Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كتاب الحيوات"... ما يشبه سيرة ذاتية لمارغريت آتوود

صاغته الروائية والشاعرة الكندية حول ذكريات طفولتها بطريقة النثر الدافئ

يتجاوز الكتاب الأحداث المفضية إلى نجاح آتوود الأدبي المدوي ليبرز تركيزها على تكون ملاحظاتها وأفكارها (اندبندنت عربية)

ملخص

تكتب آتوود "كم سمعت في حفلات توقيع الكتب من يقولون: ولكن كتابتك مقبضة للغاية ولم أكن أتوقع أن تكوني بهذا الظرف"، وتعلق على ذلك بأنه "أمر جدير بالتأمل، فأي الذاتين الحقيقية؟ ولم ليستا الاثنتان؟".

"حدث في أواخر الربيع من عام 1956، وكنت في الـ 16 من عمري، وفي السنة قبل الأخيرة من الدراسة الثانوية، أني عبرت ملعب كرة القدم في طريقي إلى البيت غير مفكرة في شيء بعينه، فقد كان اليوم جمعة، وفيه تستثنى الفتيات من ارتداء الزي المدرسي، فكنت أرتدي فستاني المفضل الذي خطته بنفسي، ورديّاً، بلمسة أميرات، قصير الكمين، مكشكش الصدره، مزيّنا بزر ذهبي أنيق (لا أزال أحتفظ بالزر)، لم يكن ذلك بالزي الذي يتوقعه أحد من شاعرة، فالأسود أنسب لكنني لم أكن أعرف ذلك بعد، ولم أكن أصلاً شاعرة حينما استيقظت من نومي في صباح ذلك اليوم، لكنني لم أصل إلى نهاية ملعب كرة القدم إلا وقد صرت شاعرة، صحيح شاعرة رديئة، والقصيدة التي ألفتها في رأسي لم تكن تزيد على أربعة أبيات، لكنني افتتنت بها إلى حد أني خرجت عن المسار الذي كنت فيه، وكان يمضي بي آنذاك في طريق درس الأحياء، وسلكت غيره فأفضى بي بعد منعطفات ومنحنيات وانحرافات إلى الكتاب الذي بين أيديكم الآن".

ذلك زمن آخر تحوك فيه البنات فساتينهن بأنفسهن وتتردد فيه ربات الشعر على ملاعب كرة القدم، وتتنزل فيه على فتاة تعبر الملعب سحائب الإلهام لا المفرقعات أو زجاجات المياه، ذلك زمن كان يمكن أن تستيقظ في صباحه فتاة وهي فتاة، فلا يحل عليها الليل إلا وهي شاعرة، ذلك زمن كان ينشئ بناته تنشئة تجعل إحداهن تكتب بعد قرابة 70 عاماً هذا النثر الجميل الدافئ، الذي صاغت به الروائية والشاعرة الكندية مارغريت آتوود كتابها الصادر حديثا بعنوان "كتاب الحيوات: ما يشبه السيرة".

تكتب آتوود "كم سمعت في حفلات توقيع الكتب من يقولون: ولكن كتابتك مقبضة للغاية، لم أكن أتوقع أن تكوني بهذا الظرف"، وتعلق على ذلك بأنه "أمر جدير بالتأمل، فأي الذاتين الحقيقية؟ ولم ليستا الاثنتان؟".

يرد في عرض كيركوس رفيو للكتاب أنه سيرة نافذة تستكشف أبعاداً عدة من شخصية آتوود المركّبة، "فالطرافة الطاغية في شخصيتها، لا الكآبة، هي التي تحيي لحظات الحياة اليومية البسيطة وأحداث الحياة الكبرى، خالقة من ذلك سرداً آسراً، وطرافة آتوود نافذة في سردها لأولى سنوات حياتها، من استكشافها للمناطق النائية في شمال كيبيك مع والديها المهتمين بالعلوم، فقد كان والدها عالم حشرات ووالدتها اختصاصية تغذية، مروراً بتنقلات الأسرة بين المدن ورحلاتها الدراسية في الكلية ثم مدرسة الدراسات العليا وتطور مسيرتها الأدبية، ورحلاتها المؤثرة إلى كامبريدج وبريطانيا".

ويتجاوز الكتاب الأحداث المفضية إلى نجاح آتوود الأدبي المدوي "ليبرز تركيزها على تكون ملاحظاتها وأفكارها، كاشفاً تطور الكتابة ذاتها بتطور الحياة، فهي تكتب: ‘إنني أتحرك في الزمن، وحينما أكتب يتحرك الزمن داخلي، وكذلك هو حال الجميع‘".

"تستكشف آتوود الصنعة استكشافاً ناصعاً ومفيداً، كأن تكتب عن ’تجربة طالما مررتُ بها، تجربة الشعر إذ يفتح الباب لموضوع، فيفتح الباب في الوقت نفسه للسرد‘، ومثل هذه التحليلات الثاقبة تمتد لتشمل ملاحظات تنحو أكثر إلى الطبيعة الشخصية، إذ تتأمل آتوود علاقاتها داخل وسط الكتابة وعالم النشر، فمن ذلك علاقاتها بالكنديتين مارغريت لورنس وأليس مونرو، وزواجها الباكر بالكاتب الأميركي جيم بولك عام 1968، ثم طلاقهما عام 1973، والأهم على الإطلاق شراكتها الطويلة مع الروائي غرايم جيبسون (حتى وفاته عام 2019) التي رزقا فيها بابنتهما جيس".

"وتتظافر في الفصول الأخيرة تأملات رواياتها الشهيرة التي من شأنها أن ترسم ملامح تركتها الأدبية من قبيل (حكاية الخادمة) و(الاسم المستعار غريس)، فضلاً عن التكريمات والجوائز المرموقة والاقتباسات السينمائية والتلفزيونية التي رسخت مكانتها بوصفها واحدة من أكثر الأصوات تأثيراً في الأدب".

تركز الروائية روكسانا روبنسن في استعراضها للكتاب (واشنطن بوست – الرابع من نوفمبر 2025) على القوة لا الطرافة، شأن استعراض كيركوس رفيو الوجيز، فتبدأ متسائلة "كيف تأتى لمارغريت آتوود أن تكون على هذا القدر العظيم من القوة؟ إن كتابها الجديد يشع بالقوة".

"والقوة فطرة، إما إنها لدى المرء، أو ليست لديه، ولا يعرف أحد أتأتي من الطبع أم من التنشئة، لكن سيرة آتوود تتيح لنا غوصاً عميقاً في التنشئة ودرساً رائعاً لحياة كاتبة، فمنذ أن نشرت كتابها الأول، وكان كتاباً شعرياً، عام 1961، لم تلتفت وراءها، فباتت قائمة أعمالها، وقد تجاوزت 60 عملاً بين السرد والشعر والأعمال غير الأدبية، صفحتين كاملتين في نهاية سيرتها، وقد استوجب إنتاج هذا الكم الغزير الإحساس الفطري بالقوة، والإيمان بأنها على قدر المهمة، فضلاً عن التواضع والطرافة".

في كتابها السيري المؤلف من قرابة 600 صفحة، تستعرض آتوود حياتها طولاً وعرضاً، متناولة شتى مناحيها، الشخصي والأسري والكتابي، مبدية أيضاً "فضولاً تجاه كل فكرة تصادفها، فتسائل النظام الأبوي والأمومي، والهيراركية الأدبية، والحُكم والزواج والموضة والحمية، وكذلك الاقتصاد والفيزياء والبيئة، واليمين واليسار، وما شئتم، فموضوعها الحق هو: كيف يسير العالم؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في إعجاب واضح بسعة نطاق مارغريت آتوود الإبداعي، تكتب روكسانا روبنسون أن معظم الكتاب يفرضون على أنفسهم حدودهم، فالصحافي منهم لا يكتب الشعر في العادة، والروائي قد لا يتصدى للاقتصاد، والكاتب قد لا يكون مخترعاً أيضاً، أما آتوود فتختلف، إذ تكتب في كل نوع أدبي، فحتى قبل ركود عام 2008 كتبت كتاباً غير أدبي عن الدَين، بل إن لها اخترعاً هو (القلم الطويل)، وذلك آلة تتيح للكتاب من خلال التحكم عن بعد أن يوقعوا كتبهم"، وأتذكر شخصياً أن آتوود جرّبت توقيع الكتب باختراعها هذا من بيتها في كندا للقراء في معرض كتاب أقيم قبل أعوام في إحدى دول الخليج، ولكن التجربة فشلت.

غير أنه من الغريب على آتوود بحق، وقد جربت يدها في كثير من الأجناس، أن تتأخر كل هذا التأخير قبل أن تكتب سيرة، وتزداد الغرابة حينما تنبهنا روكسانا روبنسن إلى أن آتودد تقبل على سيرتها بشيء من التردد يتجلى في عنوان الكتاب الفرعي.

تتساءل آتوود عما لو أن القراء ينتظرون منها أن تكتب عن "الإدمان على الكحول والحفلات الماجنة وتعاطي المخدرات والتجاوزات الجنسية الصارخة، واعتبار الكتابة ذاتها منتجاً ثانوياً بزغ أو استخلص من ركام سلوكيات فاضحة"، وليس لدى  آتوود، والعهدة على روبنسون، "مثل هذه القصص في حياتها حتى تحكيها، ولذلك فقد قررت بعد التأني في التفكير أن تسلك في مشروعها مسلكاً آخر رأت أنه سيكون مثمراً: ’بوسعي أن أنطلق في رحلة بحثاً عن ذاتي الداخلية الأصيلة، على فرض أن لشيء من هذا القبيل وجوداً، وفي أقل تقدير يمكنني أن أدرس صور ذاتي العديدة التي تجسدت وتلاشت على مرور الأعوام‘".

تحكي آتوود في الكتاب عن طفولتها فتشير إلى أن "نمط الحياة العتيق الذي كان عليه بيت جديها هو الذي ساعدها في خلق تفاصيل القرن الـ 19 في روايتها (الاسم المستعار غريس)"، ولكن الأمر لا يقتصر على بيت الجدين، فوالدها نفسه لم يكن محض عالم حشرات ولكنه كان يتنقل بأسرته في ريف شمالي كيبك، هارباً من زحف الحضارة، مقيماً بيديه حيثما يحلون أكواخاً وبيوتاً نائية، بينما أفراد أسرته نيام في الخيم، وكان محباً للاعتماد على الذات، وعلى رغم أنه لم يكن بالرجل الفقير، فقد كان يعيش وأسرته في الغالب بلا كهرباء أو مياه جارية، وستعيش آتوود لاحقاً حياة قريبة من هذه الحياة مع ثاني أزواجها.

تحكي آتوود أيضاً "أن أبويها كانا يوفران لأبنائهما نوعاً من الإهمال الحميد، فنعمَ الأبناء بحرية جامحة، غير أن الأسرة انتقلت إلى تورنتو عندما كانت مارغريت في الثامنة"، وتحول أفراد الأسرة على حد قول آتوود من جرذان الريف إلى جرذان المدينة، وفي المدينة قوبلت مارغريت الصغيرة بتنمر من إحدى زميلاتها في الفصل الدراسي أحال حياتها جحيماً، فكان ذلك دافع كتابة روايتها شبه السيرية (عين القطة) "حيث تشارف بطلة الرواية الصغيرة إيلين على الموت بانخفاض حاد في درجة الحرارة بسبب قسوة صديقاتها المزعومات عليها، في وقت لم يع فيه الكبار تقريباً شيئاً مما يجري، فلم يقدموا يد العون، إلى أن تدرك إيلين أخيراً أنها نفسها التي تمتلك القوة اللازمة لإنهاء شقائها".

"تمدنا السيرة بالنسخة الواقعية التي تقترب كثيراً من الرواية، إذ تكتب آتوود: ’يمكنني أن أتذكر بوضوح اللحظة التي انكشفت فيها الخدعة، ابتعدت من طريق المدرسة المعهود، الطريق الذي كانت تستعمله ساندرا وتبتكر فيه عقوبات جديدة لي، ومضيت لألعب مع فتاة أخرى، ونادتني ساندرا: ارجعي فوراً، فلم أرجع حينها ولا بعدها، وقدرت على تجاهلها وقدرت على أن تكون لي حياة مختلفة‘"، تكتب روبنسن أن "هذه لحظة تحرر وانتصار، تستدعي فيها آتوود قوتها".

"تتكرر ثيمة القوة في أعمال آتوود، إذ تستكشف هذه ديناميكية القوة بين الجنسين وبين أفراد الجنس الواحد، وبين الحكومة والفرد، وفي روايتي (عين القطة) و(العروسة اللصة)، تستكشف كيفية عمل هذه الديناميكية بين النساء، إذ تتشابك القوة وتلتف وتختفي وتظهر من جديد وتعيد ابتكار نفسها، والقوة محورية أيضاً في رواية (حكاية الخادمة)، وهي رواية ديستوبية عن الاستبداد" أصبحت العمل الأبرز في منجز آتوود.

من زاوية أخرى غير القوة والطرافة، يكتب دوايت غارنر استعراضه لكتاب الحيوات، "نيويورك تايمز"، الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، محاولاً أن يشبع أو يزيد إثارة فضول قراء آتوود إلى حياتها التي يستعرضها الكتاب طولاً وعرضاً، فيزداد نصوعاً كلما اقتربت آتوود من موضوعين "يتقاطعان تقاطع الدوائر الهندسية"، أما "الأول، والمشرق غالباً، فهو موضوع الطبيعة التي تبدو فيها آتوود أشد حرية وسعادة وحيوية، والثاني هو اهتمامها الراسخ بأوراق التاروت وقراءة الكف وطرد الأرواح الشريرة والأبراج".

ويحاول غارنر أن يسوغ هذا الجانب الخرافي حينما يستشهد قرب نهاية مقالته بأن ماركيز نفسه لم يكن يقيم في بيت إن علم أن أحداً مات فيه وأن كونديرا كان مهتماً ببرجه الفلكي "فليست آتوود فريدة في اهتمامها، بالميتافيزيقي والخرافي".

يكتب غارنر أن "هذا الكتاب يتجاوز كثيراً من السير الأدبية، في كونه وعاء للغضب، والغضب مثير للاهتمام"، ويبدو أن غضب آتوود كان معروفاً للمقربين منها، وكان موضع حذرهم، ففي الكتاب صديق لآتوود يحذر شخصاً بقوله "إياك أن تغضبها وإلا فإنك ستعيش إلى الأبد"، وفي ظني أن هذا من أذكى التعليقات الكاشفة للسيف المسلط على حياة كل من يعيش قرب كاتب روائي بالذات، قادر أن يحرمه نعمة النسيان والستر، بأن يضعه على رغم أنفه في رواية أو قصة تظل تتناقلها الأيدي لزمن بعد وفاته. ويلفت غارنر النظر إلى جوانب غير معروفة كثيراً في حياة آتوود، منها مثلاً أنها كانت في طفولتها، شأن والدتها قبلها، أقرب إلى الصبية، فلم تكن تتلقى قلادات اللؤلؤ في أعياد ميلادها وإنما علب ثقاب معدنية مقاومة للماء أو سكاكين جيدة الصنعة توضع في الأحزمة، "وخلال وظيفة صيفية عملت فيها مستشارة لمخيم، حصلت على لقب بيغي نيتشر (وقد ظل بيغي اسماً شائعاً لمارغريت إلى أن أصبحت كاتبة، فشعرت أنه يفتقر إلى الجدية الواجبة)".

"غير أن لقب بيغي نيتشر (أو بيغي ابنة الطبيعة) للظهور حينما التقت بالرجل الذي سيصبح زوجها الثاني، وكان غرايم جيبسون روائياً ضخم الجثة، مرحاً واجتماعياً وذا وعي سياسي، يطيب له أن يطبخ بوفرة ’وجبات طموحة‘، وأن يعلّم ببغاءه كيف تردد ’وماذا عن العمّال؟‘ وقد توطدت العلاقة بينهما في رحلة بالقارب حتى صارت شديدة العمق".

انتقلت آتوود وجيبسون إلى مزرعة قرب أليستون بولاية أونتاريو فعاشا حياة ريفية حقيقية تكتب عنها آتوود بحس كوميدي حاضر بوضوح في كتاب الحيوات، فقد كان يربيان في المزرعة ابنتهما جيس والبط والأغنام والبقر والنحل، وكانت لديهما فيها حديقة غناء وكلاب كثيرة منها كلب لا يقوى على التحكم في بوله إذا قيل له ’لا‘، وقطة تسير مع آتوود في تمشياتها شأن الكلب، وديك ’قتله الغضب‘، وكبش اضطرا إلى قتله لمهاجمته الناس، وكانت آتوود وزوجها يصنعان البيرة والنبيذ (’وكم انفجرت من زجاجات منتنة الرائحة‘) ويجمّدان بعض المنتجات ويعلّبان بعضها ويجفّفان الفواكه، واكتسبا في المزرعة هواية مراقبة الطيور".

"غير أن ما هيمن على أولى أعوام المزرعة هو غضب زوجة جيبسون الأولى، إذ شعرت أن آتوود دمرت زواجها، فتكتب آتوود أنها ’كانت تنشر عني أكاذيب خبيثة‘، وبوجود هذه الزوجة الغاضبة تضاءلت أهمية مشكلة أخرى هي أن بيتهم كان مسكوناً بروح امرأة ذات فستان أزرق يسترضيانها بطعام يتكونه لها بالخارج".

يقول بليك موريسون (الغارديان، الثالث من نوفمبر الجاري) إن مارغريت آتوود لم تشأ أن تكتب سيرة أدبية بالمعنى المعروف خوفاً من أن يكون ذلك مملاً، فانتهت لا إلى كتابة سيرة وإنما ما يشبه ترجمة ذاتية، فالكتاب ليس شريحة من الحياة وإنما هو الفطيرة كاملة، أي الأعوام الـ85 كلها، وفي حين أن معظم نظرات الكتّاب إلى حياتهم بأثر رجعي غالباً ما تبدو ذات نزعة انتصارية أو تبريرية، فإن نظرت مارغريت آتوود حادة وطريفة ومتعمقة، في كتاب "يمكنك أن تستمتع به حتى لو لم تكن على دراية (ومن هذا الذي ليس على دراية؟) بنتاجها الأدبي المذهل".

العنوان: BOOK OF LIVES: A Memoir of Sorts

تأليف: Margaret Atwood

الناشر: Doubleday

اقرأ المزيد

المزيد من كتب