Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهاتف الذكي يغير قواعد المجتمعات ويفرض ثقافته

دوره في تشكيل التفاعل البشري في القرن الـ21 كان بالغ الأهمية وواسع النطاق

تخطت الأجهزة المحمولة عدد الأشخاص في العالم وفقاً لبيانات عام 2024 (أ ف ب)

ملخص

غيَّرت الهواتف الذكية وبيئتها بصورة جذرية طريقة تفاعلنا وإبداعنا وكتابتنا ومشاهدتنا وروتيننا، إذ إنها أكثر بكثير من مجرد عدسة نراقب من خلالها العالم ونعالجه، حتى إن كثيرين باتوا يرون فيها امتداداً لحواسهم أو دماغاً خارجياً أو حتى جزءاً لا يتجزأ من الكائن البشري

على رغم كونه أخف من رزمة من العملات المعدنية ويشغل مساحة أقل من كتاب ورقي، فإن دور الهاتف الذكي في تشكيل التفاعل البشري في القرن الـ21 كان بالغ الأهمية وواسع النطاق، فإذا تخيلنا عالمنا اليوم بلا هواتف ذكية ألا يبدو صعباً ومربكاً؟ إذ إن التغيرات التي أحدثتها الهواتف الذكية من تواصل فوري عبر القارات ومعلومات لا حصر لها في متناول أيدينا وأشكال جديدة من الترفيه والتفاعل الاجتماعي، لم تظهر من فراغ إنما أثرت في كيفية تواصلنا وعملنا وتعلمنا، بل وحتى استرخائنا.

لمحة تاريخية

منذ إجراء أول مكالمة هاتفية محمولة عام 1973 تطورت التكنولوجيا إلى مكان استطاعت فيه تغيير كل جانب من جوانب حياتنا تقريباً، حيث تحولت الأجهزة المحمولة من كونها شيئاً حصرياً ومتاحاً لعدد قليل جداً من الأشخاص بسبب كلفتها العالية، إلى حقيقة مفادها أنه توجد حالياً أجهزة محمولة أكثر من عدد الأشخاص في العالم، وفقاً لبيانات عام 2024.

إن عصر الهواتف المحمولة بدأ في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بأجهزة مثل "موتورولا داينا تاك 8000X"، أحد أوائل الهواتف المحمولة التجارية، وكانت هذه الهواتف الأولى كبيرة الحجم وثقيلة الوزن واستخدمت بصورة أساسية للاتصالات الصوتية، وعرفت آنذاك بثمنها الباهظ وعمر بطاريتها المحدود، واستخدمت بصورة أساسية من قبل رجال الأعمال. وبحلول تسعينيات القرن الـ20 طرحت شبكات الجيل الثاني التي أتاحت الاتصال الرقمي وإرسال الرسائل النصية القصيرة، وقد مثل هذا أول تحول في كيفية استخدام الناس للهواتف المحمولة، مما جعل الاتصال أسرع وأكثر كفاءة وسهولة.

أما أحدث طرح فهو الهواتف الذكية في العقد الأول من القرن الـ21، فقد كان نقلة نوعية في عالم الهواتف المحمولة، وكان من أبرز إنجازاته إطلاق هاتف "بلاك بيري" عام 1999، وهو الجهاز الذي قدم خدمة البريد الإلكتروني، ممهداً بذلك الطريق نحو الإنتاجية من خلال الهاتف المحمول، إلا أن الثورة الحقيقية جاءت عام 2007 عندما أطلقت شركة "آبل" أول هاتف آيفون، وقد أعاد هذا الجهاز بشاشته الكبيرة التي تعمل باللمس وواجهته التفاعلية السهلة وإمكان الوصول إلى الإنترنت والتطبيقات والوسائط المتعددة، تعريف إمكانات الهاتف المحمول.

وأحدث هاتف "آيفون"، الذي تلته هواتف "أندرويد" الذكية ثورة في عالم الاتصالات، إذ جعل الأجهزة أكثر من مجرد هواتف، فقد أصبحت أجهزة كمبيوتر صغيرة وقادرة على إرسال رسائل البريد الإلكتروني وتصفح الإنترنت وبث الوسائط وتشغيل عديد من التطبيقات، كما جعلت شبكات الجيل الثالث (3G) والرابع (4G) الإنترنت عبر الهاتف المحمول أسرع وأكثر موثوقية، مما زاد من انتشار الهواتف الذكية. ومع مرور الوقت دمجت في هذه الأجهزة ميزات مثل الكاميرات عالية الجودة ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وتقنية الاتصال قريب المدى (NFC) للدفع من دون لمس.

العالم الافتراضي يغير واقع العلاقات

كثيراً ما كان السلوك البشري والأنماط الاجتماعية موضوعين للبحث العلمي، فقد أوجدت التطورات التكنولوجية الحديثة عالماً افتراضياً وفضاءً رقمياً عالمياً مهد لنوع جديد من العلاقة بين الناس وأجهزتهم، وهي علاقة تطمس الحدود الفاصلة بين الوجود المادي والانغماس الرقمي. ولمعرفة أعمق فقد أمضى فريق من 11 عالم أنثروبولوجيا من كلية لندن الجامعية 16 شهراً في إجراء أبحاث ميدانية في 10 دول في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا الجنوبية، وكان هدفهم مراقبة وتحليل كيفية استخدام الناس للهواتف الذكية، إضافة إلى كشف طبيعة العلاقة بين الإنسان والهاتف الذكي باستخدام مناهج إثنوغرافي، أي دراسة منهجية للناس والثقافة.

وتوصلت الدراسة إلى نتيجة لافتة، إذ بينت أن الهاتف الذكي أصبح بمثابة منزل متنقل، أي بتعبير آخر هو عبارة عن مساحة نعيش فيها ونحملها في جيوبنا، كما أظهرت أن الطرق المتنوعة التي يتفاعل بها الناس مع هواتفهم تعكس رابطاً حميمياً وفريداً. ووفق باحثين غالباً ما يقارن تعلق الناس بهواتفهم الذكية بمشاعرهم تجاه منازلهم، حتى أصبح الناس اليوم أشبه بحلزون بشري يحمل منزله في جيبه.

ففي العصر الحديث أصبحنا نعيش في عالم لم يعد فيه الهاتف الذكي مجرد أداة، بل صار جزءاً لا يتجزأ من وجودنا ومنزلاً جديداً يرافقنا ويشكل هويتنا ويعيد تعريف تجربتنا المعيشية، وذلك كما وصفه البروفيسور دانيال ميلر الذي أعد الدراسة قائلاً "لم يعد الهاتف الذكي مجرد جهاز نستخدمه، بل أصبح المكان الذي نعيش فيه".

إن هذا الموطن الافتراضي أصبح مساحة تشكل حياتنا العاطفية والمعرفية والاجتماعية، فهو يؤثر كذلك في طريقة تفكيرنا ومشاعرنا وتفاعلنا مع الآخرين، كما تغيرت العلاقات الإنسانية وشعورنا بالمكان جذرياً بفعل هيمنة الهواتف الذكية، ومعها تغيرت طبيعة التفاعل الاجتماعي، مما أدى إلى ظهور مفهوم زوال القرب نتيجة طبيعية لزوال المسافة، فبينما قد يجلس شخص ما بين الآخرين جسدياً، إلا أنه قد يكون غائباً عاطفياً واجتماعياً ومنغمساً في عالمه الرقمي، مما يخلق لحظات من الانقطاع قد تكون محبطة أو حتى مؤذية لمن حوله، لذا يصف البروفيسور ميلر الجانب السلبي للعلاقات الإنسانية في ظل الهواتف الذكية فيقول، إنه "في أي لحظة، سواء أثناء تناول وجبة طعام أو اجتماع أو أي نشاط مشترك آخر، قد يختفي الشخص الذي نلتقي به فجأة، بعدما يكون قد عاد إلى منزله مع هاتفه الذكي".

فوائد وأثمان

لقد غيرت الهواتف الذكية وبيئتها بصورة جذرية طريقة تفاعلنا وإبداعنا وكتابتنا ومشاهدتنا وروتيننا، إذ إنها أكثر بكثير من مجرد عدسة نراقب من خلالها العالم ونعالجه، حتى إن كثيرين باتوا يرون فيها امتداداً لحواسهم أو دماغاً خارجياً أو حتى جزءاً لا يتجزأ من الكائن البشري، فنحن نعتمد على هذه الأجهزة بصورة متزايدة عندما نريد تذكر شيء ما أو تسجيل ذكرياتنا واسترجاعها، مما يجعلها لا غنى عنها تقريباً. وبينما كانت الهواتف تعد في السابق مجرد وسيلة تواصل اجتماعي أو ترفيه، أصبحت من أدوات الحياة اليومية، مثلما كان الفأس الحجري قبل أكثر من مليون عام، ففي الماضي كنا نستخدم فأساً حجرياً لتأمين عشائنا، أما اليوم فنستخدم هواتفنا لتأمين ودفع ثمن عشائنا.

لا شك أن تكنولوجيا الهواتف الذكية قد جلبت فوائد جمة للمجتمع، مثل تمكين ملايين الأشخاص الذين يفتقرون إلى إمكان الوصول إلى البنوك من إجراء معاملاتهم المالية، أو تمكين عمال الإنقاذ في مناطق الكوارث من تحديد الأماكن الأكثر حاجة إلى المساعدة بدقة، كما تتوفر تطبيقات لمستخدمي الهواتف الذكية لمراقبة مسافة مشيهم خلال النهار ونومهم ليلاً، إضافة لظهور تطبيقات جديدة لهذه التكنولوجيا بصورة يومية تقريباً.

مع ذلك يبدو أن هذه الفوائد قد أتت بثمن باهظ على حياتنا العقلية والاجتماعية، فالاتصال الدائم والوصول إلى المعلومات الذي توفره الهواتف الذكية جعلها أشبه بدواء لمئات الملايين من المستخدمين. لذا بدأ العلماء أخيراً بدراسة هذه الظاهرة، ووصلوا لنتائج تبرهن أننا نصبح أكثر تشتتاً ونقضي وقتاً أقل في العالم الواقعي وننجذب أكثر إلى العالم الافتراضي، وعليه فإن تأثيرها فينا يبدو واضحاً وجلياً في عاداتنا وسلوكياتنا اليومية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مخرج مشتت

إن استخدامنا للهواتف الذكية كذلك قد غير جغرافية عقولنا، مما أدى إلى إنشاء مخرج مشتت لكل فكرة قد تخطر ببالنا. وعن هذا يقول لاري روزن أستاذ علم النفس الفخري في جامعة ولاية كاليفورنيا بدومينغيز هيلز والمؤلف المشارك لكتاب "العقل المشتت أدمغة قديمة في عالم التكنولوجيا الفائقة"، "ما رأيته في الأعوام الستة إلى الثمانية الماضية هو تحول جذري في النموذج، فقد تحول جزء كبير من موارد الانتباه التي خصصناها لنظامنا البيئي الشخصي إلى ما هو افتراضي، وهذا يعني أننا لا ننتبه لما هو أمامنا".

وفي هذا السياق ذهب الباحثون لتوثيق تأثير الهواتف الذكية على قدرتنا على التركيز، وفي إحدى الدراسات كلف أدريان وارد عالم النفس في جامعة تكساس في أوستن وزملاؤه الذين كانوا مسؤولين عن 800 مشارك بمهمتين ذهنيتين صعبتين، وهما حل مسألة رياضية مع حفظ تسلسل عشوائي من الحروف واختيار صورة من بين خيارات قليلة لإكمال نمط بصري، وخلال هذه الدراسة طلب من بعض المشاركين ترك هواتفهم الذكية في غرفة أخرى، بينما سمح للآخرين بإبقائها في جيوبهم، واحتفظ آخرون بهواتفهم على مكتب أمامهم. وعلى رغم أن الهواتف لم تلعب أي دور في المهام، إلا أن سهولة الوصول إليها كان له تأثير في مدى قدرة المشاركين على أداء مهامهم. إذ كان أداء أولئك الذين تركوا هواتفهم في غرفة أخرى هو الأفضل، أما أولئك الذين وضعوا الهواتف أمامهم فكان أداؤهم الأسوأ، ولكن حتى أولئك الذين وضعوا هواتفهم في جيوبهم وجد أن قدرتهم الإدراكية قد انخفضت.

الإشارات الاجتماعية

وبالنسبة إلى العلماء فليس من الصعب فهم سبب صعوبة التخلي عن هواتفنا حتى أثناء تناول الطعام، ويوضح إيثان كروس عالم النفس في جامعة ميشيغان في آن أربور قائلاً "من المعروف أنه إذا أردت إبقاء شخص منشغلاً بشيء ما، فامنحه مكافأة في أوقات مختلفة، واتضح أن هذا بالضبط ما يفعله البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي، فأنت لا تعرف متى ستحصل على إعجاب آخر أو ستتلقى رسالتك التالية، ولذلك نستمر في التحقق من هواتفنا".

وبغض النظر عن الطرق المكررة لاستخدامنا الهواتف الذكية، فإن الأهم من أي تقنية هو تأثيرها في الثقافة. فقد أصبح أول هاتف "آيفون"، أكثر من أي شيء آخر، رمزاً للمكانة الاجتماعية، إذ إن العلامة التجارية الوحيدة التي قاربت "الآيفون" من حيث المكانة الاجتماعية هي "سامسونغ"، وعلى رغم أن أجهزة "أندرويد" تتمتع بأكبر حصة سوقية، فإن أياً منها لم يُضاهِ "الآيفون" كرمز للمكانة الاجتماعية. وعليه يقول الباحثون إن سبب امتلاك "آبل" لأجهزة Pro وPro Max لا علاقة له بقدرات الجهاز، بل يتعلق كلياً بالإشارات الاجتماعية، وهي هنا وجود ثلاث عدسات كاميرا في الخلف. وفي السياق الاجتماعي والثقافي، كثيراً ما نضع هواتفنا اليوم في مناسبات اجتماعية كالغداء أو العشاء، ووجهها لأسفل، وهذا للإشارة إلى أننا نركز على تفاعلنا الاجتماعي في الحياة الواقعية وليس على هواتفنا.

آداب الاستخدام

منذ ظهور الهواتف المحمولة وحتى الآن، كل شيء يعتمد على الإشارات الاجتماعية وعلى تقلب القواعد الخاصة بالسلوكيات والأعراف. وعلى رغم صعوبة تحديد أول بحث تناول آداب استخدام الهاتف المحمول، فإن هذا الموضوع أصبح أكثر شيوعاً في أوائل الألفية الثانية، قبيل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. ومن خلال المقالات في المجلات والصحف والإذاعات والمواقع الإلكترونية والبرامج التلفزيونية، بدأت الثقافة ترسي القواعد التي تميزت بالمرونة والقابلية للتكيف إلى حد كبير، لكن الأعراف والتقاليد الاجتماعية لم تكن قد دخلت حيز التنفيذ بالكامل.

ومع مرور الوقت أصبح وضع الهاتف ووجهه لأسفل أو وضعه في المحفظة أو حقيبة اليد أو الجيب أثناء القيام بالواجبات الاجتماعية أمراً شائعاً، كما أن استخدام الهاتف الذكي أثناء الوقوف في طابور أصبح أمراً مقبولاً، لا بل أصبحنا نتساءل ماذا كنا نفعل سابقاً خلال هذا الوقت؟ فاليوم هناك مصطلح "التجاهل الهاتفي"، حيث نتجاهل عمداً شخصاً أمامنا وننظر إلى هاتفنا، كما أصبح من الشائع أن الأشخاص الذين يستخدمون نغمات رنين عالية، وبخاصة تلك النغمات الغريبة، يتعرضون اليوم للتحديق.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات