.

الفكرة بسيطة وتقوم على ألا تضع كل البيض في سلة واحدة، عندما تتعثر سوق الإعلانات، تسندها الاشتراكات، وعندما يتباطأ نمو الاشتراكات، تفتح المنتجات الجانبية باباً جديداً للإيراد وبناء الولاء، ثم بعد تثبيت الأساس المالي، يأتي سؤال الشكل والمضمون، كيف نقدّم القصة نفسها بطريقة تجعل القارئ يفهمها بسرعة ويثق بها؟ هنا تدخل صحافة البيانات والسرد البصري.

البعض يعتقد أن هذه الطريقة تحول الصحافيين بشكل مقصود إلى مبرمجين، ولكن أصحاب الولاء للإعلام الجديد يعتبرون الأمر بمثابة إعادة تعريف دور الصحافيين أي تنظيم القصة في حِزم واضحة وخلق نص تحليلي موجز يشرح الفكرة قد يحتاج إلى إنفوغرافيك يختصر الأرقام، وفيديو قصير يعرّف المشاهد بالخط الزمني أو الخريطة أو الشخصيات، وبهذا الأسلوب، تُخاطَب الحواس المختلفة وتقلّ المسافة بين القارئ والمعلومة، وتزداد فرص الاكتشاف على المنصات التي تفضّل المحتوى القابل للمشاهدة والمشاركة.

لكن هناك من يعتبر أن توزيع الحِزم أهم من صناعتها، أي أن القصة الواحدة تحتاج إلى أكثر من "منفذ" واحد، المقال التحليلي يعيش على الموقع، وخلاصته الدقيقة تصل عبر النشرة، ومقاطع قصيرة منها تُقتطع لمنصات التواصل، وحلقة "بودكاست" تفتح الكواليس وتشرح ما لم يسمح به ضيق المساحة.

هذه ليست عملية "نسخ ولصق"، بل إعادة صياغة للمعنى نفسه بلهجات تناسب كل منصة بهدف جذب جمهور أوسع يحاول الوصول إلى فهم أعمق، بدلاً من الوصول إلى جمهور كبير يمرّ مروراً عابراً على الخبر المنشور أو جمهور صغير يُحمِّل نصاً طويلاً.

الأدوات الذكية

ولأن السرعة سمة هذا الزمن، فالأدوات الذكية ضرورة لا ترف، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجمع المواد الأولية بسرعة، ويفرز النصوص، ويقترح الكلمات المفتاحية، ويقارن بين قواعد بيانات، ويولّد مسودات أولى للملخصات أو عناوين بديلة، كل ذلك يختصر وقتاً ثميناً، لكن الحدّ الفاصل يبقى واضحاً في أن التحرير البشري هو طبقة الثقة الأخيرة، فالصحافي يراجع، ويدقّق، ويوازن، ويقرّر ما يُنشر وكيف يُصاغ. بهذه المعادلة تتجنب وسائل الإعلام التقليدية التي بدأت تعمل وفقاً لطرق نشر المعلومات الجديدة من الوقوع في فخ السرعة المضلِّلة، وتستفيد في الوقت نفسه من كفاءة الأدوات.

وهنا يبرز البعد الأخلاقي والمهني القائم على سؤال كيف نبني الثقة وسط ضجيج هائل؟ والإجابة عموماً تدور حول الشفافية، أي ذكر مصدر كل معلومة داخل المادة المنشورة، وعدم الخلط بين الخبر والرأي الخاص، والإعلان بوضوح عن سياسة تصحيح علنية تُحدّث عند الحاجة، ففي زمن تتشابه فيه القوالب وتتسارع الأخبار، تصبح الشفافية ميزة تنافسية وليست عبئاً لأنها تعني بالنسبة للقارئ أن الوسيلة الإعلامية ترسل له رسالة مفادها "يمكنك الاعتماد علينا".

بهذا التسلسل تصبح الغرفة الإخبارية مستعدة لعمل مستقر، أي تحقيق دخل متنوع يحمي التحرير من تقلبات السوق، ونشر محتوى مُبسّط بصرياً يسهّل الفهم ويعزّز الاكتشاف، ويؤدي إلى توزيع ذكي يوسّع المدى من دون إفراغ المعنى بواسطة أدوات حديثة تسرّع وتدعم من دون أن تحلّ محلّ الصحافي، ومعيار ثقة يعلو على كل شيء.

هذه الخطوات لم تعد مجرد شعارات في عوالم بث المعلومات الجديدة، بل باتت طريقة عمل يومية يهدف إلى استعادة المؤسسة الصحافية التقليدية أو الجديدة دورها الطبيعي في إنتاج معرفة يمكن الوثوق بها في زمن سرعة المعلومات وانتشار المضلل منها أو الذي لا يمكن التأكد من مدى صحته.

لهذا فإن الاشتباك الحقيقي ليس بين ورق وشاشة، بل بين سياق و"ترند"، من يوفّق بين سرعة المنصة ووضوح المعنى هو من سيحافظ على جمهوره وإيراداته معاً.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات